مستوطنات الفضاء والحدود المتحركة الأسطورية

الحالمون بالمريخ لا يزالون متشبثين بأحلام الغرب القديم

Shutterstock
Shutterstock

مستوطنات الفضاء والحدود المتحركة الأسطورية

عام 1873، أقر الكونغرس الأميركي قانون زراعة الأشجار الخشبية، الذي منح ما يصل إلى 160 فداناً إلى أي رب أسرة يرغب في زراعة 40 فداناً من الأشجار ورعايتها في منطقة السهول الكبرى لمدة 10 سنوات. لكن عندما حاول المستوطنون المحتملون الدخول في تجارة الأخشاب، واجهوا مشكلة تبدو واضحة لأي شخص في العصر الحديث – من دون إمدادات ضخمة من المياه، لا يمكن للمرء ببساطة أن يسقط غابة في وسط منطقة من البراري الجافة.

هل كان مزارعو القرن التاسع عشر أغبياء؟ لا، لكنهم كانوا مرتبكين. استندت الفكرة القائلة إن بمقدور المرء زراعة الأشجار الخشبية في البراري إلى النظرية القائلة بأن "هطول الأمطار يلي المحراث" – وهي فكرة فقدت مصداقيتها الآن ومفادها بأن المرء إذا حرث عشب البراري بمحراث، سيتحسن امتصاص التربة لمياه الأمطار، وستطلق التربة المياه ببطء مرة أخرى إلى الغلاف الجوي، ما يزيد من هطول الأمطار في المستقبل. أي إذا زرع المرء البراري، سيأتي المطر.

إذا عشتم في السهول الكبرى في القرن التاسع عشر، لكان من المفيد أن تعرفوا أن حرث التربة ما كان ليستجلب حتماً مناخاً جيداً. وهكذا، إذا عشتم على سطح المريخ في القرن الحادي والعشرين، سيكون من المفيد أن تعرفوا أن البيئة القاسية والمسافة الكبيرة التي تفصله عن كوكب الأرض لن توفرا حتماً مناخاً سياسياً جيداً.

ومع ذلك، يواصل مناصرو استيطان الفضاء الدفع بنظريات الغرب الأميركي ذات أسس أسطورية أكثر منها تاريخية. وأهمها ما يُسمَّى بـ "أطروحة تيرنر" – وهي نظرية كبرى عن الغرب الأميركي باتت خارج التيار الأكاديمي السائد منذ عقود.

لقد وصلنا إلى ما نحن عليه كأميركيين لأننا شعب رأسمالي يؤمن بالحدود المتحركة

الكاتب جي هاري ستاين

فكرة الحدود الأميركية

تبدأ "أطروحة تيرنر" بخطاب ألقاه مؤرخ شاب يدعى فريدريك جاكسون تيرنر عام 1893 عن طبيعة حدود الولايات المتحدة الأميركية، إذ وضع أفكاراً واصل تطويرها على طريق نيله الشهرة في مختلف أنحاء البلاد.

إليكم فكرته الأساسية: كانت الحدود الأميركية عبارة عن خط توسع يتحرك باستمرار غرباً، حيث أمكن للرجال الأوروبيين الوصول إلى أراضٍ رخيصة. ومن خلال المطالبة بتلك الأرض والسيطرة عليها، وتنظيم أنفسهم لمحاربة سكانها السابقين، اكتسبوا عدداً من الصفات الاجتماعية الجيدة – القوة، والفردية القاسية، والروح الديموقراطية. وتسربت هذه القيم مجدداً إلى الساحل الشرقي الغني مع توحيد التقاليد الأوروبية المتنوعة في الهوية الأميركية المجيدة.

وعلى غرار أي نظرية جيدة تتعلق بالطبيعة البشرية، تتضمن النظرية السقوط من المجد. في تطور أعرب تيرنر عن أسفه حياله في خطاب ألقاه عام 1893، أُغلِق خط الحدود أخيراً، وفق تعداد سكاني أُجرِي عام 1890، ما عنى انتهاء المساحات الواسعة المتصلة من الأراضي غير المبتوت في شأنها. لقد ولت أيام الحدود المتحركة، ما عرّض تلك القيم القديمة المتصلة بها كلها إلى خطر – ولجم الديناميكية الأميركية وأطفأ محرك العظمة الأميركية.

