"أفريقيا الأطلسية"... تكتل اقتصادي تنموي جديد

تسعى المغرب إلى تقوية التعاون "جنوب جنوب" بين الدول الصاعدة والتي في طور النمو

Shutterstock
Shutterstock
التقاطع بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط عن طريق مضيق جبل طارق.

"أفريقيا الأطلسية"... تكتل اقتصادي تنموي جديد

وضعت طريق التجارة الدولية جنوب المحيط الأطلسي، بديلا (ولو موقتا) عن باب المندب في خليج عدن، المُهدد باعتداءات المتمردين الحوثيين ومن يقف وراءهم في الهجوم على سفن الشحن البحري، وصارت مئات البواخر تعبر رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب القارة السمراء قادمة من المحيط الهندي، في طريق جديد قديم يمر أمام سواحل إفريقيا الأطلسية، وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، عبر مضيق جبل طارق، أو مواصلة الإبحار إلى شمال الأطلسي، في رحلة قد تمتد أسبوعا إضافيا عن رحلاتها السابقة.

ربما مجرد صدفة أن يتزامن تغيير طريق التجارة من البحر الأحمر إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) مع إعلان المغرب عن ميلاد "إفريقيا الأطلسية" قبل أسابيع، وهي تجمع جغرافي واقتصادي، وفضاء للأمن والتعاون التنموي، يضم 23 دولة تطل على البحر غربا، ولها سواحل بعضها تمتد لآلاف الكيلومترات، أي ربع المسافة من رأس الرجاء الصالح، مما يساعد في تأمين طرق الملاحة البحرية التي لم تعد تهم منطقة جغرافية محددة، بل تشمل كل الدول المطلة على البحار والمحيطات.

لا شك في أن المحيطات ومعابر التجارة العالمية حاسمة في رسم خريطة النظام العالمي الجديد المتشكل من البحر أولا، لأنه المساحة الكبرى على اليابسة. ولا يخفي تنافس الكبار هذه الحقيقة التي تتزايد مرة باسم "حرية التجارة والمبادلات"، ومرة أخرى باسم "مبادرة الحزام والطريق". وكل الصراعات مرشحة أن تدور حول الماء في العقود المقبلة، يفرضها التغير المناخي والتزايد السكاني والحاجة إلى هواء البحر ونسيمه وآفاقه.

مبادرة ملكية لـ"أفريقيا الأطلسية"

يدرك المغرب الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط شمالا والمحيط الأطلسي غربا على امتداد سواحل تصل إلى 3500 كيلومتر، أن مطله البحري يعزز موقعه لاحقا في خريطة النظام العالمي الجديد بين الشمال والجنوب. وهو الدور التاريخي الذي ظل المغرب يلعبه بين أوروبا وأفريقيا منذ قرون وحتى بعد سقوط الأندلس، نهاية القرن الخامس عشر. من هنا، فإن تنمية الواجهة الأطلسية للقارة مصلحة مغربية لتسريع التنمية في دول الساحل التي لها روابط تاريخية وثقافية مع فاس ومراكش والصحراء، وهي تحتاج إلى استثمارات يبدو العالم مشغولا عنها في مناطق أخرى حاليا.

اختار الملك محمد السادس خطاب الذكرى 48 للمسيرة الخضراء في 6 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، للإفصاح عن تفاصيل خطة أفريقيا الأطلسية، قائلا: "إذا كانت الواجهة المتوسطية تعدّ صلة وصل بين المغرب وأوروبا، فإن الواجهة الأطلسية هي بوابة المغرب نحو أفريقيا، ونافذة انفتاحه على الفضاء الأميركي". تشمل مبادرة الملك وضع البنى التحتية في جنوب البلاد تحت تصرف دول الساحل غير البحرية وفك العزلة عنها وربطها بالمحيط الأطلسي، حيث يتم بناء مركب مينائي ضخم في سواحل مدينة الداخلة بتكلفة تناهز 1,5 مليار دولار، يتكوّن من أربعة موانئ للتجارة الدولية والطاقة والصيد البحري والتخزين وإعادة التوزيع.

