لقمان سليم: "جماليات" قتل لبنان المستمر

ثلاث سنوات على اغتياله والقاتل ما زال "مجهولا"

 AFP
AFP
لقمان سليم

لقمان سليم: "جماليات" قتل لبنان المستمر

تحل اليوم السبت الذكرى الثالثة لاغتيال الكاتب والناشر والناشط السياسي اللبناني لقمان سليم المولود سنة 1962 في محلة الغبيري بضاحية بيروت الجنوبية. نُفذت عملية اغتياله - إعدامه برصاصات خمس أُطلقت على رأسه من مسافة قريبة. حدث القتل في الساعة التاسعة ونحو 20 دقيقة من ليلة 4 فبراير/ شباط 2021. وفي الصباح التالي وُجدت جثته في سيارته قرب بلدة العدوسية اللبنانية الجنوبية، بعد أقل من ساعة على اختطافه من قرية نيحا، على مسافة 36 كلم جنوب العدوسية. وأُثبِت أنه تعرض للتعذيب قبل إعدامه.

منذ العام 2005 على الأقل، صارت ذِكَرُ الاغتيالات كثيرة ومزدحمة في اليوميات اللبنانية. وهناك من يقول إنها اقترنت بالسياسة ولابستها ملابسة حميمة، بل حلت محلها وأعدمتها، وشرعت في تخريب لبنان المستمرة فصوله بلا توقف. وكان اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005 في بيروت، قد شكل منعطفا كبيرا أشار إلى اعتماد الاغتيالات سبيلا لإعدام السياسة. لكن "ثورة الأرز"، بردها السياسي على القتل آنذاك وإعدام السياسة، وبتمكنها من تحرير لبنان من سيطرة نظام الأسد الأمني السوري على لبنان، أدت إلى مضاعفة عمليات الاغتيال.

إعدام السياسة

ومنذ ذلك الوقت، نشط لقمان سليم في العمل السياسي المدني والإعلامي، الحقوقي والتوثيقي، ردا على إعدام السياسة. فجعل، مع زوجته الألمانية مونيكا بورغمان وشقيقته رشا، دارتهم في محلة الغبيري مقر نشاطات ثقافية وفنية وحقوقية. منها نشاط جمعية "أمم" لتوثيق وقائع الحروب الأهلية في لبنان (1975- 1990) وجرائمها واغتيالاتها، ولمناهضة ثقافة الإفلات من المحاسبة والعقاب و"عفا الله عما مضى" المتبعة كسياسة في الديار اللبنانية.

شكل اغتيال رفيق الحريري منعطفا كبيرا أشار إلى اعتماد الاغتيالات سبيلا لإعدام السياسة

وضاعف لقمان نشاطه ووسعه، جعله مركزا ومحموما في كشفه "سياسات" حزب الله، عقب انفجار مرفأ بيروت الصاعق والمدمر في 4 أغسطس/ آب 2020، وبعدما قضت محكمة دولية في العام نفسه بأن قياديا في الحزب إياه يدعى سليم عياش، هو من خطط ونفذ (مع كثيرين سواه من أمثاله) عملية اغتيال الحريري في وسط بيروت الذي كان ساهم (الحريري) مساهمة أساسية في إعادة إعماره بعدما دمرته الحروب المديدة.

وكان منزل لقمان سليم في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، وقرب مربع "حزب الله" الأمني في حارة حريك، هو المقر الأساسي لتلك النشاطات. ومنزل سليم وأهله، دارة قديمة الطراز المعماري، وحوطها حديقة تذكر بعمران قرى ما كان يسمى ساحل المتن الجنوبي الريفي، القريب من بيروت، والمختلط طائفيا، قبل أن تحوله الهجرات إليه والحروب فيه والتهجير منه، إلى صفاء طائفي شيعي.

AFP
عناصر من القوى الأمنية يتجمعون حول السيارة التي عثر فيها على جثة سليم

وكان محسن سليم (1918- 2000) والد لقمان، والنائب القديم في البرلمان اللبناني، قد حدث دارة أهله وحافظ على طرازها. لكن عمران الضواحي الفوضوي، وفوضى إدارة العمران المزمنة في لبنان، حاصراها بغابات بنايات الإسمنت، قبل أن تحاصرها رقابة حزب الله الأمنية، أقله منذ العام 2005.

وظلت الدارة منزلا عائليا ببيوت ومداخل كثيرة، كالدروب الصغيرة القديمة في حديقتها العامرة المعمرة. وهي تشبه ساكنيها في إلفتهم وتباين أمزجتهم ونشاطاتهم وكثرة المسافات والفواصل بينهم. وهذا لتذكر بالماضي المندثر، وبما كان يوما بلادا فسيحة، وصار حصنا أمنيا مهولا بعد طوفان الإسمنت والقتل. وهو طوفان جعل البشر وحياتهم، اللغة والتخاطب بين البشر، أصلب من الإسمنت، وأشبه بمسدس مكتوم الصوت.

