حرب غزة والاتفاق السعودي– الأميركي

الرياض تسعى لوضع القضية الفلسطينية أولوية في أي مفاوضات

Nash Weerasekera
Nash Weerasekera

حرب غزة والاتفاق السعودي– الأميركي

الرياض- يمثل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 نقطة تحول في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، حين شنت "حماس" هجمات على الحدود الشرقية لقطاع غزة، بدت في صالحها، قبل أن يرد الإسرائيليون بقصف تدميري للقطاع. وعلى الرغم من الموقف غير المتعاطف الذي يتبناه كثير من الحكومات العربية تجاه "حماس"، فإن العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين والذي يعكس الاستراتيجية الانتقامية الشرسة التي تنتهجها إسرائيل، يجعل من الصعب على الحكومات العربية مواصلة العمل على أي اتفاق محتمل عاجل مع الدولة العبرية.

منذ بدء الحرب في غزة، خلصت معظم وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية إلى استنتاج مفاده أن توقيت "حماس" لعمليتها يهدف إلى تعقيد أو إجهاض أي اتفاق بين السعودية وأميركا يتضمن جوانب استراتيجية للرياض وإنجازا في القضية الفلسطينية و"تطبيعا" محتملا مع إسرائيل. وقد كان الإسرائيليون متحمسين لعقد اتفاق تطبيع.

تاريخ تطبيع المسلمين مع إسرائيل

في حال حدوثه، فإن التطبيع مع المملكة العربية السعودية سيكون نقطة تحولٍ رئيسة في تاريخ إسرائيل منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979. حيث إن الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة يُعد من المحرمات عند معظم الدول العربية والإسلامية. لكن هذا لا يعني أن الدول الإسلامية جميعها تتبنى هذا الموقف؛ فعلى سبيل المثال، اعترفت تركيا بدولة إسرائيل في 28 مارس/آذار 1949، وأرسلت بعثتها الدبلوماسية إلى تل أبيب في يناير/كانون الثاني 1950. كما اعترفت إيران بدولة إسرائيل في 14 مارس/آذار 1950. وقتها، كانت تركيا وإيران أقوى الدول ذات الغالبية المسلمة. غير أن إسرائيل كانت تتطلع لاعتراف سياسي من دولة عربية كبرى، وذلك ما حدث في 26 مارس/آذار 1979، عندما وقّع كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على كامب ديفيد التي رعاها الرئيس جيمي كارتر.

وكما هو الحال عند اليهود والمسيحيين، فإن القدس المحتلة مدينة مقدسة عند المسلمين. بالرغم من ذلك، فإن قضية فلسطين يتم تداولها بوصفها قضية عربية أكثر من كونها قضية إسلامية. وثمة عدة حقائق تكمن خلف وضع الهوية الإثنية كأولوية تسبق الهوية الدينية للقضية. لقد أطلق العرب مصطلح "النكبة" لوصف قيام دولة إسرائيل عام 1948، الذي يعتبرونه كارثة حقيقية؛ إذ شردت الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي حديث النشأة آنذاك العرب (الفلسطينيين، المسلمين والمسيحيين) من ديارهم بشكل لا يمكن محوه من الذاكرة العربية. وعلى أثر عمليات التهجير الوحشية، اندلعت الحرب في محاولة من الدول العربية المجاورة مساعدة الفلسطينيين في استعادة أراضيهم؛ لكن الحرب انتهت بتمكن إسرائيل من التصدي للدول العربية وفرض الأمر الواقع بوجود الدولة العبرية بين الدول العربية.

