زينب فواز صاحبة أول موسوعة عربية لتراجم النساء

حين شارك كتاب في مؤتمر النساء العالمي 1893 وغابت مؤلفته بسبب "المحرم"

زينب فواز

زينب فواز صاحبة أول موسوعة عربية لتراجم النساء

اشتهرت الكاتبة زينب فواز (1860- 1914) بدفاعها القوي عن فكرة المساواة التامة بين الرجال والنساء، بما في ذلك العمل خارج المنزل، والمشاركة السياسية انتخابا وترشحا. وبعد أن خاضت في سجالات مع كتَّاب وكاتبات حول أهلية المرأة لأن تتبوأ دورها في المجتمع، على قدم المساواة مع الرجل، قررت أن تترجم أفكارها بكتاب يعرض سير نساء من مختلف أصقاع العالم، ضارعن الرجال في المجالات كافة، اعتمدت فيه طريقة موسوعات التراجم العربية المعروفة في التراث العربي باسم "الطبقات"، فأطلقت عليه اسم "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، وبذلك تكون المناضلة النسوية العربية الأولى التي أصَّلت أفكارها بمنهج تاريخاني.

من جبل عامل إلى القاهرة

ولدت زينب بنت علي فوّاز، الشهيرة بالعاملية، في بلدة تبنين، إحدى بلدات جبل عامل الرئيسة، جنوبي لبنان عام 1860، لأسرة فقيرة. وارتحلت صغيرة إلى الإسكندرية، لتلتحق بشقيقها المحامي محمد علي فواز، حيث درست هناك دراسة خاصة لغوية وفقهية، وتتلمذت على شيوخ الإسكندرية. وبعد فترة انتقلت مع شقيقها إلى القاهرة، وهناك نشطت في الصحافة، وأصبح اسمها مطروقا في المنتديات الأدبية، فأعجب بها الأديب والصحافي الدمشقي أديب نظمي (1840 – 1918)، وتبادلا الرسائل طويلا قبل أن يتزوجا عام 1879، فسكنت في دمشق ثلاث سنوات، أقامت خلالها صالونا أدبيا في بيت زوجها، ثم طلبت الطلاق عام 1882 بسبب خلافات دبّت بينها وبين زوجة أديب نظمي الثانية، إذ كان صعبا عليها وهي المرأة المثقفة، صاحبة الشخصية القوية، أن ترضى بأن تبقى زوجة ثانية، على الرغم من حبها لنظمي وحبه الجارف لها.

بعد عودتها إلى مصر استأنفت فواز نشاطها الصحافي ، مقالات ورسائل سجالية، فكتبت في جرائد ومجلات عدة، منها "النيل"، و"لسان الحال"، و"المؤيد"، و"اللواء"، و"الأهالي"، و"الاتحاد المصري"، و"الفتاة"، و"أنيس الجليس". وتعدّدت أعمالها الأدبية، فكتبت روايتي "حسن العواقب"، و"الملك كورش"، والمسرحية الشعرية "الهوى والوفاء"، و جمعت مقالاتها في كتاب بعنوان "الرسائل الزينبية"، وقصائدها في ديوان باسمها، إضافة إلى موسوعة التراجم النسائية التي نحن بصددها، والتي خلدت اسمها في سجل التاريخ النسوي. وكانت وفاتها في منتصف شهر يناير/ كانون الثاني 1914 مفاجئة لكل من عرفها، فهو لم تكن تشكو من أي مرض، ولم تكن قد تجاوزت الرابعة والخمسين من العمر.

استندت في كتاباتها إلى مخزون تراثي إسلامي كبير، مُطَعَّم بمعرفة تاريخية عميقة وقلم جزل 

تفتحت مواهب فواز الأدبية والصحافية في أوج النهضة الثقافية العربية في الشام ومصر، ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انتعشت الآمال بعصر جديد، بعد ثورة التنظيمات المجيدية، نسبة للسلطان عبد المجيد (1839 – 1861)، وتوسّع التعليم، ودخول مظاهر الحداثة إلى المجتمع العثماني. وانتشرت على نطاق واسع دعوات لتعليم النساء، تبنّتها الإرساليات التبشيرية البروتستانتية على وجه الخصوص، وهي دعوات تدور في فلك الأفكار الفيكتورية، نسبة للملكة فيكتوريا (1819- 1901)، من تمجيد لقيم العائلة، والعمل لهدف وحيد هو خدمة الزوج والأولاد على أكمل وجه، مع تأكيد قوامة الرجل.