للمزيد إقرأ: "جيمس ويب" معجزة تكنولوجية في مجاهل الفضاء

هذه تفاصيل جذابة لمحبي المستوطنات الفضائية. ليست الحدود المتحركة مجرد مكان نذهب إليه – إنها مكان "يجب" أن نذهب إليه، لنصبح أقوياء وقساة وديموقراطيين ولكي نتوحّد. هذه النظرية، التي كانت مقبولة على نطاق واسع بين المؤرخين في النصف الأول من القرن العشرين، دخلت في خطاب استيطان الفضاء في شكل متحمس ومبسط في شكل خاص. وفي حين بات تيرنر، بمرور الوقت، قلقاً من أن القوى التي أطلقتها الحدود المتحركة قد أدت أيضاً إلى شكل خطير من الشعبوية، يميل مؤيدو المستوطنات الفضائية إلى رؤية استيطان ما يُسمَّى بالحدود النهائية أمراً جيداً في شكل مباشر.

تأملوا الخبير في مجال الصواريخ والكاتب جي هاري ستاين الذي يقول في كتابه "في منتصف الطريق إلى أي مكان": "لقد وصلنا إلى ما نحن عليه كأميركيين لأننا شعب رأسمالي يؤمن بالحدود المتحركة". أو الأستاذ في جامعة برينستون جيرالد كاي أونيل في كتابه الرائد "الحدود العليا"، الذي كتب يقول عن المستوطنات الفضائية: "يا لها من فرصة للأفراد النادرين والموهوبين لإنشاء عوالمهم الصغيرة الخاصة على صعيد المنزل والأسرة، كما كان سهلاً قبل قرن في أميركا عندما توسعت إلى حدود جديدة".

هذه النسخة المبسطة من "أطروحة تيرنر" الحدودية طُعِّمت بخطاب عن الفضاء – إذ لا تزال حتى يومنا هذا، تظهر، مثلاً، في البيان الفلسفي الخاص بجمعية الفضاء الوطنية، الذي يشير إلى كيف أن "وجود الحدود المتحركة أدى إلى تطوير 'المجتمع المفتوح' القائم على مبادئ الحقوق والحريات الفردية".

كان الهندي الأحمر خطرا مشتركا، يتطلب عملا موحدا. وهكذا، كانت الحدود المتحركة مدرسة تدريب عسكري، تبقي قوة مقاومة العدوان حية، وتطور صفات القوة والصلابة لدى الرجل المقيم في الحدود المتحركة

مشكلة المؤرخين والمريخ

المشكلة هي أن المؤرخين المحترفين الذين ليس لديهم موقف مؤيد للسكن في المريخ أو مناوئ له قد استندوا إلى حد كبير على أطروحة تيرنر. كتب مؤرخ الغرب الأميركي وليام كرونون يقول عام 1987: "في نصف القرن الذي مرّ على وفاة تيرنر، تعرضت سمعته إلى سلسلة من الهجمات المدمرة التي لم تترك سوى القليل من حجته سليماً".

لذلك، إذا كانت الفكرة ميتة على الأرض، فلماذا نجهز جثتها لرحلة صاروخية؟

Shutterstock
منظر لشروق الشمس، ويظهر بالخلف كوكب المريخ الأحمر

بمرور الوقت، تطورت المقاومة ضد التيرنرية. أصبح ما يُسمَّى بـ"تاريخ الغرب الأميركي الجديد" هذا مهيمناً في مراحل ثمانينيات القرن العشرين كلها، وكان أحد الانتقادات الرئيسية التي وجهها إلى تيرنر هو أن الرجل تمكن في الأغلب، أثناء إلقائه نظرة فوقية على التاريخ، من رؤية المستوطنين الذكور البيض فقط يزدهرون على الأرض. هو يذكُر حقاً وجود الأميركيين الأصليين، لكنه يذكرهم دائماً تقريباً باعتبارهم جانباً من جوانب الحياة الوحشية – كمشكلة أخرى يجب التعامل معها في ترويض الأرض.

عدد قليل جداً من مناصري الفضاء الحديثين على استعداد لتجاهل العنف المستمر المرتكب ضد السكان الأصليين – ما يريد كثيرون فعله "حقاً" هو استعادة الديناميكية التيرنيرية المزعومة العائدة إلى تلك الفترة، باستثناء تلك الممارسات السيئة كلها. وما لم نصادف مريخيين، في نهاية المطاف، لا يوجد سكان أصليين في النظام الشمسي يمكن تجريدهم من ممتلكاتهم. 