كان للخطوة المصرية في التطبيع مع إسرائيل نتائج وخيمة؛ فقد عُلقت عضوية مصر في جامعة الدول العربية لمدة 10 سنوات، وفي الداخل المصري، تم اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر/تشرين الأول 1981

وبعد سنوات قليلة من النكبة، برز الخطاب القومي العربي بقيادة جمال عبدالناصر الذي اتخذ من قضية فلسطين شعارا رئيسا لمشروع الوحدة العربية الذي كان ينادي به. لقد أضفى خطاب عبدالناصر البعد القومي (أي العربي) على القضية الفلسطينية. وبالتالي، تحول الصراع في فلسطين إلى قومي بين العرب واليهود بدلا من كونه صراعا دينيا بين المسلمين واليهود. ولعل ذلك ما يفسر ردة الفعل العربية القاسية تجاه المعاهدة التي وقعتها مصر مع إسرائيل، مقارنة بالموقف الذي أبدته تجاه تركيا وإيران الملكية، حيث لم تقاطعهما الدول العربية.

في الفترة المصاحبة لمعاهدة كامب ديفيد، تصاعد المد الإسلامي الذي صاحب "الثورة" في إيران عام 1979. وقتها، بدأ "الإسلاميون" في استخدام شعارات "تحرير فلسطين والمسجد الأقصى"، كأبرز شعارات التعبئة الجماهيرية لديهم. ولعل هذا ما يفسر التحولات في النخبة الفلسطينية، حيث كانت تسود القيادة اليسارية (منظمة التحرير) والتي تراجعت شعبيتها بين الفلسطينيين لصالح الفصائل الإسلامية، والتي أكدت على الهوية الإسلامية للقضية الفلسطينية. نستذكر في هذا الصدد كون غالبية الشخصيات الإسلامية ترفض وتستنكر اعتبار فلسطين قضية عربية خالصة، وتصر على إسلامية القضية ومحورية قدسية المسجد الأقصى.

لقد كان للخطوة المصرية في التطبيع مع إسرائيل نتائج وخيمة؛ فقد عُلقت عضوية مصر في جامعة الدول العربية لمدة 10 سنوات، من عام 1979 إلى عام 1989. وفي الداخل المصري، تم اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر/تشرين الأول 1981. ومنذ ذلك التاريخ، ينقسم الموقف العربي تجاه إسرائيل وكيفية التعامل معها كأمر واقع، حيث كان بعض السياسيين العرب يهدفون إلى وضع خطة تحظى بالإجماع العربي بخصوص مستقبل المنطقة في ظل وجود إسرائيل.

بتسارع الأحداث نهاية القرن الماضي، طرأ تغيير كبير في المشهد عندما وقّع الفلسطينيون مع الإسرائيليين على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول 1993. وتبع ذلك معاهدة السلام الإسرائيلية- الأردنية التي أُبرمت في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1994. غير أن الأمور تدهورت في ظل التوترات التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين على يد المتطرف اليهودي اليميني إيجال عامير في نوفمبر/تشرين الثاني 1995.

المملكة لا ترغب في أن تكون جزءا من "اتفاقات أبراهام". ويرجع ذلك لإدراك ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان تماما أهمية وثقل بلاده الذي يعني الكثير للإسرائيليين الذين يتوقون للتوصل لاتفاق مع دولة بحجم السعودية