تسعى الخطة المغربية إلى تقوية التعاون "جنوب جنوب" بين الدول الصاعدة وتلك التي في طور النمو داخل القارة نفسها، وجعل الموارد المتاحة اقتصاديا وطبيعيا مصدر نهضة قارية شاملة

اعتبر الملك أن "المشاكل والصعوبات التي تواجه دول الساحل لن تحل بالأبعاد الأمنية والعسكرية، بل باعتماد مقاربة تقوم على التعاون والتنمية المشتركة"، واقترح إطلاق مبادرة على المستوى الدولي تهدف إلى تمكينها من الولوج إلى المحيط الأطلسي، لافتا إلى أن "نجاح هذه المبادرة يبقى رهينا بتأهيل البنى التحتية، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل"، وأن المغرب مستعد لوضع بناه التحتية، من طرق وموانئ وسكك حديد في خدمة هذه الدول، لأنها ستشكل تحولا جوهريا في اقتصادها، وفي المنطقة كلها.

يعتقد محللون أن المملكة بدورها ستستفيد من هذا التجمع الاقتصادي الإقليمي، باعتبارها ثاني مستثمر في القارة والأول في غرب أفريقيا. وهي ستجعل منطقة الصحراء بوابة التنمية نحو القارة الأفريقية، ونقطة تلاقٍ بين موانئ المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وبقية العالم. كما ستستفيد دول أخرى من فك العزلة الجغرافية في الساحل الأفريقي الذي تحيط به الصحراء من كل جانب، وتهدده الجماعات المتطرفة، ويعيش انقلابات عسكرية وهشاشة أمنية واجتماعية وتخلفا اقتصاديا، وتتجاذب هذه الدول القوى الطامعة في المعادن والطاقة، من باريس إلى موسكو ومن واشنطن إلى بكين.

تعاون جنوب جنوب

تسعى الخطة المغربية إلى تقوية التعاون "جنوب جنوب" بين الدول الصاعدة وتلك التي في طور النمو داخل القارة نفسها، وجعل الموارد المتاحة اقتصاديا وطبيعيا مصدر نهضة قارية شاملة تكون في خدمة أبنائها وبسواعدهم. ساهمت الأحداث الإقليمية والدولية الأخيرة وعودة الغطرسة الغربية والاستعمارية في أكثر من صراع، آخره الحرب على غزة، في تنامي مشاعر الوعي لدى شباب تلك الدول بضرورة التعاون الإقليمي عوض الانغماس في النزاعات الحدودية التي تغذيها القوى الاستعمارية التقليدية للهيمنة على الموارد لأجل خفض تكلفة إنتاج صناعاتها والحفاظ على التنافسية من خلال استغلال فقراء الأرض.

AFP
برج محمد السادس في الرباط في 21 أغسطس 2023.

وقال وزير خارجية المغرب، ناصر بوريطة، إن "مبادرة الدول الأطلسية لا تهدف إلى منافسة منظمات إقليمية أو منظمات أفريقية أخرى"، معتبرا أن بلاده تسعى، بمعية شركائها، إلى "تمكين أفريقيا من تقوية الفضاء الأطلسي، واعتماد مواقف مشتركة، وتحقيق الارتباط مع بلدان الضفة الأخرى الجنوبية للمحيط الأطلسي وأميركا اللاتينية على المدى الطويل".

يمكن اعتبار نجاح فكرة مشروع أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب على طول 5660 كيلومترا تحت البحر بتكلفة 25 مليار دولار، حافزا اقتصاديا وسياسيا على تطوير مجالات جديدة للتعاون بين دول جنوب المحيط الأطلسي، لتحقيق تكامل يضمن الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة في منطقة تتهددها الصراعات ويضعفها اتساع الفقر والهشاشة، حيث سيمكن الأنبوب من ضمان أمن الطاقة وإيصال الكهرباء إلى 440 مليون نسمة في 15 دولة تتبع التجمع الاقتصادي لغرب أفريقيا "إيكواس" (ECOWAS). 

