من الحرب الباردة إلى حرب غزّة: القوة الناعمة التي نبتت لها أنياب

تراجع روسي وهيمنة أميركية وطموحات صينية

AFP
AFP
لوحة للرئيس الصيني شي جين بينغ خلف تماثيل للزعيم الشيوعي الراحل ماو تسي تونغ، في أحد متاجر الهدايا التذكارية بجوار ميدان تيانانمين.

من الحرب الباردة إلى حرب غزّة: القوة الناعمة التي نبتت لها أنياب

في ظل الواقع الموّار بالحروب والصراعات والأزمات والكوارث، تفقد النفس السكينة، وتمتلئ بمشاعر الاغتراب وتصدّع الثقة والقلق الوجودي، المهدّد بالفعل، وغالبا ما يكون الملاذ الروحي هو الحنين إلى أزمنة مضت، باتت مثل ذكرى عن فسحة روحية نفتقدها اليوم، كان العالم فيها مغايرا لما هي عليه البشرية في لحظتها الراهنة، خاصة بعد انفتاح بعضه على بعض، وسيطرة الصورة والأخبار التي تصل أسرع من البرق. صرنا أسرى أدوات الصناعة الرقمية والثقافة الرقمية، وبتنا نحنّ بشيء من الشجن إلى سنوات الحرب الباردة، خاصة لإحدى أهم أدواتها: القوة الناعمة، التي أمطرت على شعوب الأرض منجزا ثقافيّا إبداعيّا نفتقده اليوم، حتى لو كانت وسيلة في الهيمنة على العالم، وارتباطها بأجهزة الاستخبارات التي عملت بدأب على متابعة النشاط الثقافي في قطبي الحرب الباردة، عندما كانت السلطات في أميركا تدرك التفوق الثقافي الروسي وترى في الحرب الباردة صراعا صامتا بوسائل سلمية، إنما له تأثير فعّال، لما للثقافة من دور في إحياء المجتمعات وتنميتها وتوجيهها وتأثيرها في الوعي العام الذي ينجم عنه رأي عام، وتعرف كيف أن الدعاية وسيلة تأتي ثمارها في إضعاف المواقف المعادية، وهكذا ازدهرت الحرب الثقافية.

القوة الناعمة الروسية بين عهدين

كانت أعمال دور نشر سوفياتية رائجة، دار "مير للنشر" التي أنشئت خلال العهد السوفياتي، ترجمت وأصدرت مطبوعات باللغة العربية نقلا عن اللغة الروسية. عرفت بترجمة الكتب ذات التوجه الشيوعي ونشرها، إضافة إلى كتب في مجالات عدة أخرى، فكانت بذلك من الأسلحة المهمة للاتحاد السوفييتي. نقلت إلى العربية العديد من أمهات الكتب الروسية وروائع الأدب الروسي مثل أعمال تولستوي وغوغول. لا تزال هذه العلامة الفارقة حاضرة في بالي مع عناوين كتب كثيرة كانت مكتبة والدي تزخر بها، ثم مكتبتي الخاصة التي بدأت متواضعة بشرائي كتبا تخصني من معارض الكتب التي كانت تقام في مدينتي اللاذقية، أو من مكتباتها. لم أكن أهتم في البداية بمعرفة مكانة هذه الدار، لكنني أعرف أن كتبها كانت متوفرة بيسر ورائجة، ولا يزال في بالي كتاب يحمل عنوان "الفيزياء المسلّية" من منشوراتها، وكتاب مسائل في الرياضيات العالية.

كانت السلطة السوفياتية تقدم منحا دراسية في كل مجالات الثقافة والعلوم والفنون، للدراسة في المعاهد والجامعات السوفياتية

