تركيا... مدرسة للقسوة السياسية

غضب ضد كل ما يمس بالرواية التاريخية الرسمية

تركيا... مدرسة للقسوة السياسية

في أي سياق وانتظام سياسي وأيديولوجي وفكري يُمكن تصنيف إجراءات تركيا تجاه أكراد سوريا منذ أكثر من عشر سنوات وحتى الآن؟

وأي منطق سياسي يمكن له أن يستوعب هذا الكم من القسوة المتناهية التي تمارسها دولة تملك جيشا مصنفا كأقوى وأكثر جيوش المنطقة حداثة وتسليحا، وعضوا أساسيا في أقوى تحالف عسكري في العالم وعبر التاريخ (حلف الناتو)، ضد أناس ومنطقة متناهية الضعف، شيدوا مجالا لحكم محلي هش، فقط لحماية أنفسهم من وحشية تنظيم "داعش" الإرهابي، وشمولية النظام السوري؟

تقصفهم تركيا كل يوم تقريبا، تستهدف البنى التحتية ومصادر الطاقة، والمطابع والحواجز الأمنية والسجون التي تحوي أعتى إرهابيي العالم، تنظم وتسلح جماعات متطرفة للفتك بهم، تقطع عنهم مياه نهر الفرات وتبيد بيئتهم الزراعية، تستخدم أجهزة دعائية ضخمة، لإثارة نعرات أهلية بينهم وبين نظرائهم العرب، تدير شبكة استخباراتية ضخمة، لاغتيال الموظفين المدنيين ضمن كوادر تلك المنطقة، وقبل كل ذلك تمارس سياسيات للتغيير الجغرافي والديموغرافي في المناطق التي سيطرت عليها ضمن المنطقة نفسها، وكل ذلك فقط لأنهم "الآخرون"، الأكراد.

الأكثر دلالة من هذا الفعل السياسي/ العسكري التركي ضد المدنيين الأكراد السوريين، هو الصمت المريع لكل طبقات المجتمع التركي تجاهه، فخلا بعض الساسة والمثقفين الأكراد في البرلمان وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ثمة موات عام فيما خص هذه المسألة، يمتد من المثقفين والكتاب والفنانين، ويمر بالنشطاء المدنيين والحقوقيين، ولا ينتهي بقادة الرأي ورجال الدين وأعضاء النخبة الأكاديمية والفكرية. ولو حدث أن رفع أحد ما صوته، فإن زلزالا كاملا من العنف اللفظي والقضائي، وربما العقابي الجسدي، سيكون في وجهه مباشرة.

لا يمكن لأي مراقب أن يُقدم مقاربة موضوعية، تدل على أن أكراد سوريا يشكلون أي مسّ بالأمن القومي التركي

لا يمكن لأي مراقب أن يُقدم مقاربة موضوعية، تدل على أن أكراد سوريا يشكلون أي مسّ بالأمن القومي التركي؛ فخلال هذه السنوات لم يحدث أي تجاوز أمني من مناطق سيطرتهم نحو الحدود التركية، ويعلنون على الدوام تفهمهم لكل ما قد يطمئن تركيا ويراعي شروط أمنها القومي، ويؤكدون استعدادهم التام للتعاون الأمني معها، في قطاعات مكافحة الإرهاب ومناهضة الجريمة المنظمة وأي شيء آخر ضمن لائحة مجالات التعاون الأمني التقليدية. فوق ذلك، لا يمانعون في إجراء حوار سياسي معها، يمكن له أن يغير شكل الحياة السياسية في هذه المنطقة جذريا، ويُدخل جهات مقربة ومرتبطة بتركيا ضمن الفضاء الحاكم، فقط في سبيل تجاوز تركيا لمخاوفها. لكن الأخيرة مصرة طوال هذه السنوات على رؤية صفرية مطلقة، تختصر كل ما يجري في تلك المنطقة بعبارة موجزة ومغلقة "هؤلاء إرهابيون، سنقضي عليهم".
لا يخص الأمر أكراد سوريا فحسب، فهو طيف من الاستراتيجيات السياسية والسلوكيات السياسية التي تمارسها تركيا تجاه محيطها.
فما هو المنطقي وذو القيمة في دعم تركيا ومشاركتها لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا خلال السنوات الثلاث الماضية؟ أي بُعد أخلاقي وإنساني لحدث مثل الهجوم على إقليم شاسع مثل آرتساخ (ناغورنو كارباخ)، وإخلائه من مئات الآلاف من سكانه التاريخيين الأرمن، ومن ثم مشاركة السلطات الأذربيجانية في الاستعراضات العسكرية الفجة، المتخمة بخطابات النصر والبطولة والذكورة الفجة، المتمركزة حول عبارتين عنصريتين فحسب: "تم محق الآخرين"، "ثمة المزيد من المحق". 
مثلها أيضا أشياء في الداخل التركي: عشرات الأحزاب السياسية، حاكمة ومعارضة، مختلفة فيما بينها على كل التفاصيل التي تتعلق بالاقتصاد والإدارة المحلية، لكنها متفقة مطلقا على نفي حدوث أية إبادة جماعية مارستها الدولة التركية ضد الأرمن أو اليونان أو الأكراد، وتتمركز حول قداسة الجيش وعظمة واستثنائية الأمة التركية، على الغضب والعنف في وجه كل ما قد يمس السردية التاريخية الرسمية التي تلقفوها في مؤسسات الدولة، التي تفسر العالم والظواهر والتاريخ والحاضر، انطلاقا من أن تركيا هي "مركز الكون"، بهجة واحتفاء وإيمان منقطع النظير بالقوة، العسكرية والمحضة منها بالذات، أيا كانت مفرزتها ونتائجها ووقائعها، على الذات وعلى الآخرين، فالمهم في المحصلة هو تحطيم كل ما قد يعكر ذلك الصفاء في رؤيتهم للعالم.  

أصبحت تركيا تسير في درب البدائية، التي ترى وتفهم وتتصرف حسب منطق القوة فحسب

الأتاتوركية بكل مستوياتها، الأيديولوجية والعسكرية والسياسية والسلوكية، تلك الأتاتوركية صار لها اليوم في تركيا ما هو على يمينها، سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا وسلوكيا؛ إذ لا يتوانى زعيم الحركة القومية التركية، وشريك التحالف الحاكم، دولت بهجلي، عن اتهام رئيس "حزب الشعب الجمهوري" الأتاتوركي، أوزغور أوزيل بالانحلال السياسي ودعم الإرهاب ومحاولة تقسيم تركيا. ومثله تفعل زعيمة "الحزب الجيد" المعارض ميرال أشكنار، وقبلهما كل قادة ووسائل إعلام ودعاية "حزب العدالة والتنمية" الحاكم. أطراف سياسية لا ترى ضيرا في إلغاء المحكمة الدستورية، أو فصل عشرات الآلاف من الأساتذة الجامعيين لأنهم يملكون رأيا سياسيا، وممارسة الجيش لأفعال شائنة بالمعايير الإنسانية في الحروب التي يخوضها، ومثلها أشياء لا تعد ولا تُحصى.
أصبحت تركيا تسير في درب البدائية، التي ترى وتفهم وتتصرف حسب منطق القوة فحسب، الممزوجة بأوهام أسطورية متخيلة عن الأمة العظمى والبطولات الخارقة والأمجاد العتيدة، فقط لأنها رفضت السير في طريق آخر، هو الحداثة السياسية، التي كان الطريق نحو الاتحاد الأوروبي يمثلها يوما ما.

font change