وسرعان اشتعلت على صفحات جرائد ومجلات بيروت والقاهرة سجالات حول أفكار المساواة، والغاية من تعليم النساء، فانبرى نفرٌ من مثقفي ذلك العصر يكتبون عن الفروقات البيولوجية، والإمكانات العقلية التي يتفوق فيها الرجال على النساء. وكانت زينب فواز نجمة من نجوم تلك السجالات، حيث كانت تكتب في صحف ومجلات بيروت والقاهرة، وتفند الأفكار الذكورية فكرة فكرة، وتقوم بنقضها على طريق المناطقة، مستندة في كتاباتها إلى مخزون تراثي إسلامي كبير، مُطَعَّم بمعرفة تاريخية عميقة، وقلم جزل ولغة سهلة مترابطة الجمل والأفكار.

مهمة صعبة

كان واضحا لزينب فواز أن هذه السجالات لا تكفي وحدها للتبشير بقيم المساواة في المجتمع، والدفاع عن حقوق النساء المهضومة ما لم تستند إلى منجز فكري، رأت أن أفضل تعبيراته هو كتابة موسوعة لسير النساء القديمات والمعاصرات تثبت من خلالها خطل الآراء التي تنتقص من المرأة. وفي ذلك تقول: "أفرد لنصف العالم الإنساني (تقصد النساء) بابا باللغة العربية جمعت فيه من اشتهرن بالفضائل، وتنزهن عن الرذائل، مع أنه نبغ منهن جملة سيدات، لهن المؤلفات التي حاكين بها أعاظم العلماء، وعارضن فحول الشعراء، فلحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفْرٍ يسفر عن مُحَيَّا فصائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل، وجمع شتات تراجمهن بقدر ما يصل إليه الإمكان، وإيراد أخبارهن من كل زمان ومكان".

وبعد أن تحدّثت عن صعوبة المهمة التي انتدبت نفسها إليها، بسبب نقابها الشرعي، قالت إنها استعانت علىتأليف موسوعتها بكتب التاريخ العام العربية، وما تيسر لها من المجلاتالعلمية. وقرَّ رأيها على أن تكون بصيغة معجمية على حروف الهجاء، كما هو الحال مع هذا النوع من التآليف، وعنونت موسوعتها بعنوان مستقى من التراث العربي "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، وقالت إنها كتبتها لخدمة بنات جنسها، مراعية صياغة فصولها بطريقة مختصرة، "مُتجنِّبة كل ما يؤدي إلى الملل"، خالية من ذكر "الأسانيد والعنعنة، والأمكنةوالأزمنة". وألحقت بالمقدمة المصادر التي اعتمدتها، وبلغ عددها 39 مصدرا رئيسا من مصادر التأريخ العربي والإسلامي، وعددا غير محدّد من المجلات والجرائد، وبعض المصادر الخاصة، فبلغ عدد النساء اللواتي انتظن في أبواب الموسوعة أكثر من 450 امرأة من مختلف العصور والأمكنة، من آمنة بنت وهب أم الرسول الأكرم (ص)، إلى "ليدي رسل" أبنة وزير مالية بريطانيا، وما بينهما من أديبات، وطبيبات، وشاعرات، ومربيات، ومقاتلات، وملكات، وقديسات.