مجموعة إقليمية قوية متجانسة ومتكاملة

قبل ثلاث سنوات اقترح المغرب على أصدقائه الأفارقة إنشاء تجمع إقليمي على سواحل جنوب المحيط الأطلسي، يقوم على التعاون الاقتصادي، والتنسيق السياسي والأمني، من أجل تنمية سريعة ومستدامة وبيئة نظيفة. رحبت نحو عشرين دولة بالفكرة لتحقيق تكامل بين دولها التي تمثل 55 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمجموع القارة، مما يوازي نحو 3,5 تريليون دولار عام 2022، وتطوير الاقتصاد الأزرق الذي يدور حول النشاط البحري. وجل هذه الدول لها سواحل غير مستغلة وضعيفة التجهيز.

وشهدت الرباط ونيويورك ثلاث قمم على مستوى وزراء خارجية 21 دولة، آخرها في يوليو/تموز 2023، لدراسة هيكلة الفضاء الأفريقي الأطلسي، والعمل على تحويله إلى قطب استراتيجي واقتصادي.وتم بحث صيغ إخراج المشروع إلى واقع ملموس جغرافيا في منطقة غنية بالثروات لكنها مهددة بالأطماع الخارجية القديمة والجديدة. وتم تأسيس ثلاث مجموعات عمل تعنى بالاقتصاد والسياسة والطاقة والاقتصاد الأزرق والأمن الإقليمي والاقتصاد البحري.

الفكرة هي أن تتحول تدريجيا 23 دولة تقع بين مضيق جبل طارق شمالا ورأس الرجاء الصالح جنوبا، إلى مجموعة إقليمية قوية متجانسة ومتكاملة اقتصاديا وجغرافيا، تطل على سواحل أميركا اللاتينية في طريق التجارة التقليدية، قبل اكتشاف القارة الأميركية زمن كريستوف كولومبس. لكن الفكرة ليست مماثلة لحلف شمال الأطلسي العسكري (NATO)، بل هي تكتل من أجل الاستقرار والتنمية والتعاون الإقليمي، في زمن بات صعبا على الدول الصغيرة أن تحافظ على أمنها واستقرارها وتتصرف في خيراتها بحرية وسيادة. ويرغب المغرب في أن تكون الدول هي المتحكمة في ثرواتها الساحلية والبرية، السطحية والباطنية، بما يخدم مصالح شعوبها، ويُحصّنها في وجه المتهافتين الجدد بعدما تراجع دور المستعمر القديم.

 وانضمت 4  دول تقع داخل الساحل الإفريقي هي مالي وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر, إلى مشروع  إفريقيا الأطلسية، وتعيش هذه الدول عزلة جغرافية بسبب تواجدها في منطقة صحراوية قاحلة بالكامل، وليس لها منفذ بحري على المحيط, مما يحد من تنميتها الاقتصادية، رغم امتلاكها موارد معدنية ومواد أولية هائلة، تحتاج إلى تأهيل وتسويق. 

تتشكل أفريقيا الأطلسية من 23 دولة بين قوية ونامية متقدمة أو في طور النمو، وتوجد ثلاث قوى في هذا التجمع، تشمل نيجيريا وجنوب أفريقيا والمغرب

وكتبت صحيفة "لو كورييه أنترناسيونال" (le Courrier international) "أن المغرب يضغط على أوروبا بمشروعه الأطلسي الذي بات يحدد أولوياته الجيوسياسية وينقلها من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي، مما يمنح المملكة منفذا كاملا على أفريقيا ونافدة على الفضاء الأميركي، باعتباره البلد الوحيد في القارة الذي يملك واجهتين بحريتين بمساحة داخل البحر والمحيط تتجاوز 1,2 مليون كلم مربع".