وهذا كله أراد لقمان سليم فك طلاسمه وألغازه، فراح يجمع عنه وثائق وشهادات وصورا سماها "ديوان الذاكرة اللبنانية". وهو إلى ذلك كان شغوفا، مع شقيقته رشا، باللغة العربية، بتجديدها أسلوبا وقولا ونشرا.

وفي ليل 12-13 ديسمبر/ كانون الأول 2019، أي قبل أقل من سنتين من اغتياله، أُلصقت على سور حديقة دارته - المقر الثقافي والفني والتوثيقي الناشط والمفتوح، قصاصاتٌ ورقة كُتِبت عليها عبارات وعيد وتهديد بالقتل. منها: "صهيوني صهيوني، لقمان سليم صهيوني"، "المجد لكاتم الصوت"، "محسن سليم ولقمان سليم هما وجهان لعملة الخيانة - العمالة"، "حزب الله شرف الأمة"، و"العمالة بالدم من الأب إلى الابن".

وصبيحة النهار التالي أعلن لقمان أن ما يصيبه أو ما يصيب عائلته من "مكروه مسؤول عنه زعيم حزب الله حسن نصر الله وزعيم حركة أمل نبيه بري الذي يعمل في أوقات فراغه رئيسا للبرلمان" في لبنان.

سوابق الإعدام ودوام الرعب

يشبه قتل لقمان سليم في الأسباب والتنفيذ قتل شخصين سبقاه:

- الشيوعي الرومنطيقي، الطيب حتى السذاجة، ميشال واكد (1947- 1986) الذي يشبهُهُ أصدقاؤه بمسيح ضيعته القديمة حارة حريك. منزلا ميشال ولقمان متقاربان في حارة حريك والغبيري. ومنذ بدايات حروب لبنان الأهلية، نشط ميشال واكد في إغاثة منكوبين في ضاحية بيروت الجنوبية ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين فيها. وفي النصف الأول من عشرية لبنان الحربية السوداء (1980- 1985) لم يكف واكد عن دفع الخوف من صدور بقايا أهالي حارك حريك المسيحيين، كي لا يفروا من ديارهم وبيوتهم إلى ديار الصفاء الطائفي المسيحي في كسروان بجبل لبنان.

AFP
زهور على ضريح الراحل لقمان سليم في حديقة منزل عائلته

وفي نهار من العام 1986، اختُطف ميشال واكد واختفى أياما في غمرة اندفاع نشاط خلايا سرية وثيقة الصلة بالحرس الثوري الإيراني، الذي كان أنشأ الخلايا السرية الأولى لحزب الله في سهل البقاع والضاحية الجنوبية، بإجازة من وشراكة مع نظام حافظ الأسد.

وكانت تلك الخلايا تسمى بعدُ المقامة أو الحالة الإسلامية في لبنان، عندما كان محمد حسين فضل الله خطيبها العلني وفقيهها المفوه من مسجد بئر العبد. وهي كانت تنشط آنذاك في قتل شيوعيين بارزين واغتيالهم، وتهجير المسيحيين من بيروت وبقاياهم من ضاحيتها الجنوبية، وفي خطف رعايا وباحثين وصحافيين أجانب في لبنان، منهم الباحث والمستعرب ميشال سورا، الذي قتل في زنازين خاطفيه، ونشر لقمان سليم كتابه عن بريرية النظام السوري ونشره.

وبعد أيام من خطف ميشال واكد واختفائه وجد جثة على شاطئ الرملة البيضاء البيروتي.

- الشخص الآخر الذي سبق قتلُهُ قتلَ لقمان سليم، هو جو بجاني المولود سنة 1983. جرت عملية أعدام بجاني بمسدس مكتوم الصوت، صباح 21 ديسمبر/ كانون الأول 2020، قرب بيته وفي سيارته ببلدة الكحالة، غير بعيد من ضاحية بيروت الجنوبية. وقد صورت كاميرات في المباني القريبة عملية القتل وفرار القتلة. وكثيرة هي التقارير المنشورة التي تشير إلى أن المصور الصحافي جو بجاني وثق أدلة مصورة عن انفجار مرفأ بيروت، وسلمها إلى محققين أميركيين وفرنسيين.

ضاعفت حادثة اغتيال أو إعدام بجاني نشاط لقمان سليم السياسي والإعلامي والحقوقي المثابر والعنيد، غير عابئ بالوعيد والتهديد بالقتل الذي بشره به قبل نحو سنة من ألصقوا عبارات تهديدهم على جدران حديقة منزله.