خطط السلام العربية 


يمكن النظر للمملكة العربية السعودية بوصفها رائدة في مجال الخطط العربية الشاملة للسلام مع إسرائيل؛ ففي 7 أغسطس/آب 1981، أعلن الملك فهد بن عبدالعزيز (كان وقتها وليا للعهد) خطة للسلام في الشرق الأوسط. وتضمنت الخطة ثمانية مقترحات بعنوان "مبادئ السلام". ولخصت هذه المقترحات قرار الأمم المتحدة رقم 242، والذي يتضمن: حل الدولتين (على أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية)، والتأكيد على حق الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم مع منح تعويض لأولئك الذين يختارون طوعيا عدم العودة. وقد رفضت إسرائيل بشدة هذه الخطة ووصفتها بأنها مخطط للإجهاز على إسرائيل في نهاية المطاف.
وفي وقت لاحق، أطلق الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة أخرى في مؤتمر قمة جامعة الدول العربية الذي عُقد في بيروت يوم 28 مارس/آذار 2002. وجاء الإعلان عن خطة سلام شاملة قبل شهر من زيارة توماس فريدمان للرياض ولقائه الملك عبدالله (كان وقتها وليا للعهد) الذي نشر الخبر معه. وطرح فريدمان فكرة السلام، فنظر إليه ولي العهد- حسب قوله، وقال: "هل اقتحمتَ مكتبي؟". غير أن المبادرة العربية قوبلت برفض إسرائيلي قاطع مرده لكون المبادرة تستند إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194 والذي يؤكد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم.
بعد رفض إسرائيل تلك المبادرات، ظهر جليا أن فكرة طرح سلام شامل بين العرب وإسرائيل غير قابلة للتطبيق. إن الواضح كون إسرائيل تُفضل عقد اتفاقات ثنائية منفصلة مع كل دولة عربية. إن وجهة النظر الإسرائيلية واضحة، فهي لا تريد أن يحصل اتفاق عربي- عبري، لأن من شأن ذلك أن يضع إسرائيل في موقف ضعيف كونها تقف منفردة أمام تكتل دول الجامعة العربية. من الواضح أن الموقف الإسرائيلي يتسق مع سياستها طويلة المدى والتي تتمثل في الثبات على أساس التعامل مع الدول المجاورة بوصفها دولا منفردة، وليس كتكتل إقليمي. إن استراتيجية العلاقات الثنائية مع الدول العربية أكثر ملاءمة لإسرائيل التي تريد الاستفادة من تفوقها العسكري وقدراتها الاقتصادية التي تدعمها الولايات المتحدة بسخاء.
وبالنظر إلى "اتفاقات أبراهام" الثنائية التي وقعتها إسرائيل مع كلٍ من الإمارات العربية المتحدة، والبحرين في 15 سبتمبر/أيلول 2022، ثم مع السودان في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وأخيرا التوقيع مع المغرب في 10 ديسمبر/كانون الأول 2022، فإنها قد وُقعت بشكل منفصل. هذه النقطة تجعل تلك الاتفاقات ثنائية بين إسرائيل وكل من الدول العربية المعنية في معاهدات لا تلزم إلا الأطراف التي وقعت على كل اتفاق على حدة، دون النظر للاتفاقات الأخرى التي تشكل إسرائيل القاسم المشترك الوحيد فيها.
على الجانب السعودي، فإن المملكة لا ترغب في أن تكون جزءا من "اتفاقات أبراهام". يرجع ذلك لإدراك ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان تماما أهمية وثقل بلاده الذي يعني الكثير للإسرائيليين الذين يتوقون للتوصل لاتفاق مع دولة بحجم السعودية. يُضاف إلى ذلك مجموعة من الحسابات المعقدة والأكثر أهمية بالنسبة للجانب السعودي في حال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهي حسابات تفوق حسابات الإمارات والبحرين. ولهذا السبب، لم يتطرق الجانب السعودي مطلقا لعبارة "اتفاق أبراهام" في مناقشاته التي جرت حول التطبيع مع إسرائيل. ومن الواضح أن السعودية تهدف إلى حماية المكانة المحورية لها من المساس بها باتفاقات لم تنخرط المملكة فيها. لذلك تفضل أن تبدأ المحادثات من الصفر ولا تنبني على اتفاقات مع دول أخرى مهما كانت قوة ارتباط السعودية بها. وقبل التعمق في مسألة إمكانية التطبيع السعودي مع إسرائيل، لا بد من أخذ لمحة عن السياق الذي بني عليه المبدأ السعودي في التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي خلال النصف الأول من القرن العشرين؛ هذا السياق سيسهل على القارئ فهم الدور السعودي في الصراع.
 

قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كانت وسائل الإعلام الغربية التي غطت أحداث المنطقة تصف موقف الحكومة السعودية بأنه يصر على "الحق العربي" في فلسطين

لماذا السعودية؟


بالنظر إلى مكانتها الريادية في العالمين العربي والإسلامي، فإن المتوقع من المملكة العربية السعودية أن توازن بين المحافظة على مصالحها الاستراتيجية المتمثلة في الشراكة مع الولايات المتحدة من ناحية، وأن تفي بالتزاماتها القيادية على المستويين العربي والإسلامي من ناحية أخرى. جدير بالذكر أنه قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كانت وسائل الإعلام الغربية التي غطت أحداث المنطقة تصف موقف الحكومة السعودية بأنه يصر على "الحق العربي" في فلسطين. وعلى سبيل المثال، ذكرت صحيفة "التايمز" الصادرة في 8 سبتمبر/أيلول 1936 أن "مَلِكَ المملكة العربية السعودية عرض تسخير جهازه الحكومي في سبيل التنسيق مع الحكام العرب الآخرين، في حال كان من الممكن تأمين تعاونهم". ولم تمنع هذه اللغة الدبلوماسية المملكة العربية السعودية من إدانة موضوع بناء المستوطنات اليهودية في فلسطين ("التايمز"- 22 يونيو/حزيران 1943). بل ذهب الموقف السعودي إلى أبعد من ذلك عندما تحدت المملكة قرار الأمم المتحدة بشأن الصراع الفلسطيني اليهودي (راجع كتاب عبدالله فيصل آل ربح (2023) المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو أميركية: تغطية المملكة خلال القرن العشرين. تايلور وفرانسيس. ص 89). في هذا السياق، يتجدد دائما السؤال الذي أُثيرَ في عام 1940 حول استخدام حظر النفط كوسيلة لدعم الفلسطينيين ضد المواقف البريطانية والأميركية الداعمة لليهود– الإسرائيليين. نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" تعليقا بتاريخ 13 يوليو/تموز 1948 قال فيه الملك عبدالعزيز: "لقد قلت يا أخي إنني مستعد للتضحية بنفسي وأبنائي من أجل فلسطين. وأقول مرة أخرى: النفط ليس أغلى من أبنائي. أنا مستعد لإلغاء الامتيازات النفطية إذا كان ذلك يخدم القضية".

Nash Weerasekera

يمثل الموقف السعودي تجاه فلسطين جزءا من سياستها الإقليمية الاستراتيجية الدائمة. وبالعودة إلى 14 فبراير/شباط 1945، فقد التقى الملك عبدالعزيز، مؤسس المملكة العربية السعودية، بالرئيس فرانكلين روزفلت على متن السفينة "يو إس إس كوينسي" في البحيرات المُرة الكبرى قرب قناة السويس بمصر. كان لدى روزفلت هدفان من لقاء الملك عبدالعزيز: الأول هو الدافع السياسي للوصول إلى حل قاطع للمشكلة الفلسطينية- اليهودية، والدافع الآخر اقتصادي يتمثل في التوصل إلى علاقة استراتيجية أميركية- سعودية تتناسب مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية، والتي تضمن تدفق النفط السعودي للولايات المتحدة. وعلى الرغم من السردية الإيجابية التي يتبناها كلٌ من السعوديين والأميركيين حول هذا الاجتماع، فإن جوهر النقاش كان يهيمن عليه الاختلاف حول مستقبل أرض فلسطين؛ ففي حين دافع روزفلت عن إقامة دولة يهودية، احتج الملك عبدالعزيز بن سعود على ذلك معللا موقفه بأنه يتوجب على اليهود أن يقيموا دولتهم في مكان آخر.

