استرجاع أموال الجزائر المنهوبة... مسار مليء بالأشواك

التجارب الدولية الناجحة قليلة نسبياً

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

استرجاع أموال الجزائر المنهوبة... مسار مليء بالأشواك

مرت أربع سنوات كاملة بالتمام والكمال على خوض الجزائر المعركة القضائية الدولية لاستعادة الأموال المنهوبة. لكن يبدو أن رحلة الألف ميل قد تستغرق دهرا، فالقضاء الجزائري نجح إلى غاية اليوم- حسب تصريحات صادرة عن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل أيام- في استرجاع 30 مليار دولار، الحصة الأكبر منها تم تحصيلها داخل البلاد، بينما يبقى امتحان استرجاع الأموال المنهوبة خارج الدولة هي التحدي الصعب والمعقد، بسبب اتخاذ العواصم الأوروبية الأموال المسروقة كورقة ضغط تلجأ إليها في علاقتها بالنظام.

ومنذ فترة قصيرة، وبالتحديد خلال خطاب ألقاه أمام أعضاء غرفتي البرلمان، بتاريخ 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن رئيس الجزائر أن سلطات بلاده "استرجعت ما يفوق 30 مليار دولار من الأموال التي نهبت خلال حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة".

رفض أوروبي

ويكشف فحوى وثيقة رسمية حول الأموال والممتلكات المستردة، أن القضاء الجزائري بسط يده على جزء كبير من أموال "العصابة" (تضم رجال أعمال ورؤساء حكومات ووزراء سابقين وحتى نوابا سابقين) في الداخل، لكن يبدو أن القضاء تعترضه عثرات على الصعيد الخارجي لصعوبة الوضع لعدة أسباب أبرزها وجود حصة منها في "الجنات الضريبية" التي تستقطب أصحاب رؤوس الأموال حول العالم، إضافة إلى رفض عواصم أوروبية التجاوب مع مطلب الجزائر.

DPA
الرئيس عبد المجيد تبون

ومن بين الثروات التي صودرت داخل البلاد شركات كبرى ومؤسسات إعلامية وأراض زراعية وصناعية، ولعل أكبرها قطعة أرض في محافظة "البيض" غربي البلاد، تبلغ مساحتها 50 ألف هكتار (الهكتار الواحد يعادل 10 آلاف متر مربع)، إضافة إلى هذا استرجع القضاء الجزائري فندق 4 نجوم في برشلونة الإسبانية، كان جزءا من ثروة علي حداد الخيالية وزعيم الكارتل المالي في عهد الرئيس بوتفليقة.

وحسب المعطيات التي حصلت عليها "المجلة"، فقد استرجع القضاء الجزائري مصانع تجميع السيارات، على غرار مصنعي "هيونداي"، و"سوزوكي"، إضافة إلى مجمع ضخم يشرف على تسيير النقل الحصري للطلبة الجزائريين، وظل يحتكر هذا المجال لقرابة عقدين كاملين من الزمن، والمجمع تابع لرجل الأعمال الجزائري محي الدين طحكوت، إضافة إلى أكثر من 5000 سيارة من الطراز الفاخر وطائرات ومجمعات إعلامية.

مهمة متعثرة

كذلك استرجعت الحكومة أيضا مصانع تجميع السيارات التابعة لعلامة "كيا" وعلامة "فولكسفاغن" التي كانت مملوكة لرجلي الأعمال حسان عرباوي، ومراد علمي، دون أن ننسى مصانع كبرى للعصائر والزيوت التي استرجعت.

بالنسبة لاسترجاع الأموال المنهوبة في الخارج، يصف الخبير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، البروفيسور نور الصباح عكنوش، الوضع بـ"المعقد"، ويقول في حديثه لـ"المجلة": "الموضوع معقد لأنه ليس ذا بعد تقني وجنائي وقضائي فقط بل له أبعاد متداخلة والتجارب الدولية الناجحة في هذا الميدان قليلة نسبيا".