لكن تيرنر نفسه اعتبر الحاجة إلى محاربة البشر الآخرين جزءاً لا يتجزأ من العملية التي أوجدت الأميركيين. قال عام 1893: "كان الهندي الأحمر خطراً مشتركاً، يتطلّب عملاً موحداً". وهكذا، كانت الحدود المتحركة "مدرسة تدريب عسكري، تبقي قوة مقاومة العدوان حية، وتطور صفات القوة والصلابة لدى الرجل المقيم في الحدود المتحركة".

للمزيد إقرأ: "نحو الفضاء"... استعادة سعودية لأمجاد الفلك

إذا كنتم ترغبون في الإبقاء على أطروحة تيرنر عن الفضاء، سيتعين عليكم ببساطة تخطي هذا الجزء، إلا إذا كنتم تعتقدون بأن الصعوبة الطبيعية للمريخ يمكن أن تعمل في شكل ما كمدرسة تدريب عسكرية تماما كما كان عليه الأمر افتراضا بالنسبة لمقاتلة بشر آخرين.

العبودية... و"الإبادة الهندية"

يستبعد تيرنر أشخاصاً آخرين أيضاً، استُغِل عمل كثيرين منهم. يذكر العبودية، لكنه يتجاهل الأميركيين السود الذين ذهبوا غرباً – أحياناً كأشخاص أحرار، وأحياناً خلافا لإرادتهم. ويستبعد المهاجرين الصينيين، الذين ساعدوا في بناء كثير من البنية التحتية في المنطقة في ظروف وحشية مشينة. ويستبعد الأشخاص من أصل إسباني الذين كانوا يعيشون في الغرب الأميركي منذ قرون عدة بعد حروب الغزو الإسبانية. ويستبعد النساء إلى حد كبير، النساء اللائي ذهبن في كثير من الحالات إلى الغرب في ظل شكوك تساورهن. في إحدى الدراسات التي أُجرِيت على يوميات من سلكوا طريق أوريغون، أعربت ثلاثة أرباع كاتبات اليوميات عن رغبتهن في البقاء في مواطنهن.

كان الغرب الأميركي دائماً مرتبطاً ببقية البلاد – بسبب الحاجة إلى تمويل ضخم للتنمية. ليس فقط في شكل أراضٍ بأسعار مخفضة للغاية، بل أيضاً بانتشار الجيش الأميركي، الذي أبقى أحيانا 90 % من قواته غرباً، يخوض حروب الإبادة الهندية

قال روبرت زوبرين، مناصر الفضاء في العصر الحديث الذي يؤيد صراحة إطار تيرنر كنظرية لعلم اجتماع الفضاء، إن الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كانت "مسرحاً ارتجالياً كبيراً بما يكفي للترحيب بالآتين جميعاً من دون توزيع للأدوار". لكن حتى لو كنا نعتقد بأن بعض الرجال البيض استمتعوا بهذا النطاق الرائع من الحرية، لا ينبغي لنا أن نستنتج أن كل شخص آخر استمتع به.

يزعم تيرنر أيضاً أن القيم الجيدة والمؤسسات الديمقراطية التي طُوِّرت على الحدود المتحركة عادت لتحل في المجتمع الأميركي ككل. يخالفه الرأي مؤرخون حديثون. كانت هناك، بالطبع، مؤسسات حكومية أنشأها مستوطنو الغرب الأميركي وأُنشِأت من أجلهم، لكن اعتبار الشرق الأميركي القديم مخنوقاً ومنظماً تنظيماً مفرطاً مقارنة بالغرب الحر ليس صادقا تماما. 

كتبت باتريشيا ليميرك، إحدى مؤرخات الغرب الأميركي الجدد البارزين، تقول: "جاءت الديمقراطية الأميركية من مفكرين مقيمين على الساحل الشرقي، وليس من المستوطنات المتواضعة في المناطق الداخلية". وعلى أي حال، كان الغرب الأميركي دائماً مرتبطاً ببقية البلاد – بسبب الحاجة إلى تمويل ضخم للتنمية. ليس فقط في شكل أراضٍ بأسعار مخفضة للغاية، بل أيضاً بانتشار الجيش الأميركي، الذي أبقى أحيانا 90 في المئة من قواته غرباً، يخوض ما يُسمَّى بحروب الإبادة الهندية.