اتفاقات ابن سعود– روزفلت دخلت حيز المراجعة في مرحلة ما بعد عام 2016 في ظل التوتر الذي قادته الإدارتان الأخيرتان في واشنطن (إدارتا ترمب، ثم بايدن)

الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت 


بدأت الاتصالات المتعلقة بقضية فلسطين بين الملك عبدالعزيز بن سعود وفرانكلين روزفلت قبل سنوات من الاجتماع الذي عُقد على متن "يو إس إس كوينسي" عام 1945. ونشرت وزارة الخارجية الأميركية عدة رسائل بعث بها الملك عبدالعزيز إلى روزفلت بين عامي 1938 و1943 يطالب فيها بحقوق الفلسطينيين في الاحتفاظ بأرضهم، وإدانة السياسة القائمة على توسيع المستوطنات اليهودية في فلسطين.
لقد مثل هذا الاجتماع نقطة تحول في الوجود الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ شجع الاجتماع المملكة العربية السعودية على تحويل تحالفها الرئيس من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة. لقد كان الهدف من لقاء الملك عبدالعزيز مع فرانكلين روزفلت يتمثل في رسم أجندة التحالف السياسي والنفطي في العلاقة بين البلدين، والتي لا تزال قائمة حتى الآن. ومن الجدير بالذكر أن اتفاقات ابن سعود– روزفلت دخلت حيز المراجعة في مرحلة ما بعد عام 2016 في ظل التوتر الذي قادته الإدارتان الأخيرتان في واشنطن (إدارتا ترمب، ثم بايدن). تضمنت مراجعات الجانبين الأجندة النفطية والعسكرية، حيث تسعى كل من واشنطن والرياض إلى تحقيق الحد الأعلى لمصلحة أجندتهما الوطنية. وفي كل الأحوال، بقيت القضية الفلسطينية موضوعا تُعاد مراجعته بجدية بعد ما يقرب من سبعة عقود على لقاء الملك عبدالعزيز وروزفلت.
عند الحديث عن الصعوبة البالغة والتحديات التي تواجه المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بمسألة التوصل إلى تسوية شاملة مع إسرائيل، ثمة واقع تاريخي للمملكة يُضاف إلى مكانتها الروحية كموطن للحرمين الشريفين (مكة والمدينة). فالملك السعودي يُلقب رسميا بخادم الحرمين الشريفين، بينما الحرم الثالث هو المسجد الأقصى الذي يقع في القدس. ولعل هذا ما يفسر الإصرار السعودي على ضمان الحقوق الفلسطينية قبل توقيع المملكة على أي اتفاق دبلوماسي مع إسرائيل.

يسعى الإسرائيليون إلى التوصل لاتفاق ثنائي مع السعودية تحت عنوان "مصلحة البلدين" دون إشراك طرف ثالث في أي اتفاق محتمل (أي الفلسطينيين)