لذلك تسمح جغرافيا البحار أن يكون المغرب جارا لاسبانيا والبرتغال وموريتانيا والسنغال وغامبيا والرأس الأخضر وغينيا بيساو وغينيا وسيراليون، ويطل على دول وسط أميركا والولايات المتحدة، بحسب زكريا أبو الذهب، وهو أستاذ باحث في جامعة محمد الخامس.

Shutterstock
شبه الجزيرة الأيبيرية وقارة أوروبا على الطرف الأطلسي لمضيق جبل طارق.

التقارب المغربي الاسباني

بعد عودة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز إلى مقاليد الحكومة الإسبانية، وإزاحة شبح وصول يمين مشاغب يقوده رئيس الحزب الشعبي، ألبرتو نونيز فيخو (Alberto Nunez Feijoo)، تنفست الرباط ومدريد الصعداء. وبدا التحالف بينهما ممكنا لسنوات أخرى من التعاون السياسي والاقتصادي والأمني. واعتبرت صحيفة "أتالايار" (Atalayar) المقربة من أوساط الدولة العميقة والأمنية، أن العلاقات مع المغرب تمر بفترة قوية من التعاون والثقة والمتبادلة. ورحبت مدريد بمشروع أفريقيا الأطلسية، وهي تعتقد أنه يخدم مصالحها باعتبار إسبانيا جزر لاس بالماس (الجزر الخالدة) المتاخمة لسواحل جنوب المغرب، وأيضا حضور اللغة الإسبانية في كثير من الدول المعنية بالفكرة، إضافة إلى نافذة على أميركا اللاتينية، سوق تجارية وسياحية وهوية ثقافية تعزز حضورها الدولي.

على عكس إيمانويل ماكرون في باريس، شجع المستشار الألماني أولاف شولتز فكرة التجمع الاقتصادي لأفريقيا الأطلسية، واعتبرها فكرة جيدة لتحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة، وتفتح آفاقا للتعاون وجلب الاستثمار، وذلك خلال لقائه مع رئيس الحكومة عزيز أخنوش G20 Compact with Africa (CwA) في برلين.

قوى صاعدة ومتنافسة

تتشكل أفريقيا الأطلسية من 23 دولة بين قوية ونامية متقدمة أو في طور النمو، وتوجد ثلاث قوى في هذا التجمع، تشمل نيجيريا وجنوب أفريقيا والمغرب بحسب الترتيب الاقتصادي، تليها في الدرجة الثانية أنغولا وناميبيا والسنغال ثم غانا والكونغو الديموقراطية والغابون، وتقع دول الساحل وهي مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، في رتب متأخرة من التنمية. 

بحسب البنك الدولي، تقدر ديون القارة الأفريقية مجتمعة بنحو 1,14 تريليون دولار، وهناك دول توقفت تماما عن تسديد ديونها في جنوب القارة وشرقها. وقال صندوق النقد الدولي إن الديون الأفريقية تضاعفت مرتين من 2013 إلى 2022 وأصبحت تمثل 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط. وتتركز 66 في المئة من ديون أفريقيا الخارجية في 9 دول، تتصدرها جنوب أفريقيا بحصة 15 في المئة.

ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإن 22 دولة أفريقية تعاني بالفعل من أعباء الديون أو غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه الدائنين. وكانت الاستثمارات الأجنبية المباشرة تراجعت 42 في المئة في عام 2022 لأسباب أمنية وسياسية.

مع ذلك، تبدو وضعية دول "أفريقيا الأطلسية" أفضل من جيرانها في شرق القارة، كما أن وضعية شمال القارة أفضل من وضعية جنوبها في المديونية الخارجية. وهذا سبب اقتصادي يدفع جنوب أفريقيا لإثارة الانقسام في شمال القارة، خصوصا بين الجزائر والمغرب، وهما من بين المساهمين الأساسيين في الاتحاد الأفريقي إلى جانب مصر ونيجيريا، وهي الاقتصادات الخمسة الكبرى في القارة لكنها تعيش حالة تنافس متباينة الحدة لأسباب مختلفة، كلها من مخلفات الاستعمار.

font change

مقالات ذات صلة