توفَّر أيضاً تمويل حكومي للبنية التحتية المادية عبر البلاد قبل إغلاق الحدود بوقت طويل. وعلى رغم وجود بعض المناطق التي عاش فيها المستوطنون البيض معزولين نسبياً عن الحكم الفيديرالي، لم يكن الغرب مستقلاً تماماً عن الشرق، ولم يكن واضحاً أنه المنبع الوحيد للديموقراطية الأميركية.

وجدت الدراسات التي أجراها روبرتو ستيفان فوا وآنا نيميروفسكايا عامي 2015 و2019 أن المناطق الحدودية كانت أكثر تسامحاً مع المهاجرين وأقرب إلى الإيمان بتفوق "المسؤولية الشخصية على المسؤولية الحكومية"

هواة المستوطنات الفضائية

من واقع خبرتنا، يرى بعض المهووسين بالمستوطنات الفضائية أن إثارة المسائل المذكورة أعلاه هي قيمة صائبة سياسياً – نوع من القلق في شأن الأشياء الدنيئة العائدة إلى الماضي بدلاً من التركيز على مستقبل يمكن أن يفيد الجميع.

لكن أطروحة تيرنر ليست خاطئة سياسياً فقط. هي أيضاً أحد الأشياء القديمة الخاطئة المعتادة. وفي الشكل التبسيطي المستخدم في خطاب استيطان الفضاء خصوصاً، هي نموذج سيء. لكي تصدقوا ذلك، عليكم أن تؤمنوا بنظرية زمان ومكان تستبعد معظم الموجودين فيهما، وكثيراً مما كانوا يفعلونه، والنتائج المؤسسية التي أنشأوها. عند هذه النقطة، ما منفعة النظرية كدليل أو تبرير؟

للمزيد إقرأ: كوكب "خفي" جديد في نظامنا الشمسي

في الآونة الأخيرة، أُضِيفت سلسلة من الأوراق الجديدة بقيادة خبير الاقتصاد الكلي صموئيل بازي إلى أدبيات تاريخ الغرب الأميركي، ما تسبب بضجة لأنها بدت وكأنها تحيي شيئاً من شبح تيرنر.

المعركة أكاديمية، يدور معظمها حول الأساليب والتفسير، لكن النتيجة الأساسية كانت أن الأجزاء الأميركية التي قضت معظم الوقت في اختبار ما يُسمَّى بتجربة الحدود المتحركة باتت لديها ثقافة مختلفة إلى حد ما عن الأماكن التي لم تفعل. لقد كانت هذه الأماكن أكثر ميلاً إلى التصويت للجمهوريين خلال الانتخابات الأخيرة وأكثر اتجاهاً إلى دعم تخفيضات الإنفاق الفيديرالي المخصص لمساعدة الفقراء – وكانت لدى سكانها قدرة أعلى على التحرك بين شرائح الدخل.

هناك بالتأكيد هواة المستوطنات الفضائية الذين سيكونون سعداء بهذه القيم. لكن لا تستعدوا للذهاب إلى المريخ الآن. البيانات معقدة عندما يتعلق الأمر بأي خطط تُعنَى بخارج كوكب الأرض.

أولاً، كانت التداعيات التي عُثِر عليها متواضعة للغاية. مثلاً، لكل عقد إضافي يُمضَى في ظل ظروف حدودية، كانت المقاطعات أكثر عرضة بنسبة واحد في المئة إلى دعم التخفيضات المخصصة للرعاية الاجتماعية.

ثانياً، لا يمكن لهذه البيانات أن تبدي لنا ما إذا كانت هذه القيم مستمدة من أثر حدودي فعلي أو مجرد اعتقاد ثقافي بإحدى هذه القيم.

كانت حكايات الغرب الأميركي القديم شائعة بالفعل خلال الزمن الفعلي الخاص بهذه المناطق. لقد جرى تداول روايات شعبية حول شخصيات مثل وايلد بيل هيكوك حتى عندما كانت هذه الشخصيات لا تزال على قيد الحياة. لذلك، على الرغم من أن القيم التي يعتنقها هؤلاء الناس يمكن أن تنبع من البيئة الحدودية المعزولة والقاسية في الأيام الماضية، ربما هي نشأت أيضاً لأن الأساطير حول الماضي شكلت وجهات نظر هؤلاء الناس عن أنفسهم.

