الشرق الأوسط على مفترق طرق بين مستقبلين

إما التصعيد والفوضى وإما الاستقرار والازدهار

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale

الشرق الأوسط على مفترق طرق بين مستقبلين

تشكل الحرب المدمرة على غزة منعطفا حاسما في الشرق الأوسط، واضعة المنطقة بأكملها أمام مفترق طرق، فإما أن تسير صوب التصعيد والفوضى والحرب الإقليمية، وإما أن تسلك طريقا يوصلها إلى برّ الأمان الدائم والاستقرار والازدهار.

لعقود من الزمن، كان الشرق الأوسط مكانا لعدد من الصراعات الأكثر وحشية وتدميرا في العالم، ومن بينها غزو صدام حسين للكويت عام 1990، مرورا بالحروب الأهلية التي تفجرت في سوريا وليبيا واليمن بعد "الربيع العربي" عام 2011، ثم الجماعات الإرهابية الدولية مثل تنظيمي "القاعدة"، و"داعش"، وقبل ذلك الحرب الأهلية التي حرقت لبنان عام 1976. وقد أدت هذه الصراعات على الدوام إلى استفزاز واسع النطاق واشتباكات عسكرية هائلة، كانت تدفع السلام إلى الوراء على طول الخط.

ولكن هذه المنطقة، على الرغم من هذا وذاك، يحاول كثير من دولها على الدوام مع ذلك الانخراط بنشاط مع شتى دول العالم من خلال مجموعة من الاستثمارات والتنمية الاقتصادية السريعة. خذ مثلا ما قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، من تحديث وإصلاحات اقتصادية برؤى بعيدة المدى تهدف إلى تعزيز ازدهارها الوطني، بما في ذلك اتخاذها موقفا منفتحا تجاه المنافسين الإقليميين التقليديين مثل إسرائيل وإيران.

وفي حين قد تغري الأحداث الأخيرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول بالتفكير في أن تسير المنطقة نحو تجدد الخلاف والصراع، فإن المشهد الاستراتيجي الأوسع لأهم اللاعبين الاقتصاديين في الشرق الأوسط، يظل دون تغيير، فالضرورات الاستراتيجية التي دفعت هؤلاء اللاعبين نحو أجندات الإصلاحات الاقتصادية والثقافية لا تزال قائمة، حتى في خضم موجة العنف الأخيرة التي شهدتها إسرائيل وغزة.

سوى مجلس التعاون الخليجي خلافاته، واستأنفت العلاقات بين السعودية وإيران، وهناك جهود لحل الصراع الدائر في اليمن

شرقان أوسطان

لا ريب في أن الصراع الدائر سيتسبب في وقوع خسائر إنسانية هائلة، لن تقتصر على غزة، بل ستتعداها إلى المنطقة بأسرها. ولنتذكر كيف أدت الحروب الأهلية في لبنان وسوريا وليبيا بالفعل في معاناة هائلة أصابت الكثير، بينما تسببت الحروب الإقليمية في إيران والعراق والكويت في خلق اضطرابات كبيرة في النظام العالمي. وأدى صعود الجماعات الإرهابية الدولية مثل تنظيمي "القاعدة"، و"داعش"، إلى خلق ديناميكية جديدة، شكلت فيها القوات غير الحكومية والقوات شبه العسكرية تهديدا حقيقيا مثلها مثل الدول القومية، ما دفع الدول الغربية إلى التدخل عسكريا في أفغانستان والعراق وسوريا. 
ولا تزال الميليشيات حتى وقتنا الراهن تعمل بحرية، وتسعى إلى تقويض هياكل الدولة ومفاقمة الصراعات القائمة. وفي شرق البحر المتوسط، لا يزال النزاع الطويل الأمد حول الأراضي بين إسرائيل والفلسطينين مستمرا. وقد شهدت التصعيدات الأخيرة قيام "حماس" بمهاجمة المستوطنات الإسرائيلية فقتلت نحو 1200 إسرائيلي وخطفت إسرائيليين كرهائن في غزة، في حين أدت الإجراءات الإسرائيلية إلى مقتل أكثر من 28 ألف فلسطيني وتدمير البنية التحتية الأساسية في غزة، إلى جانب أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون اليهود في الضفة الغربية ضد الفلسطينيين.
ولكن، في الوقت نفسه، يسير الشرق الأوسط على مسار بديل. فنرى كيف تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، رؤى مستقبلية تركز على تنويع وتحديث اقتصاداتها، وجذب الاستثمار الداخلي، وتوسيع مصالحها التجارية في جميع أنحاء العالم.
ونجحت قطر في تقديم طلب لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022، وهي المرة الأولى التي تجرى فيها هذه البطولة العالمية في منطقة لم يكن يُعترف بها عادة باعتبارها قادرة على منافسة أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا في المجال الرياضي. وتعمل دولة الإمارات على توسيع نفوذها العالمي من خلال الاستثمارات والشراكات الاستراتيجية، بما في ذلك الاتفاقات الهامة مع المملكة المتحدة والاستثمارات في الموانئ الأفريقية.

