جدالات الفلسطينيين وخصوماتهم حول حرب إسرائيل ضد غزة

Reuters
Reuters
فلسطيني يرفع علم حركة "فتح" فوق جدارية تصور الرئيس الراحل ياسر عرفات اثناء مظاهرة دعم لغزة في بيروت في 7 يناير

جدالات الفلسطينيين وخصوماتهم حول حرب إسرائيل ضد غزة

يخوض الفلسطينيون غمار نقاش محتدم وحام، فيما بينهم، على خلفية حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد غزة، ربما لم يسبق أن خاضوا مثله، باستثناء مرحلتين سابقتين، الأولى أتت بتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من هدف التحرير نحو هدف إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع (منتصف السبعينات)، وهي التي أسست للاختلاف السياسي والانقسام، في الجسم والرأي العام الفلسطينيين. أما الثانية فتمثلت بعقد اتفاق أوسلو (1993)، الذي نجم عنه تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، وتهميش منظمة التحرير لصالح تلك السلطة، مع اختزال الشعب الفلسطيني، عمليا، بفلسطينيي الكيان الوليد في جغرافيا الضفة والقطاع، باستبعاد مجتمعات اللاجئين (بعد استبعاد فلسطينيي 48)، عمليا ومؤسسيا، من معادلات السياسة الفلسطينية.

بداية، اعتبر البعض، عن خطأ، أن تلك الحرب تجري بين إسرائيل وحركة "حماس"، وهو انطباع متسرع، وغير مطابق للواقع، صحيح أن تلك الحركة شنت هجوما استهدف مستوطنات تقع شمالي غزة (7/10)، لكن ذلك الهجوم انتهى ذلك اليوم، أما فيما بعد فقد بادرت إسرائيل بشن حرب اتسمت بالوحشية المطلقة، التي تحمل سمات التطهير العرقي، لاجتثاث الفلسطينيين من بيوتهم، ومدنهم، توخيا لإخراجهم، أو معظمهم، من غزة إلى خارجها (مصر).

الخلاف مع "حماس" خلاف داخلي، على الخيارات السياسية والكفاحية، مثل الخلاف مع "فتح" وباقي الفصائل، ويتعلق بسعي الفلسطينيين لتطوير حركتهم الوطنية، وإدارة صراعهم مع إسرائيل بأنجع وأصوب وأقل ما يمكن من الخسائر

على ذلك، وبغض النظر عن رأينا في طبيعة هجوم "حماس"، غير المسبوق، الذي كبد إسرائيل خسائر باهظة، وزعزع صورة جيشها "الذي لا يقهر"، فإن ما فعلته إسرائيل ليس مجرد ردة فعل على العملية، إذ إن طبيعة الرد الاستئصالية والهمجية، تعاملت مع الفلسطينيين كأنهم ليسوا بشرا، مع وصمهم بالإرهاب، لتغطية بطشها بهم، وتجريدهم من طبيعتهم الإنسانية، ومن مكانتهم كضحية، ومن حقهم في الدفاع عن النفس، مقابل الترويج لذاتها كضحية، بل ومنحها الحق الحصري بالدفاع عن النفس، وحجب طبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية إزاء الفلسطينيين، منذ إقامتها قبل 75 سنة، ومنذ احتلالها الضفة والقطاع قبل 56 سنة، ومنذ تحويلها قطاع غزة إلى سجن مفتوح قبل 17 سنة.

AFP
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون متوسطا رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" اسماعيل هنية ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اثناء لقائهما في الجزائر في 5 يوليو 2022

والحقيقة أن إسرائيل هي التي تمارس إرهاب الدول المنظم ضد الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، دون تمييز هوياتهم السياسية والآيديولوجية، بسياسات متفاوتة، ضمن مسار مبرمج ومستدام، وقد أتت ردة فعلها في هذا السياق، بدلالة ما تفعله في الضفة، وبدلالة استهدافها فلسطينيي غزة المدنيين، بكل ما في ترسانتها من أسلحة، وقطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء عنهم، وتدميرها بناهم التحتية، وبيوتهم، مع حصيلة خسائر بشرية لعدوانها تقدر بأكثر من مئة ألف، بين قتيل وجريح ومعتقل ومفقود تحت الركام، من الفلسطينيين.

أيضا، الحقيقة تفيد بأن إسرائيل تستهدف "حماس"، بكونها حركة مقاومة، وليس لإسلاميتها، ولا علاقتها مع إيران، فقد كانت تستثمر في الانقسام الفلسطيني سابقا، وكانت تعتبر "فتح" والجبهات الشعبية والديمقراطية منظمات ارهابية، علما أن منظمة التحرير مصنفة كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة، رغم توقيعها "اتفاق أوسلو" في البيت الأبيض.

على ذلك، فإن الخلاف مع "حماس" هو خلاف داخلي، على الخيارات السياسية والكفاحية، مثل الخلاف مع "فتح" وباقي الفصائل، وهو يتعلق بسعي الفلسطينيين لتطوير حركتهم الوطنية، وإدارة صراعهم مع إسرائيل بأنجع وأصوب وأقل ما يمكن.

بالمثل، فإن نقاش عملية "حماس"، صح أم خطأ، أصابت أم أخفقت، يصح على كل الخيارات التي انتهجتها الكيانات الفلسطينية في تجاربها بالأردن ثم لبنان ثم في الانتفاضة الثانية، وفي إدارتها للمنظمة أو السلطة، وبالتأكيد في عقدها "اتفاق أوسلو"، ومن خطف الطائرات والبواخر إلى العمليات التفجيرية، والحروب الصاروخية والحلول التفاوضية.