سياسة السعودية تجاه الصراع


في 20 سبتمبر/أيلول 2023، أجرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مقابلة مع شبكة "فوكس نيوز"، ناقش فيها مواضيع مختلفة، بما في ذلك سياسته تجاه إسرائيل. وكانت إجابته المختصرة هي أن احتمالات تطبيع العلاقات بين البلدين "تقترب" كل يوم. ومع ذلك، ظلت مسألة التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين قضية "مهمة جدا" يجب حلها بالنسبة للسعوديين. وهذا ما يدفعنا للقول إن الإصرار على ضمان حقوق الفلسطينيين كشرط للتطبيع مع إسرائيل، ليس مجرد مطلب هامشي لمسألة خارج حدود المملكة. وكما ذكرنا سلفا، فإن الرياض على دراية تامة بثقل وزنها الإقليمي.
خلال المحادثات الأخيرة التي دارت بين الزعيمين حول حرب غزة في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أبلغ الأمير محمد بن سلمان الرئيس بايدن بأنه "لا بديل عن العودة لمسار السلام من أجل ضمان حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة ومن أجل تحقيق السلام العادل والشامل". وبالإشارة إلى الصفقة المتوقعة، أصر الأمير محمد بن سلمان على تضمين الموضوع الفلسطيني كجزء من خطة السلام.
أما على الجانب الفلسطيني، فإن الممثل الرسمي للفلسطينيين السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله والتي تربطها علاقة جيدة بالرياض. ومن الواضح أن السلطة الفلسطينية ما زالت ترغب في متابعة مساعيها لإقامة دولة مستقلة عن طريق التفاوض مع الإسرائيليين. ولأن السعودية تتعامل مع الممثل المعترف به دوليا، فقد كان من أوائل ما قام به الأمير محمد بن سلمان عند اندلاع أحداث غزة أن أجرى اتصالا هاتفيا مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس؛ حيث بحث عباس مع الأمير محمد بن سلمان التصعيد العسكري في قطاع غزة والأراضي المحتلة، وأطلعه على تفاقم الأوضاع التي تشكل خطرا على حياة المدنيين وأمن واستقرار المنطقة. وبالتالي، فإن واشنطن في مساعي وساطتها في المحادثات السعودية- الإسرائيلية مهتمة بإدراج "المكون الفلسطيني المهم" في المفاوضات في سبيل الوصول لإقناع المملكة العربية السعودية بصيغة تقبلها السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
مبدئيا، فإن السلطة في رام الله تتبنى موقفا إيجابيا تجاه السلام مع إسرائيل مقابل الاعتراف المتبادل. وإذا نجحت السعودية في الضغط للاعتراف بفلسطين كدولة على أساس اتفاق أوسلو، فإن دورها سيحفر في التاريخ بكونها قد قامت بحل جزء كبير من الصراع العربي- الإسرائيلي. غير أن العائق الأكبر أمام ذلك هو الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي لا يدعم حل الدولتين.
تكمن قوة الموقف الإسرائيلي في إصراره على أسلوب المفاوضات الثنائية مع الدول العربية بشكل منفصل. ويسعى الإسرائيليون إلى التوصل لاتفاق ثنائي مع السعودية تحت عنوان "مصلحة البلدين" دون إشراك طرف ثالث في أي اتفاق محتمل (أي الفلسطينيين). وقد يُقدم الإسرائيليون بعض الوعود الشفهية وبلغة مواربة تحمي طموحاتهم. وفي المقابل، يرغب السعوديون في التنسيق مع الفلسطينيين حول أي وعود إسرائيلية في المفاوضات من أجل الحفاظ على سلامة موقفهم في حال نشوب أي توتر مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
يسعى الأمير محمد بن سلمان للحصول على أعلى سقف من الممكن أن يصل إليه من الاتفاق مع الولايات المتحدة وليس إسرائيل التي ليس لديها الكثير لتقدمه للرياض. وعليه، تهدف الرياض إلى فرض شروطها على واشنطن- وليس على تل أبيب- للحصول على المزيد من الضمانات الأمنية التي تشمل الأسلحة المتقدمة والتكنولوجيا العسكرية الأميركية. وفي حال تمكنت من تحقيق تلك الأهداف، فإن السعودية ستحصل على صفقات عسكرية لم تحصل عليها في تاريخها كله.
ثمة حقيقة لا بد من التوقف عندها تتلخص في أن انخراط السعودية في مفاوضات مع إسرائيل لا يضمن التوصل إلى اتفاق نهائي. ومع ذلك، فقد نجح الأمير محمد بن سلمان في توجيه إدارة بايدن إلى الاتجاه الذي يخدم أجندته. لقد عمل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك كوسيط للاتفاقات الاقتصادية والأمنية التي فكت الجمود في العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
تقترب ولاية بايدن الرئاسية الأولى، التي قد لا تُجدد، من أشهرها الأخيرة، وفيها اتسمت العلاقات الدبلوماسية مع السعودية بحرج بالغ. فمنذ أن تولى بايدن سدة الرئاسة، لم يقم أي عضو كبير في العائلة الملكية السعودية بزيارة الولايات المتحدة. وبالتالي، تُعد زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إلى العاصمة واشنطن التي جرت في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الأرفع لمسؤول سعودي يزور واشنطن منذ تولي إدارة بايدن مهامها.
تعيش الإدارة الديمقراطية سباقا مع الزمن من أجل التوصل إلى الصفقة التي من شأنها أن تتجاوز في قوتها "اتفاق أبراهام" الذي حققته إدارة ترمب الجمهورية. وبذلك يُفهم أن بايدن تراجع عن بعض شعاراته المعادية للسعودية التي استخدمها في حملته الانتخابية عام 2020. وإذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق سلام سعودي إسرائيلي، فقد يؤثر ذلك على ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024، الذي هو محل شك في الأصل.
في هذه المرحلة، يرى بعض المراقبين أنه على الرغم من تعثر الاتفاق السعودي الإسرائيلي، فإن السعودية تبدو قد حصلت بالفعل على ما تريد من خلال الانخراط في المفاوضات وإن لم يتم التوقيع.