مما عقد مهام الجزائر اليوم أن "المال المنهوب الموجود خارج الوطن استفادت منه الدول والهيئات التي قامت بتوطين هذا المال لصالحها

ولو حاولنا إسقاط هذه التجربة على الجزائر، يرى عكنوش أن "العملية تتطلب جهدا كبيرا لتحصيل ما أمكن وعلى مراحل، في ظل إشكاليات تواجه العملية التي تشكل تحديا حقيقيا للدولة الجزائرية، فهي اليوم تواجه صعوبات قانونية من جهة البنوك أو الدول التي تحتضن السيولة المهربة، خاصة وأن قيمة الأموال المتراكمة هامة جدا ولم تسترجع بسهولة وهو ما يحتم علينا حاليا ابتكار آليات جديدة في التعامل مع الموضوع دون الضغط على البلاد أو المخاطرة بسيادتها أو التسرع أو استعماله من طرف دوائر خارجية سياسيا، فالجزائر تملك الإمكانات اللازمة لتحقيق هدفها الاستراتيجي في استرجاع المال المنهوب والموجود خارج الوطن".

Reuters
الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة

ومما عقد مهام الجزائر اليوم، يشير المتحدث إلى أن "المال المنهوب والموجود خارج الوطن استفادت منه الدول والهيئات التي قامت بتوطين هذا المال لصالحها دون مساعدة السلطات الجزائرية في استرجاع ما هُرب من مال هناك، بل وفرت ملاذا آمنا لتهريب المال إليها وأعادت تدويره في اقتصادها، رغم أنها على مستوى الأدبيات تسوق خطابا إيجابيا لكنها في الواقع توظف الموضوع بشكل برغماتي في فائدتها".

إكراهات

بوجمعة غشير، وهو أحد أهم الشخصيات القانونية والحقوقية في الجزائر وشغل لسنوات طويلة رئاسة الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، يبدو أنه غير متفائل بـ"استرداد كل ما تمت سرقته ونهبه والاستيلاء عليه".
وفي حوار مقتضب مع "المجلة"، يتحدث غشير عن أبرز الإشكالات المطروحة على الساحة الحقوقية والقانونية، مثل عدم وجود اتفاقات ثنائية مع الجزائر في مجال تسليم المطلوبين في استرجاع الأموال المهربة. 
وإلى اللحظة لا يتجاوز عدد الاتفاقات التي أبرمت في هذا المجال أصابع اليد الواحدة، آخرها اتفاق لتسليم المجرمين بين الجزائر وتونس، إذ صادق البرلمان التونسي مؤخرا بالأغلبية على مشروع قانون أساسي يتعلق بالموافقة على اتفاق تسليم المجرمين مع الجزائر والذي يهدف إلى تعزيز التنسيق بين البلدين في مجال مكافحة الجريمة والإرهاب.

العائق الأكبر الذي يحول دون إنجاز المهمة، هو "وجود شخصيات بارزة من النظام السابق في حالة فرار

وفي 23 سبتمبر/أيلول 2023، اتفقت كل من الجزائر وإيطاليا على تحديث اتفاق تسليم المجرمين بين البلدين في إطار تعزيز التعاون في مجال محاربة الجريمة المنظمة العابرة للحدود وملاحقة المطلوبين، وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قانون الاتفاق المبرم بين روسيا والجزائر لتبادل وتسليم المطلوبين، ويتعهد الطرفان بموجب الاتفاق بتبادل وتسليم المطلوبين جنائيا أو الملاحقين بأحكام قضائية غيابية.
العائق الأكبر الآخر الذي يحول دون إنجاز المهمة، كما يشير بوجمعة غشير هو "وجود شخصيات بارزة من النظام السابق في حالة فرار، بينهم وزير الصناعة الجزائرية والمناجم سابقا عبد السلام بوشوارب أحد وجهاء نظام الحكم في عهد الرئيس بوتفليقة".

ما المطلوب اليوم؟

ومن العثرات القانونية الأخرى، يستعرض الحقوقي بوجمعة غشير، "التزام البنوك الأجنبية بسرية الحسابات البنكية، فهي فعلا أكبر عقبة لمكافحة جرائم تبييض الأموال لأن مرتكبي هذه الجرائم يفضلون عادة اللجوء إلى الدول التي تعتمد السرية المصرفية وهي الطريقة المنتهجة في كثير من الدول التي تشجع الاستثمار لا سيما الأجنبي منه، وهي تعتبر من الموانع، لذا صرح النائب السويسري السابق جان زيغلر الذي سعى جاهدا إلى إبطال نظام السرية المصرفية: "تختفي الأموال القذرة في المغاور داخل المصارف لتخرج ثانية في مظهر محترم جاهز للاستثمار".

