لبنان... عندما تتآكل "شرعية" الدولة و"حزب الله"

سقوط معادلات ما قبل الحرب

AFP
AFP
الدخان يتصاعد من أحد الحقول بعد غارة جوية إسرائيلية على قرية كفركلا بجنوب لبنان في 19 يناير

لبنان... عندما تتآكل "شرعية" الدولة و"حزب الله"

إذا كانت الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان بدءا من خريف عام 2019 قد أعلنت فشل الدولة اللبنانية وشكلت محطة مفصلية في تاريخ لبنان لجهة انهيار العقد الاجتماعي بين اللبنانيين ودولتهم، فإن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وامتداداتها في الجنوب اللبناني شكّلت محطة مفصلية في تاريخ "حزب الله". وبالقياس على "صعود الحزب" بعد حرب يوليو/تموز 2006، فإن الحرب الحالية هي بداية التراجع الفعلي لـ"الحزب" من أعلى نقطة وصلها بعد حرب عام 2006.

صحيح أن المشاركة في الحرب السورية شكلت تحديا خطيرا بالنسبة لـ"حزب الله" نظرا إلى تداعيات انغماسه في "الحرب الأهلية الإقليمية" على صورته "كقوة مقاومة" في وجه إسرائيل، لكن تداعيات الحرب الحالية على "الحزب" أخطر بكثير، خصوصا أن رجوعه إلى "المقاومة" كان رجوعا مشككا فيه لبنانيا وعربيا وحتى فلسطينيا. أي إن هذا الرجوع لم يكن كفيلا بمسح الغبار المتراكم لبنانيا وعربيا على صورته طيلة السنوات الماضية، بل زاد فوقه غبارا فلسطينيا أيضا.

والحال أن "حزب الله" الذي يقيم اعتبارا قويا لـ"لعبة" الصورة والخطاب يواجه خلال هذه الحرب إرباكا غير مسبوق على مستوى صورته وخطابه، أي على مستوى مفهومه كـ"قوة مقاومة". وهذا أمر ستكون له تبعات بعيدة المدى على "الحزب" باعتبار أن سقوط مفهوم أي فكرة هو مقدمة لسقوط الفكرة نفسها، أي إن عدم القدرة على الاستمرار في الدفاع عن فكرة معينة بحجج قوية هو الخطوة الأولى نحو سقوط تلك الفكرة.

الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هدفها، على المدى البعيد، تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، أي خلق "شرق أوسط جديد" بالمعنى الفعلي هذه المرة

كذلك فإن الإرباك الذي يواجهه "حزب الله" في سياق المعركة الحالية له أسباب متصلة بـ"طبيعة" المعركة نفسها لناحية موازين القوى بين أطرافها وحساباتها المعقدة بالنسبة للحزب لا على المستوى اللبناني وحسب بل أيضا على المستوى الإقليمي المتصل بالحسابات الاستراتيجية لإيران؛ فإن هو بادر إلى توسيع الحرب خسر لبنانيا، وفي المقابل فإن إبقاءه عملياته ضمن سقف مضبوط يسحب من رصيده فلسطينيا ولدى "جمهور المقاومة" عموما. لكن مع الوقت لم تعد هذه المعادلة المعقدة وحدها ما يربك "الحزب"، بل إن "حجم" الحرب هو بحد ذاته عامل إرباك، ليس على قوة صغيرة مثل "حزب الله" وحسب، بل على مستوى اللاعبين الكبار في المعركة سواء الولايات المتحدة الأميركية أو إيران أو إسرائيل.

شرق أوسط جديد

خرجت هذه الحرب منذ اللحظة الأولى من دائرة المعركة "العادية" بين "حماس" وإسرائيل، أي إنها لا تشبه أبدا أي حرب سابقة بين الطرفين، بل هي في الواقع ومنذ بدايتها حرب إقليمية تنخرط فيها ديناميات دولية، أي إنها حرب لتحديد معالم "شرق أوسط جديد" مختلف عما كان قائما قبل الحرب. وهذا يسقط تلقائيا أي قراءة تبسيطية للحرب ونتائجها وفق المعادلات السابقة عليها. بمعنى أننا إزاء هذه الحرب أمام معطيات مغايرة تماما عنوانها الأساسي أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هدفها، على المدى البعيد، تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، أي خلق "شرق أوسط جديد" بالمعنى الفعلي هذه المرة، وليس وفق المحمولات القديمة لتعبير "الشرق الأوسط الجديد".