أو يمكن أن ينطوي الأمر على شيء آخر تماماً. من دون معرفة الآلية التي أوجدت هذه القيم، لا يمكننا التأكد من إعادة إنتاجها في الفضاء.

البقاء على قيد الحياة رهن التكنولوجيا

ثالثاً، في ورقة لاحقة، وجد المؤلفون أنفسهم بعض السمات التي ربما كانت أقل استحساناً في الفضاء. أظهر الناس في المناطق الأقرب إلى الحدود استعداداً أقل للثقة في الإجماع العلمي واستعداداً أقل للتباعد الاجتماعي أو استخدام أقنعة الوجه في وقت مبكر من جائحة كوفيد-19. وقد لا يكون ذلك رائعاً في بيئة الفضاء، وهو مكان يعتمد فيه البقاء على قيد الحياة على التكنولوجيا المتقدمة والتعاون المتبادل.

ووُجِدت نتائج مماثلة في أجزاء أخرى من العالم، مثل كندا وروسيا، التي كانت لها مناطق "أساسية" و"حدودية" مميزة، ما أدى إلى تداعيات متواضعة مماثلة. وجدت الدراسات التي أجراها روبرتو ستيفان فوا وآنا نيميروفسكايا عامي 2015 و2019 أن المناطق الحدودية كانت أكثر تسامحاً مع المهاجرين وأقرب إلى الإيمان بتفوق "المسؤولية الشخصية على المسؤولية الحكومية". ومرة أخرى، كان الأثر ضئيلاً: زيادة بنسبة 1,4 في المئة و2,7 في المئة على التوالي، مقارنة بالمناطق غير الحدودية.

تحظى بعض هذه الأوراق باهتمام أكاديمي في الوقت الحالي، ولا نريد أن نخسر أداة وسط معركة كبرى في مجال العلوم الاجتماعية. النقطة التي نريد توضيحها هي أن الأثر الظاهر للحدود المتحركة، حتى لو قبلنا أكثر التفسيرات تيرنرية في العلوم الاجتماعية الحديثة، صغير جداً ومختلط تماماً، وأن طريقة عمله غير مفهومة تماماً.

إن أثر الحدود المتحركة ذو أهمية علمية، وبصراحة، وجدنا الدراسات مثيرة للاهتمام، لكنها بعيدة كل البعد عن الوعد بمستقبل يمثل تحولاً.

عام 2019، زعم إيلون ماسك أن الانتقال إلى المريخ "سيكلف يوماً ما أقل من 500 ألف دولار وربما أقل من 100 ألف دولار

يزعم بعض مناصري الفضاء أن الوصول إلى أرض جديدة سيزيد من فرصة السلام لأن النزاع يدور حول الأراضي، والفضاء لديه كثير من الأراضي التي يمكن التجول فيها. وربما هذا هو مصدر أحد الدروس الحقيقية المستقاة من الغرب القديم.

الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين

عندما انفتح الغرب الأميركي على المستوطنين البيض، تحدث كثيرون عن أراضٍ شاسعة غير محدودة عملياً. فهل توقفت الحرب؟

لا.

كان الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين، بالطبع، في حد ذاته سلسلة امتدت لقرون من حروب الغزو العنيفة، التي كانت مستمرة منذ ما قبل تأسيس الولايات المتحدة. لكن تلك الأرض كلها لم تمنع الأميركيين البيض من الاقتتال في ما بينهم. كانت التوترات حول ما إذا كان ينبغي على الولايات الجديدة السماح بالعبودية أو حظرها سبباً رئيساً للحرب الأهلية – وهو نزاع استهلك أرواحاً أميركية أكثر من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام مجتمعة، ما أوجد استياء بين الأقاليم لا يزال مستمرا بعد 160 سنة.

وبينما نحتفل بحقيقة أن الحرب الأهلية أنهت أبشع مؤسسة في تاريخ أميركا، مؤسسة العبودية، لا ينبغي لنا أن نتظاهر بأن إعطاء الأرض المجانية إلى البشر ستمنح السلام تلقائياً. قد تفعل العكس تماماً.

