بناء الثقة... قضية مؤتمر دافوس هذه السنة

مكان جيد لرصد التحولات

Reuters
Reuters
حضور احدى جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في 18 يناير

بناء الثقة... قضية مؤتمر دافوس هذه السنة

يتناول موضوع المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2024 قضية "إعادة بناء الثقة". وعلى عكس التجمعات السابقة التي كانت تهدف إلى تحفيز القيادة الإنسانية أو توليد نموذج اجتماعي عالمي جديد، فإن هذا العام يضع الإمكانات الإنسانية الأساسية في صدارة المنصة العالمية، وتحديدا الثقة البشرية، أو بالأحرى الافتقار إليها.

ومع اعتماد موضوع "العودة إلى الأساسيات"، يتوقع أن تكون إنجازات مؤتمر دافوس 2024 محدودة. فعلى الرغم من الاحتفالات التي لا نهاية لها وأسطول الطائرات الخاصة واللقاء والترحيب بين أصحاب العقول الحادة وذوي العلاقات القوية، يعم الشعور بالتشاؤم بين أعضاء النخبة العليا، الذين يشكلون واحدا في المئة من سكان العالم والذين يتحملون المسؤولية واللوم عن حالة العالم التي لا يملك الـ99 في المئة الباقون خيارا سوى العيش فيها.

بالنسبة للنخب العالمية، هناك ما يدعو للقلق: الحربان المستمرتان في أوكرانيا وغزة دون وجود استراتيجية واضحة بشأن توقيت وطريقة انتهائهما، وتصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وزيادة العقوبات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، وفوز ترمب بانتخابات الرئاسة التمهيدية للحزب الجمهوري في آيوا بأغلبية ساحقة، واحتمال حدوث ركود اقتصادي أو ارتفاع مفاجئ في معدل التضخم في الولايات المتحدة، والخلل في سلاسل التوريد العالمية، وإمكانية أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تدمير الجنس البشري بأكمله.

ويبدو أن وجهة النظر القائلة بأن المنتدى الاقتصادي العالمي يزداد انفصالا عن الناس العاديين تكتسب مزيدا من الصحة. ومع ذلك، يعتبر "دافوس" مكانا جيدا لرصد التحولات وإعادة التوازن للقوى العالمية والقوى الاقتصادية.

في هذا العام، تستقبل منطقة الخليج، وتحديدا المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، مؤتمر دافوس برسالة تعبر عن الحداثة والسلام

منذ عام مضى، كان تطبيق "تشات جي بي تي" يعتبر أمرا جديدا. ولم يكن الذكاء الاصطناعي على أجندة "دافوس"، ولم يكن سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه آي"، معروفا على نطاق واسع في القرية السويسرية. ولكن هذا العام، لا يمكن للمشاركين في دافوس تجاهل الحديث عن الذكاء الاصطناعي، حيث يركزون على الأفكار المأخوذة من الخيال العلمي، ويناقشون ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيشكل تهديدا للبشرية. وهذا يذهل الأشخاص الذين ليسوا جزءا من دائرة رجال "دافوس" حيال سرعة التغير التكنولوجي وعدم قدرة رجال دافوس على التنبؤ بالتحولات العالمية والتعامل معها.