REUTERS
جنود إسرائيليون ينظفون مدفعا بالقرب من الحدود بين إسرائيل وغزة في 22 يناير

لذلك فإن القراءة الدقيقة للحرب الحالية تفترض التطلع إلى نتائجها بعيدة المدى على مستوى موازين القوى في المنطقة وليس إلى تفاصيلها الآنية كما لو كانت مجرد حرب بين "حماس" وإسرائيل وكما لو كانت ارتداداتها الحالية في المنطقة- وبالتحديد لجهة مشاركة وكلاء إيران فيها- ارتدادات آنية متصلة بالحرب الدائرة تنتهي فور انتهائها. وهذا ما يظهر أكثر الآن مع بدء إسرائيل الانتقال التدريجي إلى "المرحلة الثالثة" للحرب القائمة على تقليص الكثافة النارية مقابل زيادة العمليات الجراحية الأمنية ضد "حماس" في قطاع غزة وضد وكلاء إيران في المنطقة، بل حتى ضد إيران نفسها.

إسرائيل تخوض معركة طويلة مع "حماس" ليس للقضاء عليها بالمعنى الحرفي كما قالت تل أبيب في بداية الحرب، بل لمنعها من إعادة بناء قدراتها العسكرية

وهنا لا يمكن إغفال "طبيعة" مشاركة الولايات المتحدة الأميركية في الحرب من خلال تولي الرد على هجمات "أنصار الله" في البحر الأحمر وهجمات الميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق ضد "المصالح الأميركية" في كلا البلدين، باعتبار أن هذه المشاركة ليست مشاركة "عابرة" متصلة بالتطورات الميدانية للحرب الحالية، بل إنها تندرج ضمن التصور الأميركي لمرحلة ما بعد الحرب، وبالتحديد لجهة أن قدرة أميركا على التعايش مع النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة ستكون بعد الحرب أقل مما كانت عليه قبلها. وهذا ما يفسر الغطاء الأميركي لــ"الجرأة" الإسرائيلية على استهداف كوادر إيرانية رفيعة المستوى في سوريا. مع العلم أن هذه الاغتيالات الإسرائيلية في سوريا ولبنان هي جزء من/ امتداد لـ"المرحلة الثالثة" للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

AFP
مشيعون يحملون نعش الجنرال في "الحرس الثوري الإيراني" صادق عمي زاده الذي قُتل في دمشق بغارة إسرائيلية في 20 يناير، خلال جنازته بطهران في 22 يناير

والحال كذلك فإن ديناميكية "المرحلة الثالثة" إسرائيليا وحتى أميركيا تكشف عن الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية والأميركية للحرب لجهة التصميم على تعديل موازين القوى في المنطقة من خلال توجيه ضربات موجعة لإيران ووكلائها. وهذا يحيلنا إلى أمرين متداخلين:
-    الأول: أهداف إسرائيل من المعركة في قطاع غزة.
-    الثاني: الدفع الأميركي لتصميم "اليوم التالي" للحرب. 
بالنسبة للأمر الأول من الواضح أن إسرائيل تخوض معركة طويلة مع "حماس" ليس للقضاء عليها بالمعنى الحرفي كما قالت تل أبيب في بداية الحرب، بل لمنعها من إعادة بناء قدراتها العسكرية كما كانت عليه قبل الحرب. السؤال هنا ليس إذا كانت "حماس" سترفع الراية البيضاء أم لا؟ بل حتى لو بقيت "حماس" على قيد الحياة فإن إسرائيل مصممة على عدم تمكينها من بناء قدراتها مجددا، وهذا يدفع تل أبيب للعمل على مستويين: "تأمين" الحدود المصرية مع قطاع غزة فوق الأرض وتحتها، وتقليص قدرة إيران وذراعها الإقليمية الرئيسة "حزب الله" على نقل الأسلحة إلى "حماس". وهو ما ينطبق أيضا على "حزب الله" نفسه، بمعنى أن إسرائيل ستعمل أيضا على منعه من مواصلة بناء قدراته، وهو مسار كان قد بدء قبل الحرب من خلال استهداف شحنات الأسلحة ومخازنها في سوريا وعلى الطريق بين العراق وسوريا. وهذا ما يفسر "نوعية" الاغتيالات الإسرائيلية ضد كوادر "فيلق القدس" في سوريا، بمعنى أنها تستهدف الجهة المعنية ببناء مقومات الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة.