Shutterstock

على أي حال، لن تتوفر مساحات كبيرة من الأراضي المجانية لمستوطني الفضاء. لا يمكننا أن نجزم ما الذي سيجذب المستوطنين إلى المريخ، لكننا نعلم أن عامل الجذب هذا لن يكون الأسعار المنخفضة. 

عام 2019، زعم إيلون ماسك أن الانتقال إلى المريخ "سيكلف يوماً ما أقل من 500 ألف دولار وربما أقل من 100 ألف دولار". لذلك، في ظل افتراضات متفائلة إلى حد غير عادي، حيث يكون النطاق الزمني "يوماً ما"، من شأن النطاق السعري لمجرد الوصول إلى الموقع أن يستبعد الجميع باستثناء الأكثر ثراء. من المفترض أن الحاجة إلى أرض محكمة الإغلاق ومقاومة للإشعاع ستكلف مزيداً من المال.

قارنوا هذا بقوانين المَزارع في الغرب الأميركي، حيث أمكن للمستوطنين الحصول على قطعة أرض ضخمة، كاملة بهواء صالح للتنفس، في مقابل رسوم إيداع قدرها 18 دولاراً (نحو 700 دولار اليوم) والالتزام بالبقاء عليها لمدة خمس سنوات. أي شخص يذهب إلى مستوطنة فضائية سيكون إما ثرياً أو مختاراً من أثرياء. لن يكون الذاهبون مغامرين وحيدين يبحثون عن بداية جديدة – سيكونون أشخاصاً لديهم روابط مالية عميقة مع الكوكب الأم.

طريق أوريغون

كما أنهم لن يحصلوا على أراض زراعية جيدة. كثيراً ما يزعم مناصرو المستوطنات الفضائية أن الأراضي المملوكة ملكية خاصة ستجذب الناس إلى النظام الشمسي كما فعلت مع المسافرين إلى الحدود المتحركة للغرب الأميركي. المشكلة هي أن الأرض "في حد ذاتها" لم تكن قط عامل جذب.

سيكون مستوطنو الفضاء علماء ومهندسين ماهرين، وليسوا مزارعين أو مربي ماشية أو منقبين

كتب تيرنر نفسه يقول في أوائل القرن العشرين: "صحيح أن مساحات شاسعة من الأراضي الحكومية لا تزال غير مأخوذة، لكنها تشكل المناطق الجبلية والقاحلة، فقط جزء صغير منها قابل للغزو، وفقط بعد ذلك من خلال تطبيق رأس المال وجهد مشترك. لقد انتهت الأراضي المجانية التي صنعت الرواد الأميركيين". يشك المرء في أن تيرنر كان ليضع الكائن الميت والمجمد والسام المسمى المريخ في فئة "رأس المال والجهد المشترك". لم يجر المطالبة مطلقًا بجزء كبير من وسط البلاد لأن المستوطنين لم يرغبوا قط في 160 فداناً في "أي مكان". أرادوا أرضاً "جيدة".

كان السبب الكامل لشق طريق أوريغون هو تجاوز الجزء الضخم من البلاد غير القابل للزراعة. تسيطر حكومة الولايات المتحدة على محميات طبيعية عامة ضخمة اليوم، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن "إغلاق" خط الحدود تزامن مع توفّر مساحات شاسعة من الأراضي كانت لا تزال في حوزة الحكومة على رغم مرور عقود وعقود من التسعير المخفض. كانت كل قطعة من تلك الأراضي لا تزال أفضل بكثير، من أي شيء متاح في أي مكان في الفضاء.  

من السهل بما فيه الكفاية الاستمرار في مراكمة الاختلافات: سيكون مستوطنو الفضاء علماء ومهندسين ماهرين، وليسوا مزارعين أو مربي ماشية أو منقبين. تحظر معاهدة الأمم المتحدة للفضاء الخارجي لعام 1967 صراحة السيادة على الأرض في الفضاء، لذلك حتى لو كنتم تعملون في تراب المريخ المحمل بالسموم لخمس سنوات، لن تمتلكوا الأرض الواقعة تحت قدميكم. وسيعتمد مستوطنو الفضاء في شكل كبير على استمرار عمل آلات دعم الحياة التي قد تكون معرضة إلى خطر التخريب، الأمر الذي قد يتطلب قواعد سلوكية صارمة.