Reuters
شعار المنتدى في دافوس

ويسلط منتدى دافوس الضوء أيضا على تحول القوى الجيوسياسية في العالم بشكل واضح. في ممشى دافوس- مركز الأنشطة الاجتماعية- تتفوق المنازل التي تعود لدول الخليج والهند؛ ففي "دافوس 2023"، أبهرت الهند، البلد المضيف لمجموعة العشرين، الجمهور بطهاتها المشاهير، وحازت انتباه المستثمرين العالميين بفضل جاذبيتها في مجال التكنولوجيا والتصنيع. وتتجلى القوة الناعمة والتكنولوجية للهند في صعودها العالمي الأخير. ومن المتوقع أن تتجاوز الهند اليابان لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم خلال أربع سنوات فقط.
وفي هذا العام، تستقبل منطقة الخليج، وتحديدا المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، مؤتمر دافوس برسالة تعبر عن الحداثة والسلام؛ إذ يستمر تقديم الطعام والموسيقى العربية، وتتألق عروض الجدران الرقمية المذهلة، كما تملأ رائحة القهوة العربية المنتزه بأكمله. وبدلا من التفاخر بمكانتها كموطن للطاقة العالمية، تستعرض منطقة الخليج أمام الحضور في دافوس التقدم الذي حققته في مجال التكنولوجيا الرقمية، والانتقال إلى الطاقة المتجددة، وتحقيق اقتصاد قائم على المعرفة. يُعدّ زعماء الخليج، الموجودون في مسرح دافوس، من أكثر الزعماء بلاغة وتقدما وطموحا، ويتحدثون عن مستقبل الخليج باعتباره "أوروبا الجديدة".
كما تستعرض منطقة الخليج أيضا مكانتها الفريدة باعتبارها مركزا للتجارة العالمية والاقتصاد والسلام بين الشرق والغرب.
وبدا العداء بين الولايات المتحدة والصين واضحا أمام النخب في "دافوس"؛ فبعد ثلاث سنوات من عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا، تعود الصين إلى "دافوس" بوفد كبير بقيادة رئيس الوزراء لي تشيانغ. وشعر المندوبون الأميركيون بالغضب الشديد بشأن الوجود الكبير للصينيين، وأصروا على أن يقابل وزير الخارجية أنتوني بلينكن مسؤولا سويسريا بشكل عاجل. وخلال مداخلته في المنتدى، ألمح رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ إلى تصرفات الولايات المتحدة التي تعطل سلسلة التوريد العالمية، وتشرخ العولمة، وتخلق تحالفات صغيرة تضر بالعالم النامي الكبير.

لا تظهر منطقة الخليج مرونة اقتصادية قوية فحسب، بل تُتبعها أيضا برؤية طموحة لتحويل اقتصاداتها من خلال التحول الرقمي والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، والاعتماد على رأس المال البشري الداخلي

وعلى الرغم من عودة الصين فعليا إلى المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن قوتها الناعمة لم تعد معها. فبعد فترة وجيزة من خطاب رئيس الوزراء في دافوس، الذي أعلن فيه عن معدل نمو مذهل للناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 5.2 في المئة عام 2023، تراجعت مؤشرات الأسهم في شنغهاي وهونغ كونغ؛ فالصين نفسها تواجه اليوم أزمة "إعادة بناء الثقة".
وعلى الرغم من أن منطقة الخليج تواجه تهديد نشوب حرب في البحر الأحمر في ظل نظام عالمي منقسم بشكل متزايد، فإنها في وضع جيد يجعلها منطقة مزدهرة وداعية للسلام. وتمتد هذه المنطقة عبر قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتتمتع بعلاقة دائمة مع الولايات المتحدة وأوروبا. كما تتطلع هذه المنطقة بشكل متزايد نحو الشرق في مجالات التجارة والتكنولوجيا وتكامل أسواق رأس المال. 

AFP
الرئيس التنفيذي لـ"اوبن أيه آي" سام ألتمان اثناء جلسة في دافوس ضمن اعمال المنتدى الاقتصادي العالمي في 18 يناير

وتستثمر شركات التكنولوجيا الصينية في البنى التحتية الرقمية والسحابية وقطاع الاتصالات في منطقة الخليج. وتلعب الصين دورا في دعم التحول إلى الطاقة المتجددة في المنطقة، بدعم من سلاسل توريدها المتجددة والمهيمنة عالميا. وتتطلع صناديق الثروة السيادية الخليجية إلى إعادة توازن استثماراتها في الصين، سواء كان ذلك من خلال الاستثمارات المباشرة أو عبر أسواق رأس المال. ويشكل الخليج أيضا مركزا محوريا للممر الذي أطلقته الولايات المتحدة بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو إحياء لطرق التجارة الأوروبية التقليدية مع آسيا.
لا تظهر منطقة الخليج مرونة اقتصادية قوية فحسب، بل تُتبعها أيضا برؤية طموحة لتحويل اقتصاداتها من خلال التحول الرقمي والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، والاعتماد على رأس المال البشري الداخلي. وكما أكد أحد المتحدثين، لا يوجد بلد يقدم قوة ناعمة وطنية أفضل من الخليج.
نعم، يسلط منتدى دافوس 2024 الضوء على المستقبل الذي وعد به الشرق الأوسط، والذي يجمع الشرق والغرب وسط واقع جيوسياسي عالمي متشائم. تقدم المنطقة مستقبلا من شأنه أن يجذب الكثير من "رجال دافوس أو الموجودين خارج دائرة رجال دافوس"– مستقبلا يتسم بالسلام والحداثة والتعاون العالمي.

font change

مقالات ذات صلة