هنا يقول الخبير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية نور الصباح عكنوش، إن "الجزائر مطالبة بالتوجه نحو الدول المعنية بالأحكام القضائية بالصيغة التنفيذية، وفي حالة الرفض تقوم الدولة برفع دعوى قضائية لدى الجهات المختصة في البلدان المعنية للتبليغ عن الأموال المهربة وحجزها وهو مسار طويل يتطلب تعاونا سياسيا وقضائيا مع الشركاء في الضفة الأخرى للمتوسط على الأقل لتسهيل عمل الدولة الجزائرية في هذا الباب وهو ما لم يتحقق بشكل ملموس وشامل حتى الساعة دون أن يمنع ذلك الجزائر من مواصلة جهدها".

حجم الفساد الذي بلغ مستويات ضخمة في زمن ما يعرف بـ"العصابة" جعل القضية صعبة ومعقدة التنفيذ

لذلك يؤكد عكنوش لـ"المجلة" أن "هدف الجزائر في الموضوع معقد، ولا يمكن ربطه إطلاقا بآجال محددة بقدر ما يجب مواصلة السعي إلى النجاح فيه بصمت أحيانا وبفعالية".

وخلال الأربع سنوات الماضية، كشفت تقارير إعلامية أن "السلطات الجزائرية وجهت أكثر من مائتي إنابة قضائية دولية لاسترجاع كل ما نهب، وطلبت المساعدة من 31 بلدا"، وذكر في هذا المضمار أنه "تم توجيه 259 إنابة قضائية دولية، 40 منها وجهت عام 2022، و7 طلبات مساعدة قضائية إلى 31 بلدا، لتحديد الأموال المهربة وحجزها وتجميدها بغرض مصادرتها، وإلى غاية اليوم تم التنفيذ الجزئي لـ62 إنابة قضائية دولية لتحديد الأموال المنهوبة وتجميدها".
وقبل عامين من هذا التاريخ، طفا على سطح المشهد السياسي في البلاد مقترح إبرام مصالحة مالية مع المتورطين بجرائم مالية مقابل استرداد الأموال المنهوبة وضخها في خزينة الدولة والتي تتجاوز- حسب تحقيقات أمنية- عشرات المليارات من الدولارات في ظل غياب أرقام رسمية إلى غاية خط هذه الأسطر.

AFP
مظاهرة مناهضة للحكومة في الجزائر العاصمة في 12 ديسمبر 2019

المقترح الذي قدمه رئيس حزب جبهة المستقبل سابقا، وهو حزب جزائري حديث النشأة، كان مجرد فقاعة إعلامية، صنع الحدث إعلاميا لفترة ثم أصبح في طي النسيان، وهو ما أكده حينها الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية مبروك كاهي في حديث لـ"المجلة". وقال إن ما طرح "مجرد خطاب موجه للاستهلاك الشعبي"، وقد ربطه آنذاك بـ"أسباب سياسية وداخلية"، وأكد "استحالة إبرام أي مصالحة مالية واقتصادية في الظروف الحالية دون ضبط دقيق للكتلة المالية التي تم نهبها. 
ويؤيده في الرأي الخبير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية نور الصباح عكنوش، ويقول في حديثه لـ"المجلة" إن "حجم الفساد بلغ مستويات ضخمة في زمن ما يعرف بـ(العصابة) جعل القضية صعبة ومعقدة التنفيذ. كما أن حساسية الرأي العام تجاه أشخاص بعينهم ساهموا في سرقة أموال الشعب خلال تقلدهم المسؤوليات التنفيذية العليا سابقا تجعل الإقدام على أي خطوة في هذا الاتجاه ليست بالأمر الهين وتحتاج إلى نضج أسباب تفعيلها كما قلت، فالحالة الجزائرية لها خصوصياتها المختلفة عن نظيراتها في تونس أو دول أخرى عرفت ظواهر الفساد في مراحل معينة كل حسب سياقه التاريخي ونمط إدارته الشأن العام".

font change

مقالات ذات صلة