بينما لا يؤيد السعوديون "حماس"، فإنهم يدينون بشكل قاطع وبشكل لا لبس فيه الهجوم الإسرائيلي الوحشي والحصار المفروض على قطاع غزة

حرب غزة 2023
لقد أربكت الحرب الأخيرة في غزة اللعبة السياسية في الشرق الأوسط وصعّبت المشهد السياسي؛ ففي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هاجمت حركة "حماس" المناطق الإسرائيلية في غلاف غزة. وبدا أن الأيام الثلاثة الأولى من الهجوم كانت في مصلحة "حماس" وحلفائها (أي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية) قبل أن يشن الإسرائيليون هجومهم الجوي العنيف والمدمر على غزة، والذي منحهم التفوق العسكري في المواجهة، مما تسبب في مقتل وجرح آلاف الفلسطينيين في القطاع.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، أشارت معظم تقارير مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية إلى أن حركة "حماس" قد بادرت بالعمل العسكري بهدف تعطيل الاتفاق المحتمل؛ فعلى سبيل المثال، كتب ماثيو ليفيت مقالا في مجلة "فورين آفيرز" يتهم فيه "حماس" باستهداف إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، والذي وصل إلى مرحلة إجرائية أكثر جدية من أي وقت مضى. وبحسب ليفيت، فإن العامل الذي دفع قيادة "حماس" إلى تنفيذ الهجوم والتسبب في هذا التصعيد كان عرقلة الجهود الدبلوماسية مع  المملكة العربية السعودية في المقام الأول. ويضيف ليفيت أن قيادة "حماس" تعتقد أن اتفاقا كهذا من شأنه أن يُقوض موقف القضية الفلسطينية داخل منظومة الدول العربية والإسلامية. وعلاوة على ذلك، فإن التطبيع المتوقع يمكن أن يعزز التحالف الإقليمي الفعال ضد إيران وحلفائها، ومن ضمنهم "حماس"، وحزب الله". لذا فقد ذهب التنظيمان إلى ما هو أبعد من تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي لتقدم "حماس" على هذه الخطوة في هذا التوقيت الحرج!

Getty Images
الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في لقاء مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في مصر، 14 فبراير 1945