الفضاء مختلف تماماً. من أجل تطبيق أطروحة تيرنر على الفضاء، عليكم أن تبدأوا بنظرية غير صحيحة تتعلق بالماضي، وتضموها إلى فهم غير صحيح للحاضر، ثم تأملوا في الوصول إلى فهم صحيح للمستقبل.

إذا كانت أسطورة الغرب الأميركي خاطئة إلى هذا الحد، فلماذا تستمر بين مناصري الفضاء؟

هذا سؤال لمؤرخي الغرب الأميركي أيضاً. كتب ويليام كرونون المذكور آنفاً، والذي تخصص في دراسة تيرنر وكان هو نفسه رئيساً للجمعية التاريخية الأميركية، يقول: "قد تكون أطروحة تيرنر، في الواقع، محتفظة بقوة تفسيرية أكثر مما كان النقاد على استعداد للاعتراف به؛ من الواضح أن أطروحة تيرنر لا تزال قادرة على جذب الاعتراف بها؛ من المؤكد أنها تعبر عن بعض أعمق الأساطير والأشواق التي لا يزال يشعر بها العديد من الأميركيين حول تجربتهم الوطنية".

ندخل الآن حقبة جديدة يكون فيها الانطلاق إلى الفضاء رخيصاً وأكثر انفتاحاً على الدول والشركات والأفراد. الولايات المتحدة هي القوة الفضائية الرئيسة، وهي تدفع الآن في اتجاه الإطار القانوني الأكثر تحررا لحقوق الملكية في الفضاء

تستمر الحدود المتحركة الأسطورية في الثقافة لأنها تفعل شيئاً للناس: لقد أصبحت نوعاً من أسطورة الأصل القومي للعديد من الأميركيين. استشهد بها الرئيس السابق جون كينيدي في الحديث عن "حدود جديدة" عندما قبل ترشيح الحزب الديموقراطي. وذات يوم، ألقى الرئيس السابق رونالد ريغان، وهو نفسه ممثل سابق أدى دور راعي البقر مراراً في السينما، خطاباً نقل فيه عن "مؤرخ مشهور" كتب أن "الأميركيين، في صنع أساطيرهم حول الغرب الأميركي، لم ينزعجوا بسبب التناقضات مع الواقع. لم يؤمن الأميركيون في الغرب الأميركي بما هو صحيح، لكن بما اعتقدوا أنه كان يجب أن يكون صحيحاً".

إذاً، ما الذي يهم إذا كان أولئك الذين يأملون في المستوطنات الفضائية مخطئين في شأن التاريخ؟ حتى الآن، لم يكن علم الاجتماع على سطح القمر ملحاً للغاية.

للمزيد إقرأ: الفلك العربي... بصماتنا في السماء

لكننا ندخل الآن حقبة جديدة يكون فيها الانطلاق إلى الفضاء رخيصاً وأكثر انفتاحاً على الدول والشركات والأفراد. في هذا العصر، تُعَد الولايات المتحدة القوة الفضائية الرئيسية، وهي الآن تدفع باتجاه الإطار القانوني الأكثر تحرراً لحقوق الملكية في الفضاء.

شكلت الأساطير الذاتية الأميركية علاقتنا بسكان الأرض – الأساطير التي نحملها إلى الفضاء قد تشكل الآن نمو المجتمعات في عوالم أخرى لقرون مقبلة.

عام 1992، كتبت ليميرك مقالاً عن استخدام الاستعارة الحدودية من قبل وكالة "ناسا". في ذلك، قالت إنها لم تكن قلقة من أن "ناسا" كانت تستخدم الحدود المتحركة من أجل "عرض مبيعات تجريبي"، بل يبدو أنها كانت تقدم "عرض مبيعات 'صادقاً'". الحديث عن حدود تيرنر شيء، لكن الإيمان بها في الواقع شيء آخر تماماً، ولا سيما عندما يكون لدى المجموعة التي تؤمن بالرمزية القدرة على تشكيل مصير الإنسان في الفضاء.

كتبت ليميرك تقول: "الرمزية التي تختارونها توجه قراراتكم – هي تجعل بعض البدائل تبدو منطقية وضرورية بينما تجعل البدائل الأخرى غير مرئية تقريباً".

font change

مقالات ذات صلة