"حزب الله" ليس في وضع مريح، وهذا أمر قد يدفعه إلى محاولة ترميم الوضع اللبناني العام كمدخل إلى ترميم وضعه الخاص

أما الأمر الثاني المتصل بالتصور الأميركي لـ"اليوم التالي" في غزة، فهو بطبيعة الحال لا يقتصر على "اليوم التالي" في غزة، بل يشمل أيضا "اليوم التالي" في المنطقة، لأن الأمرين مرتبطان ارتباطا وثيقا، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون هناك "يوم تال" في غزة دون المنطقة، أو أن مستقبل غزة هو جزء من مستقبل المنطقة ككل والعكس صحيح، خصوصا أن ترجمة تصور "اليوم التالي" متعذرة من دون مشاركة دول المنطقة، العربية تحديدا.

بين أميركا وإيران

يحيلنا ما سبق إلى قراءة ديناميات "العلاقة" الأميركية الإيرانية في سياق الحرب الحالية. فإذا كانت واشنطن مهتمة بالاستقرار الإقليمي، وهي لذلك معنية بعدم سعي إيران لتحويل حرب غزة إلى حرب إقليمية، فإن مساعي واشنطن لترتيب "اليوم التالي" تصطدم بمساعي إيران لبناء "تفوق" استراتيجي في المنطقة عبر شبكة ميليشياتها الإقليمية. وبالتالي فإن المعادلة التبسيطية التي تقول إن واشنطن ستكافئ طهران لعدم توسيعها الحرب من خلال الاعتراف بنفوذها المتسع في المنطقة، بما في ذلك في لبنان، هي معادلة مشكوك فيها حاليا، بالنظر إلى أن مثل هذه المكافأة الأميركية تتناقض مع محاولة واشنطن التسويق لـ"اليوم التالي"، باعتبار أنّ المشاركة العربية في "اليوم التالي" لا يمكن أن تتساوق مع مسار أميركي منفصل مع إيران يقوم على الاعتراف بنفوذها في المجال الاستراتيجي العربي. فضلا عن أن أميركا لا يمكنها تجاهل الاعتراض الإسرائيلي على نمو نفوذ إيران في المنطقة والذي أدى إلى تقوية "حماس" إلى هذا الحد.

AFP
عناصر الدفاع المدني يزيلون أجزاء من سيارة قيادي في "حزب الله" اغتيل بطائرة من دون طيار ببلدة البازورية جنوبي لبنان في 20 يناير

ولذلك فإن المرحلة المقبلة مليئة بالتعقيدات بالنسبة للاعبين الكبار، فكيف بالنسبة إلى "حزب الله" الذي تتآكل "شرعيته" بقوة كـ"مقاومة"، بالتوازي مع تآكل "شرعية" الدولة اللبنانية إلى حد الانهيار التام. وهذا تهديد إضافي لـ"حزب الله" باعتبار أنه لا يتحرك ضمن "بيئة وطنية" مواتية. صحيح أن موقف حكومة تصريف الأعمال الحالية مناسب له، لكن انهيار خدمات الدولة وإمكاناتها يرتب على "الحزب" أعباء اجتماعية كبيرة لناحية مواكبة النازحين من القرى الحدودية، فكيف إذا توسعت الحرب؟! 
كذلك فإن استمرار إسرائيل في استهداف كوادر "حزب الله" هو أخطر عليه من عمليات القصف المتبادل عبر الحدود، فهذا واقع يؤذيه ولا يستطيع التأقلم معه لفترة طويلة في ظل التفوق التكنولوجي الإسرائيلي الذي يبدو أن "الحزب" يواجه صعوبات في التعامل معه. 
في المحصلة فإن "الحزب" ليس في وضع مريح، وهذا أمر قد يدفعه إلى محاولة ترميم الوضع اللبناني المنهار من خلال معالجة المشكلة السياسية الأهم في لبنان والمتمثلة في فراغ رئاسة الجمهورية، خصوصا أن "حزب الله" يعلم أنه لا يستطيع الرهان على مقايضات سياسية مفتوحة مع واشنطن في الظرف الراهن. ولذلك فهو قد يقدم على تنازلات في الداخل اللبناني باعتبار أن ترميم الوضع اللبناني العام يساعده في ترميم وضعه الخاص. تماما كما حصل في زمن الحرب، فعندما تآكلت "شرعية" الميليشيات أصبحت مستعدة للتسوية في ظرف إقليمي ودولي موات ومُحكَم!

font change

مقالات ذات صلة