ليس صحيحا أن إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية والمصطنعة كانت ستفعل ما فعلته في غزة، بعملية "حماس"، أو من دونها، فذلك مجرد كلام عمومي، ويتوخى التبرير

من كل ما تقدم يمكن لفت الانتباه إلى رواج استنتاجين خاطئين:
الأول: يفيد بأن إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية والعدوانية والمصطنعة، كانت ستفعل ما فعلته في غزة، بعملية "حماس"، أو من دونها، فذلك مجرد كلام عمومي، ويتوخى التبرير. صحيح أن إسرائيل تتمنى أن تصحو وقد غرقت غزة في البحر، أو تجد الشعب الفلسطيني قد غادر بلده، أو نسي قضيته، لكن ليس صحيحا، أنها كان يمكن أن تفعل ما فعلته، فهي لم تفعل ذلك إبان الانتفاضة الأولى، ولا حتى إبان الانتفاضة الثانية، التي طغى عليها طابع العمليات التفجيرية حينها، وكبدت إسرائيل خسائر فادحة، بشرية ومادية ومعنوية، وهي لم تفعل مثل ذلك رغم احتلالها الضفة وغزة منذ 56 عاما. بالمثل، ما كان للولايات المتحدة أن تغزو أفغانستان والعراق، لولا حدث 11 سبتمبر/أيلول (2001)، واحتلال العراق للكويت (1990)، فحتى إيران (زعيمة محور "المقاومة والممانعة") تتجنب أية محاولة لاستدراجها لمعركة مع إسرائيل، ولنلاحظ أن نصر الله بعد حرب (2006) صرح بأنه لو كان يعرف ردة فعل إسرائيل على خطف حزبه جنديين إسرائيليين لامتنع عن تلك العملية، التي نجم عنها ردة فعل إسرائيلية كبدت لبنان خسائر بشرية ومادية هائلة، ضمنها دمار معظم الضاحية الجنوبية وقتها.

AFP
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في القاهرة في 8 يناير

الثاني: مقولة إنه ليس للشعب الفلسطيني ما يخسره. فهذه مقولة متسرعة وتبريرية وعاطفية، مغلفة بالحمية الوطنية، كأن المقاومة تعني التهور، أو عدم احتساب الكلفة والمردود، نسبيا طبعا، أو عدم المبالاة بتضحيات البشر ومعاناتهم. وتبعا للنكبة الحاصلة في غزة، فهل الفلسطينيون منذورين للموت بالجملة دون احتساب، وفق شعار "عا القدس رايحين شهدا بالملايين"، أو مقولة: "إنه جهاد حتى النصر أو الاستشهاد"، مثلا؟ ثم عندما يخسر إنسان يده أو عينه أو رجله، أو يصبح مقعدا ألا يخسر شيئا؟ وعندما يخسر زوجته أو أمه أو أباه أو ابنته أو ابنه أو أخته أو أخاه ألا يكون قد خسر شيئا؟ وإذا خسر بيته، أو مورد رزقه ألا يخسر شيئا؟ هل حقا لم يخسر الفلسطينيون في غزة شيئا؟ يحتاج الإنسان لحد من ضمير أخلاقي وعقلانية في التفكير السياسي المسؤول للتقرير في ذلك، إذ الإنسان يكافح، ويربط نمط كفاحه، بالسعي لحياة أفضل، سيما في ظروف كيانات تفتقد لرؤية وطنية جامعة، ولاستراتيجية كفاحية مستدامة وواعية وممكنة ومسؤولة، مع "فتح"، و"حماس"، والجبهات.

الأصوب رؤية ما يجري من مختلف الزوايا، لا من زاوية واحدة، فقضية فلسطين، والصراع ضد إسرائيل، غاية في التعقيد والتركيب

باختصار، لا يوجد فلسطيني لا يتمنى هزيمة إسرائيل المتوحشة، اليوم قبل الغد، لذا فذهاب البعض في جدالاتهم حد الاحتراب، أو التقسيم القسري الحاد لثنائيات، كثوري ومنهزم، ووطني ومستسلم (مثل مؤمن وكافر)، وإشراع مسطرة، أو فرض خندقة للناس، حسب نمط تفكيرهم، مسألة تعسفية، ومضرة، وغير صحيحة، لأن البشر مختلفون ومتعددون، تبعا لأحوالهم، وتجاربهم وثقافاتهم ومسؤوليتهم، والأصوب رؤية ما يجري من مختلف الزوايا، لا من زاوية واحدة، فقضية فلسطين، والصراع ضد إسرائيل، غاية في التعقيد والتركيب. 
مثلا، يكفي أن نلحظ مسألة واحدة فقط، لاستدعائها للتفكير، وهي تتمثل في تعذر قدرة فلسطينيي 48، أو فلسطينيي الضفة والقدس، على التعبير عن إسنادهم، أو تضامنهم، مع شعبهم في غزة (على نحو ما جرى في هبة الفلسطينيين من النهر إلى البحر للدفاع عن حي الشيخ جراح 2021) رغم أن العدو واحد، والقضية واحدة، والشعب واحد؛ فهذه مسألة ينبغي تفحصها، لعل فيها إجابات تهدئ كل المتجادلين، المتخندقين، على هذا الطرف أو ذاك. 

font change

مقالات ذات صلة