وفي الأثناء كانت عبارة "دام رعبكم" قد كُتبت على صورة تجمع قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس القتيلين في العراق وعماد مغنية القتيل في سوريا. والعبارة تعني دام ما فعلتموه في سوريا ولبنان والعراق واليمن. والصورة عُلقت في شارع بيروتي يختلط سكانه السنة والشيعة، وغالبًا ما كان يشهد توترات واستنفارات طائفية يقوم بها مسلحوا حركة أمل وحزب الله.

وبعد العثور على جثة لقمان سليم في سيارته صبيحة 4 فبراير/ شباط 2021، وشاع خبر قتله في وسائل الإعلام، غرد جواد حسن نصر الله، نجل زعيم حزب الله: "خسارة البعض هي في الحقيقة ربح ولطف غير محسوب"، وذيلها #بلا- أسف#.

لكن العبارة الأفظع والأشنع وردت على "فيسبوك": "أنتم وأنتن، دعوا حقدكم وتكلموا بشيء من المنطق. نعلم وتعلمون أن القتيل لا يملك صفة تؤهله للقتل بجمال أيدينا". أنتن؟ المنطق؟ هاتان الكلمتان تعنيان أن القتلة المنادين بدوام رعب قادتهم صاروا يحسبون حسابًا للنساء! ويعلنون أن أيديهم تمنح القتل جمالًا لا يغدقونه إلا على مستحقيه الذين ليس منهم لقمان سليم.

حقول القتل

استُبقت "أمم للأبحاث والتوثيق" ذكرى اغتيال لقمان سليم الثالثة بإصدارها العدد الأول من مجلة - جريدة وثائقية عنوانها "رقم 4" (ربما مستمد من تاريخ انفجار مرفأ بيروت، حيث خُزِنت ألوف أطنان نيترات الأمنيوم التي انفجرت في 4 أوغسطس/ آب ودمرت المدينة). وقد تصدرت  العدد عبارة كتبها لقمان: "عن صديقي سعيد الجن: المحافظة على أطلال الدولة يقتضي، في عداد ما يقتضي، توهين الدويلة وإضعافها. أثمان التوهين بخسة مهما بدت للوهلة الأولى، باهظة".

ونشرت المجلة - الجريدة ترجمة تحقيقٍ في عنوان "رحلة إلى الموت" للكاتب والصحافي ومراسل مجلة "دير شبيغل" الألمانية كريستوفر رويتر. وهو يروي تفصيليًا الوقائع أو الساعات الأخيرة الموثقة من حياة لقمان، والتي سجلتها كاميرات متاجر ومبان كثيرة، فيما كان في طريقه من بيروت إلى قرية نيحا الجنوبية، وحتى شيوع خبر مقتله. ويروي رويتر كذلك وقائع التحقيق القضائي اللبناني البائس في الجريمة.

كانت عبارة "دام رعبكم" قد كُتبت على صورة تجمع قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس القتيلين في العراق وعماد مغنية القتيل في سوريا

أخيرًا، روى رويتر حادثة أخرى وقعت في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2020، على بعد حوالي كلم واحد من المكان الذي وُجدت فيه جثة لقمان سليم داخل سيارته. وهي حادثة قتل طبعا. والقتلة هم من يقول حزب الله إنهم "الأهالي الغاضبون" الذين قتلوا الجندي الإيرلندي شون روني، الذي كان في عداد قوات "اليونيفل" الدولية العاملة في جنوب لبنان، وفي طريقه إلى مطار رفيق الحريري في بيروت.

في الختام كتب رويتر: "كان لقمان سليم يؤمن بيوتوبيا غير مألوفة حول إنهاء الهمجية في لبنان (...) لكنه على حين غرة غُدِر، ولم يعد إلى دياره" المسمومة أصلًا يتلك الهمجية.

AFP
متظاهرون يحملون صور سليم، خلال تجمع حاشد أمام قصر العدل في العاصمة بيروت، في 4 فبراير 2021

وفي عدد المجلة دراسة (كتبها مروان أبي سمرا) عنوانها "الاغتيالات السياسية في لبنان وسلاسلها". ومن مقدمتها نقتطف: "عرف لبنان منذ استقلاله سنة 1943 موجات متعاقبة من جرائم الاغتيال السياسي (...) ولئن كان معظم (المغتالين) لبنانيين، إلا أن للفلسطينيين والسوريين وسواهم من بلدان عربية وديبلوماسيين أجانب، نصيب منها. فلبنان يتصدر، إلى جانب دول إخرى، قائمة الاغتيالات السياسية".

والدراسة هذه جزء من عمل بحثي وثائقي طويل تعده "مؤسسة لقمان سليم" التي تٌعنى بالاغتيالات السياسية في لبنان والبلدان العربية.

font change

مقالات ذات صلة