كانت المطبوعات والكتب كثيرة، متوفرة بأسعار رخيصة تجعلها في متناول كل من يريد أن يقرأ بغض النظر عن ملاءته المالية. وكانت بالنسبة إلى الطلاب أمرا رائعا، ففي تلك السنوات كان الشباب لا يزالون يهتمون بالقراءة، بل كان معظمهم ذوي ميول سياسية وشريحة لا بأس بها منتسبة إلى أحزاب شيوعية أو يسارية. ما أذكره الآن بكثير من الحنين المختلط بمشاعر الخذلان، قياسا بما وصلنا إليه في سوريا، أنني في أثناء دراستي في كلية الطب، كان المرجع الشائع لدينا، نحن الطلاب، في مادة التشريح الوصفي المهمة جدّا، "الأطلس الروسي"، وهو، إذا لم تخني ذاكرتي، لبعدي عن مكتبتي في سوريا، من منشورات "دار مير". كان كتابا رائعا، فيه رسوم مفصلة ودقيقة وملونة لجسد الإنسان، مع أسماء باللاتينية، وكان بمنزلة رأفة بالنسبة إلى طلاب الطب، لضرورة دراسة التشريح مع الاستعانة بأطلس مصور، ولرخص ثمنه قياسا بالمراجع الأخرى التي كنا نشتريها تابعة لدور نشر غربية.

في الوقت نفسه كانت السلطة السوفياتية تقدم منحا دراسية في كل مجالات الثقافة والعلوم والفنون، للدراسة في المعاهد والجامعات السوفياتية، ففي سوريا لمعت أسماء في مجال الإخراج السينمائي أو المسرحي، كمحمد ملص وأسامة محمد وعبد اللطيف عبد الحميد، وفواز الساجر، وغيرهم ممن كانت لهم بصمتهم الكبيرة في الفن السينمائي والمسرحي السوري. عدا معاهد الموسيقى والباليه، وغيرها مما لا تحتمل مساحة المقالة الاستفاضة فيه.

Sutterstock
كاتدرائية القديس باسيليوس أمام نصبي منين وبروزادكي في العاصمة الروسية موسكو.

ورد في كتاب "فرسان الحرية" للكاتب السوري المقيم في موسكو منذر بدر حلوم: "في روسيا غالبا ما شغلت مشكلات الحياة الواقعية التأملات الفلسفية، لذلك لم تجد تعبيراتها في الفكر النظري كما وجدتها في الأدب والنقد الأدبي والصحافة"، و"مثّلت الرواية الروسية انعكاسا رمزيا للبحث الفلسفي الروسي والأوروبي. فالتأملات الفلسفية في أعمال ليف تولستوي وفيدور دوستويفسكي عن الشخصية وأهداف حياتها تفوق ما قامت به الأعمال الفلسفية الروسية". لقد كان الاهتمام كبيرا بالأدب الروسي والمنتج الثقافي بشكل عام. صحيح أن أعظم الأعمال الشعرية والنثرية والمسرحية الروسية ظهرت في القرن التاسع عشر، لكن هناك أسماء كبيرة وعناوين لأدب مهم أنجز حتى في المرحلة الستالينية، مثل سولجنتسين وباسترناك وشولوخوف وغوركي وبولغاكوف وكثير غيرهم، على الرغم من البطش والقمع اللذين مارستهما السلطات السوفياتية في حق الأدباء الذين غردوا خارج سرب أفكارها وإيديولوجيتها.

نجحت أميركا في تسخير المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي لتوطيد هيمنة قواها الناعمة، في حين توقفت روسيا عن ذلك

في المقابل، تعاني الثقافة الروسية اليوم من خمول في مجال التبادل والترجمة على مستوى العالم. لا أستطيع الحكم على الأدب بشكل خاص والثقافة بالمجمل في الداخل الروسي اليوم، لكن من المعروف أنه، بانهيار الاتحاد السوفياتي، ألغيت معظم دور النشر الحكومية التي كانت تدعمها السلطات بشكل كبير، ومنها تلك المتخصصة بالترجمة، ويمكن القول إن الترجمات تراجعت كثيرا، خاصة بين العربية والروسية، من دون إغفال بعض المحاولات الفردية لبعض المترجمين العرب في الترجمة عن الروسية مباشرة، بينما كان الرائج في العقود الماضية ترجمته عن الفرنسية أو الإنكليزية.

AP
متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يحتجون في جامعة كولومبيا في ولاية نيويورك الأميركية، 12 أكتوبر 2023.

