عالم حسين ماضي: باب واحد ونوافذ كثيرة

سبعون عاما من البحث عن اللون

حسين ماضي

عالم حسين ماضي: باب واحد ونوافذ كثيرة

"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (سورة القمر)، هذا كان مبدأ حسين ماضي في الفن. وهذا كان معياره لتقييم اي فن أو عمل إبداعي، أو يدّعي الابداع. كل شيء بقدر. وكل قدر له وضوحه وألوانه.

في الأحرف التي سبكها نجوما على الورق، أو حتى الألوان التي أسالها كماء سلسبيل ينحدر من قوس قزح.

وعالم حسين ماضي (1938-2024) له باب واحد ونوافذ كثيرة.

كان بابه اللطف والادب والحب، ونوافذه تشرف، لا بل تشرق، على الدنيا من زوايا ومرايا لا تنتهي.

لم تدخل الألوان والأشكال وحدها عالم حسين ماضي. دخله أيضا الطعام والشراب والثياب والأثاث المنزلي وحتى الشعر والموسيقى.

عند باب المنزل المطلّ على الجامعة الأميركية في بيروت، وكان لديه أجمل إطلالة على البحر تزينها الجامعة وقرميدها وأفق بحر بيروت، ورسمه فجعله أجمل. تقترب فتسمع ألحانا قلما أو نادرا ما تسمعها في مكان آخر:

العازف والمطرب الصوفي الأذري الرائع عليم قاسيموف أو الإيراني الصوفي محمد رضا شجريان المتقد، الذي يصدح صوته وتلمع آلات موسيقاه بالشرر من فرط جمال مقاماتها.

في السنوات الـ 15 الأخيرة من حياته بدأ يعاني من تقلبات نفسية عميقة

ما عداهما من الموسيقى، تحديدا العربية، على ما كان يقول، إما مسروق من ألحان يونانية أو تركية، وإما نشاز. لم يكن يسمح بسماع أغنيات الأخوين رحباني.

تسمع موسيقى كازيموف أو شجريان فتعرف أنك وصلت إلى الطبقة السابعة من ذلك المبنى الذي كان المعلّم آخر من غادره من سكانه بعدماانقضّ عليه وحوش البناء في بيروت لتحويله ناطحة سحاب باطونية تكمل تشويه بيروت. قاومهم سنين قبل أن يضطر إلى المغادرة إلى منزل آخر في الشارع نفسه.

"المفتاح تحت دعسة الباب يا فراس والكهرباء تأتي عند الرابعة"، كان يقول لي عبر الهاتف.

غالبا ما كنت أصل قبل الكهرباء. يفتح الباب نضال، رفيق عمر المعلّم وحارسه والمخلص أبدا له ولفنّه. كان يناديه "Il Padrino" بالإيطالية تحبّبا.

هناك، بعد العتبة، تصبح داخل عالم ماضي.

ممنوع أن تحضر له هدية. المسموح فقط برازق شامية أو تمر خليجي.

طقوس داخلية

تهبّ عليك الألوان، الرسومات، الحديد المشذّب، الكانفاس، الريشات، المقصات، الورق، الطاولة التي صممها مستديرة على عجلات تعلوها قوائم تشبه ساق امرأة رشيقة القوام.

قد لا يكلمك عند وصولك، قد لا يتحدّث إليك لنصف ساعة أو أكثر. لكن كل الأمور تسير بلا توقف. الرسم، تشكيل الألوان وإعدادها، تحضير العشاء، الموسيقى و"الصوبيا" التي يشتعل فيها حطب بلدته شبعا في أعلى رأس بيروت.

ثم فجأة يبدأ بالأسئلة، ماذا فعلت اليوم؟ من تلتقي؟ الى أن يحدثك عن الفن.

يضع تفاحة على الطاولة، يقصّها بالسكين مرتين من أعلاها فتنبثق منها أربعة أجزاء. "هنا الأصل الطبيعي، انظر إلى كل جزء كيف يتكوّن من خطٍّ منحنٍ وخطٍّ مستقيم". على هذين الخطّين وضع ماضي كل فنّه.

ثم يحمل حبة جوز. قال إن كل الناس تكسر الجوزة لكنهم يجهلون أن لها قفلا صغيرا عند أعلاها، تضع فيه السكين وتبرمه، فتفتح دون أن تنكسر وتعطيك ما في داخلها.

"لم أرسم بعد لوحتي المفضلة"، قالها لرولا معوض منذ سنتين، وذلك بعد 70 سنة من الرسم.

"هناك ألوان لم تظهر بعد". كان يمزج ويركب ويخلط ويسرح في الألوان حتى تبتسم له.  

"أعمالي ستدوم أكثر من كل ما يملكونه. أكثر من الآلات والسيارات والأبنية وحتى البشر

حسين ماضي

في السنوات الـ 15 الأخيرة من حياته بدأ يعاني من تقلبات نفسية عميقة. لطالما كان مزاجيا لكنه في الفترة الأخيرة ابتعد عن كثيرين. جرّب العودة إلى إيطاليا، امضى بعض الوقت ثم عاد. ثم قرر فجأة ترك بيروت والانتقال إلى طرابلس. سكن شقة صغيرة وطوّر فنّه أول مرة ليجعل لوحاته ثلاثية الأبعاد. عمل منهك ولا يمكن لأحد تقليده. أنتج منه كميات محدودة لكنها رائعة مثل كل فنّه. في طرابلس نسج علاقة مع بعض النجارين وصمم أثاثا منزليا. طاولات، مقاعد، لكن أيضا لم ينتج منها الكثير. مرة استدعاني إلى طرابلس، سهرنا كل الليل على موسيقى قاسيموف، تعشينا Pesto Pasta (وصفة سحرية إيطالية).

أحسن تقويم

ثم تحدّث عن تفسيره لآية "لقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" في سورة التين.

قال إنه يستلهم الكثير من القرآن في فنه وإن ورود هذه الآية في سورة تذكر التين والزيتون دليل لكل فنان على أهمية فهم فيزيولجيا الأشكال في الإنسان والطبيعة للتمكن من الرسم والنحت بما يقترب من التقويم الحسن.

في السنين الأخيرة قلق على مستقبل أعماله. كان يسأل هل يا ترى هناك من يشتريها كلها؟ حاول كثيرون الاستحواذ على الأعمال، كان يقطع الصلة بهم عندما يبدأون بمساومته على السعر أو التعامل معه كأنه يبيع بضاعة.

"أعمالي ستدوم أكثر من كل ما يملكونه. أكثر من الآلات والسيارات والأبنية وحتى البشر. الحضارة تقوم على الفن. الفن يخلد الحضارة والفن الجيّد يستلهم من الخالق ومخلوقاته"، قال ماضي.

لا أعلم كيف سيُحفظ إرث المعلّم حسين ماضي. أعلم أن هناك محاولات مبعثرة يطغى عليها هم الربح المادي. لكنني أعلم أكثر أنه يستحق متحفا كبيرا في بيروت أو غيرها من العواصم العربية يليق بفنّه. فنّه سيدوم أكثر منّا جميعا وسيكون علامة مضيئة للعالم العربي وللأجيال المقبلة في زمن القحط الفني الذي نعيشه.

font change

مقالات ذات صلة