تتفاوت الترجمات الواردة في موسوعة فواز من حيث الحجم، فبعضها لا يتجاوز الأسطر الخمسة، والبعض الآخر يمتدّ على أكثر من عشر صفحات، ويبدو أن سبب تخصيصها لبعض النساء بصفحات كثيرة، هو لفت النظر إليهن، مثل الشاعرة الشهيرة عائشة الباعونية، التي عاشت في العصر المملوكي، واشتهرت بين أدباء عصرها، أو المناضلة النسوية المعاصرة لها مريم مكاريوس (1860- 1887) مؤسسة جمعية "باكورة سوريا"، أولى الجمعيات النسائية في العالم العربي في العام 1879، حيث أفردت لها أكثر من 12 صفحة، عرَّفت بمنجزها، ونشرت إحدى رسائلها حول رحلتها إلى القاهرة، وهو أول نص رحلة نسائي باللغة العربية، وكذلك مقالة فندت فيها آراء الدكتور شبلي شميل (1850 - 1917) حول معارضته لفكرة المساواة بين النساء والرجال. ومن الترجمات اللافتة كذلك ترجمتها للسيدة مريم نحاس نوفل (1856- 1888)، وهي مثقفة بيروتية شرعت في عام 1873 بتأليف كتاب تراجم لبعض نساء عصرها بعنوان "معرض الحسناء في تراجم النساء"، وهو أول كتاب بالعربية في بابه، ولكن القدر لم يسعفها لكي تكمله، فتوقفت في جزئه الأول المخصص لحرم خديوي مصر وبعض السيدات الأخريات.

سفر الكتاب دون كاتبته

وبسبب شهرتها في المنافحة عن حقوق النساء، وجهت رئيسة مؤتمر النساء العالمي في شيكاغو عام 1893 بيرثا هونوريه بالمر (1849 –1918) بطاقة دعوة لزينب فواز، لإلقاء كلمة في المؤتمر. وقد فوجئت بالمر حين اعتذرت فواز عن الحضور شاكرة دعوتها، مبرّرة ذلك بموانع شرعية إسلامية تتعلق بضرورة وجود محرم معها. لم تفهم السيدة بالمر عذر فواز، التي كانت تتبنى أفكارا نسوية غاية الليبرالية، فطلبت منها شرحا لذلك العذر. وكجواب على تساؤلات بالمر، أرسلت زينب فواز رسالة تضمنت شرحا مبسطا لأحكام النساء الواردة في الفقه الإسلامي، ولكنها مع ذلك شجعت بنات جنسها، من السوريات القادرات على السفر إلى شيكاغو بأن لا يتردّدن بالذهاب والمشاركة الفاعلة.

اعتذرت فواز عن حضور مؤتمر النساء العالمي، مبرّرة ذلك بموانع شرعية إسلامية تتعلق بضرورة وجود محرم معها

وخطر لزينب فواز أن ترسل موسوعتها "الدر المنثور في طبفات ربات الخدور" للمشاركة في معرض الكتب النسائية، المقام على هامش المؤتمر، فشجعتها السيدة بالمر على ذلك، ورحبت بالفكرة، فسافر الكتاب من دون كاتبته، وعرض في المعرض إلى جانب كتب الناشطة النسائية التركية فاطمة علياء توبوز (1862- 1936)، والتي أرسل كتبها إلى المعرض السلطان عبد الحميد الثاني شخصيا، بعد أن استنكر توجيه دعوة لمربيته وأمه الروحية بريستو قادين، لتمثيل السلطنة في المؤتمر.

لقاء مع شيخين

اشتهرت زينب فواز بموسوعتها حتى أصبحت ملازمة لاسمها أينما حلت، وحين قام الشيخ جمال الدين القاسمي (1866- 1914) برحلته إلى مصر عام 1903 بصحبة شيخه عبدالرزاق البيطار (1837 - 1916)، زارتهما زينب فواز في مقر إقامتهما، فكتب الشيخ القاسمي في يومياته: "ويوم الخميس 26 شوال زارتنا الأديبة زينب خانم فواز المصرية، صاحبة التاريخ المسمى بـ "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، وكانت تعرفت بصفيِّنا عبد الرزاق أفندي من دمشق أيام قدمت مخطوبة لصديقنا الأديب البليغ أديب بك نظمي، ثم بعد تزوجه بها طلقها وعادت إلى وطنها".

font change

مقالات ذات صلة