القوة الناعمة الأميركية بين الحرب الباردة والعولمة

سخّرت المخابرات الأميركية أموالا طائلة على مدى سنوات لمنظمة الحرية الثقافية التي تحولت في ما بعد إلى "الاتحاد الدولي للحرية الثقافية". كان لهذه المنظمة فروع في دول عدة حول العالم، وأصدرت مجلات مثل "كومنتري" و"ينوليدر" و"بارتيزان ريفيو"، و"إنكاونتر"، كتبت فيها شخصيات فكرية مشهورة مثل راسل ونابوكوف وبورخيس. وأنشأت أيضا "منظمة أوروبا الحرة"، التي يمكن عدّها إحدى نتائج انقسام العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح أميركا في استقطاب أوروبا الغربية، خاصة بعد نجاح مشروع مارشال الذي دعمت فيه نشوء الاقتصادات الليبيرالية، والسياسات المتحالفة معها. كانت هذه المنظمة تدير "إذاعة أوروبا الحرة" ومقرها برلين، وكانت موجهة إلى دول أوروبا الشرقية وتبث بست عشرة لغة، ولها أقنيتها الخاصة والسرية للاتصال بالعاملين في الخدمات الإعلامية خلف "الستار الحديدي"، فترصد الإذاعات الشيوعية، وتقدم البرامج المناهضة للشيوعية. ولم يكن المثقفون في منأى من ممارسات أجهزة الاستخبارات الأميركية ومضايقاتها، فمثلا عندما أحرقت السلطات النازية في ألمانيا تلالا من الكتب، هرب توماس مان، الحائز جائزة نوبل، إلى خارج الحدود بعد سحب الجنسية الألمانية منه، إلى السويد ثم إلى أميركا، لكنه تعرض فيها لاضطهاد وتجاهل لأنه، كما وصفه المكارثيون، متساهل مع الشيوعية.

Sutterstock
مكتبة جامعة كولومبيا، في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية.

وإذا كانت الحرب الباردة في تلك المرحلة تدور في ميدان الاستيلاء على العقول والثقافات البشرية، فإن أميركا التي أنشأت منذ ذلك الحين المراكز الثقافية وأفلام السينما والمحاضرات والموسيقى ومؤسسات وطرائق لترويج الذوق الأميركي في الطعام واللباس والغناء والفن، لم تتوقف، بل ازدادت سيطرتها في عصر العولمة والثورة الرقمية، وسخّرت المنصات الرقمية، واليوم الذكاء الاصطناعي، في توطيد هيمنة قواها الناعمة، وقد نجحت، في حين توقفت روسيا عن ذلك، هذا ما نلمسه في الثورة المعلوماتية وسيطرة التطبيقات الفاعلة والمؤثرة على قسم كبير من البشرية، بينما عرفت الصين كيف تنشئ لنفسها مجالا مؤثرا وفاعلا تسيطر فيه بواسطة القوة الناعمة، أكبر شاهد على ذلك تطبيق "تيك توك" الذي يحدث قلقا وانزعاجا لدى السلطات الأميركية. وبقيت القوة العسكرية، بالنسبة إلى روسيا هي الأداة الأهم في حربها من أجل أن تضمن لنفسها مكانا فاعلا في قيادة العالم.

ليس خافيا التقييد الذي تمارسه المنصات الرقمية على المحتوى، خاصة بالنسبة إلى ممارسات إسرائيل في حربها الوحشية

ولقد شهدنا، عند اندلاع الحرب الروسية على أكرانيا، إرهاصات باكرة جدّا للحرب الباردة وبشكل سافر، ما لبثت أن توسعت لتشمل عددا من جوانب الثقافة والفنون والإبداع الروسي. حوربت الثقافة الروسية في الخارج ومنع حضورها ومشاركتها في النشاطات والفعاليات الثقافية، وحاول الغرب وضع جميع مجالات الثقافة الروسية تحت الحصار. أغلق الجناح الروسي في "بينالي البندقية"، وطُلب من العديد من الفنانين الروس العاملين في الخارج التنديد علنا بما يقوم به الاتحاد الروسي، مثلما تقوم معظم المؤسسات الإعلامية والرسمية في الغرب اليوم باشتراط "إدانة حماس" على فعلتها يوم السابع من أكتوبر كفاتحة للدخول في أي حوار مع الضيف، وإعلان حسن نية، حول ما يحصل في فلسطين. وقال وزير الثقافة البولندي بيوتر غلينسكي: "الآن، ليس وقت الباليه الروسي، وليس أفضل المواسم لتشيخوف أو بوشكين". بل لجأت بعض الجهات المسؤولة عن العروض المسرحية إلى التحايل في طرائق إعلان العروض، كإهمال ذكر أسماء المؤلفين في بوسترات الدعاية، أو تحوير العناوين.