يتصف الموقف السعودي تجاه الحرب بأنه في غاية التوازن. وبينما لا يؤيد السعوديون "حماس"، فإنهم يدينون بشكل قاطع وبشكل لا لبس فيه الهجوم الإسرائيلي الوحشي والحصار المفروض على قطاع غزة. في هذا الصدد، أوصل السعوديون رسالة دبلوماسية شديدة الوطأة إلى الوزير بلينكن الذي سبق وزار تل أبيب مفتخرا بهويته اليهودية. لكنه عندما زار الرياض، وجد أن عليه "الانتظار عدة ساعات لاجتماع كان من المفترض أن يعقد في المساء، لكن ولي العهد لم يحضره إلا في صباح اليوم التالي". واعتبر السعوديون هذا الإجراء علامة على السيادة والتضامن مع "الإخوة الفلسطينيين".
في 10 نوفمبر/تشرين الثاني، عقدت الرياض قمة عربية إسلامية استثنائية تمكنت خلالها من توحيد الجهود للخروج بإجماع عربي وإسلامي حول الأوضاع في غزة. خرج المؤتمر ببيان توافقي يدعم الشعب الفلسطيني ويدين إسرائيل على همجيتها وإفراطها في العنف. أكد البيان على مرجعية السلطة الفلسطينية كممثل حصري للشعب الفلسطيني. وقد سبق هذه القمة، قمة سعودية- أفريقية مجدولة منذ وقت سابق، تمكنت الرياض من إدراج نصرة غزة ضمن بيانها الختامي. وجال وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان مع مجموعة من الوزراء العرب والمسلمين في عواصم كبرى لحشد الدعم للموقف الصادر من قمة الرياض.
إن نجاح المملكة في تنظيم قمم جمعت قادة وممثلي أكثر من 90 دولة في الرياض خلال يومين، يُعد مؤشرا على قوة الدبلوماسية السعودية، والذي من شأنه أن يعزز الموقف السعودي في أي مفاوضات مقبلة مع أميركا، إذا حدثت في المستقبل القريب.

مع استمرار الحرب في غزة، يستمر السعوديون في موقفهم الواضح ضد الهجمات الإسرائيلية واستهداف المدنيين والبنى التحتية والمستشفيات

ماذا بعد؟


لا يبدو أن لدى السعودية التي تعمل وفق "رؤية 2030" رغبة في استمرار التوترات مع أي من دول محيطها الإقليمي. ووفق سياسة تصفير المشاكل؛ قبلت المملكة بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأعربت قيادتها عن موقف إيجابي تجاه اتفاق سلام يُعقد مع إسرائيل. غير أنه يجب الأخذ في الحسبان أن إسرائيل ليست إيران؛ فالعلاقة مع إيران فيها قضايا ثنائية يمكن حلها بين الرياض وطهران. لكن حالة إسرائيل تتضمن كثيرا من القضايا العابرة للحدود الوطنية السعودية التي تتجاوز العلاقات الثنائية؛ والتي يجب حلها قبل التوصل لأي اتفاق.
تعتبر القضية الفلسطينية موضوعا حاسما بالنسبة لقوة إقليمية عربية إسلامية بمكانة المملكة العربية السعودية، التي تتخذ سياسة متوازنة تحسب فيها تحركاتها استراتيجيا. ولا يزال السعوديون يتعاملون مع الولايات المتحدة باعتبارها المورد الرئيس للأسلحة والتقنيات العسكرية. وهذا يعني أن السعودية قد تحافظ على موقفها حتى تُؤمن ضمانات تُحقق مكاسب معقولة للفلسطينيين. وباعتبارها وسيطا في التوصل إلى اتفاق، يجب على واشنطن التعامل مع المطالب السعودية المتعلقة بالأسلحة والتقنيات في حال وافق حليفا الولايات المتحدة على الجلوس والتفاوض حول اتفاق سلام في المستقبل.
ومع استمرار الحرب في غزة، يستمر السعوديون في موقفهم الواضح ضد الهجمات الإسرائيلية واستهداف المدنيين والبنى التحتية والمستشفيات. ومن شأن مثل هذا الموقف أن يصعّب- إن لم يجهض- التوصل إلى اتفاق أميركي– سعودي يتضمن "تطبيعا" مع إسرائيل في المدى المنظور، وهو الأمر الذي لن يكون في مصلحة بايدن والإدارة الديمقراطية في هذا التوقيت الحرج مع بدء العد العكسي للانتخابات في نهاية 2024.

font change

مقالات ذات صلة