dpa
فلسطيني يسير بجوار المباني المدمرة في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، بعد مئة يوم من الحرب بين إسرائيل وحماس، 15 يناير 2024.

محو الخصوصيات الثقافية

بات من الواضح راهنا، أن القوى الكبرى في العالم تسعى، بكل أطرافها، إلى بسط أكبر نفوذ لها في العالم، فتدير حروبها وصراعاتها على سيادة العالم، وهي في هذه الحروب المكلفة بشكل رهيب للبشرية جمعاء، تمحو كثيرا من الثقافات المحلية، بل تبيد شعوبا وتبيد معها ثقافتها، كما فعلت أميركا بالسكان الأصليين، وها هي تدعم إسرائيل في حربها التي تقترب من الإبادة، على الشعب الفلسطيني العريق في التاريخ والحضارة، وتعتمد هذه القوى على أدوات أخرى من الحرب الباردة، أدوات أتاحها التطور والثورة الرقمية والصناعات المتطورة والفضاء الرقمي، بما توفر من منصات ومواقع وتطبيقات، وإنه من الجدير الاعتراف بالتفوق الأميركي في هذا الجانب، ونجاح أميركا إلى حدّ لا يمكن إهماله في نشر ثقافتها، انطلاقا من المأكولات، إلى اللباس، إلى هوليوود، إلى "نتفليكس"، إلى منصات التواصل مثل "فايسبوك" و"إكس" (تويتر سابقا) و"إنستغرام" وغيرها. وليس خافيا التقييد الذي تمارسه هذه المنصات على المحتوى، خاصة بالنسبة إلى ممارسات إسرائيل في حربها الوحشية، ومع هذا فإن الذكاء البشري، لا يزال إلى اليوم يتفوق على الذكاء الاصطناعي، ولا يزال الأفراد يبتكرون برامج تواجه هذا التقييد، أو يلعبون مع المسؤولين عنه مثل القط والفأر، مما ساهم في فتح نوافذ في الوعي العام لدى شعوب الأرض، وصار هناك اهتمام بالقضية الفلسطينية، ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبته منصة "تيك توك" في فسح هذا المجال.

AP
فلسطينيون يبحثون عن الناجين بعد قصف إسرائيلي لقطاع غزة في دير البلح، في 22 أكتوبر2023.

من نتائج هذه الحرب الناعمة التي تدار بواسطة المنصات الرقمية، أن هناك لباساً بات يكبر ويفرض نفسه كرمز لمقاومة الشعوب وحقها في الحياة، إنه الكوفية الفلسطينية التي صرنا نراها على الرؤوس أو تلفّ كالشالات على الرقاب في كثير من أنحاء العالم، يسميها البعض "عرفات"، لكونها اشتهرت كلازمة لصور الراحل ياسر عرفات، وتسمى في روسيا أيضا "عرفاتكا".

نفتقد اليوم تلك القوة الناعمة ومعاركها، فلقد كانت توفر منجزا إبداعيّا في جميع مجالات الثقافة والفنون، بعدما تراجع دور روسيا اليوم، وجنحت نحو السيطرة العسكرية وتدخلها في الصراعات التي تدور في أكثر من منطقة في العالم، ومنها منطقتنا العربية وسوريا بشكل خاص، وبعد تغوّل الثقافة الأميركية التي تروّج لها الحكومات وأجهزة الاستخبارات الأميركية بدعوى الدفاع عن الديموقراطية وقيم العدالة والحرية وغيرها، أصبح لهذه القوى أنياب تفتك بالعقول والأذواق، وتسطّح الفكر وتعتدي على الهويات بدلا من أن تقدم لها ما يمدها بنسغ النمو والازدهار.

font change

مقالات ذات صلة