AFP
فلسطينيون يتجمعون خارج أحد المخابز في رفح جنوبي قطاع غزة، 15 فبراير

ولعل الأمر الأكثر طموحا على الإطلاق هو إطلاق المملكة العربية السعودية عام 2016 برنامج "رؤية 2030"، الذي يعِد بالتنمية الاقتصادية والتنويع والاستثمار والازدهار والتحديث الثقافي والاجتماعي. وفي عام 2018، توقع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: "سوف تكون النهضة العالمية خلال الثلاثين سنة القادمة في الشرق الأوسط".
وقد شهد البرنامج تغييرات جذرية في البلاد وتمهيد الطريق لإصلاحات اجتماعية رائدة مثل قيادة المرأة وتشجيع قطاعات الترفيه مثل السينما والموسيقى. وفي الوقت نفسه، استثمرت الدولة بكثافة في الرياضة والثقافة والسياحة، حيث أدخلت سياسات التأشيرات وأطلقت حملات تسويقية طموحة لوضع نفسها كوجهة رئيسة للسفر والترفيه. وأطلقت البلاد مشاريع بناء وتطوير كبرى، بما في ذلك إنشاء مدينة نيوم، وهي مدينة مستقبلية تهدف إلى إحداث ثورة في الحياة الحضرية بهندسة معمارية مبتكرة، والتركيز على الطاقة المتجددة، وتعزيز الراحة لسكانها.
تعزز المملكة العربية السعودية مكانتها كدولة رائدة في النمو الاقتصادي في المنطقة، حيث تستضيف في كل خريف مبادرة مستقبل الاستثمار، حيث تجمع أكبر الممولين والمستثمرين والشركات في العالم في الرياض لعقد الصفقات وتوسيع النمو الاقتصادي الإقليمي. ومؤخرا، فازت المملكة العربية السعودية بطلبها استضافة "معرض إكسبو" العالمي عام 2030 لعرض التطورات التكنولوجية والتغير المناخي.
ولا يأتي النشاط الاقتصادي وحيدا، بل تصحبه خطوات دبلوماسية تدفع بالشرق الأوسط قدما ليكون منطقة أكثر أمنا واستقرارا، بما يلبي مصالح الأمن القومي للدول ويسعى إلى خلق بيئة سياسية إقليمية أكثر ملاءمة للاستثمار الداخلي والازدهار الدائم.
وفي هذا السبيل، سوّى مجلس التعاون الخليجي الخلافات الدبلوماسي واستأنفت العلاقات بين السعودية إيران، وتجري جهود لإيجاد حل للصراع الدائر في اليمن. وفي الوقت نفسه، امتدت خطوات السعودية أبعد من المنطقة، فبدأت تطور علاقات قوية مع قوى خارج الشرق الأوسط، مثل الصين وروسيا، وكانت إحدى نتائجها رعاية بكين للتقارب مع إيران العام الماضي.
وعملت المملكة العربية السعودية على القيام بدور قيادي إقليمي أكبر، فاستضافت عددا من مؤتمرات القمة في العامين الماضيين، بما في ذلك عقد اجتماع بين القادة العرب والرئيس الصيني عام 2022 وعقد محادثات العام الماضي في جدة في محاولة لخلق مناخ ملائم لإيجاد حلول سلمية للحروب في أوكرانيا والسودان.
ومن جهة أخرى، دفع إدراك أن السلام والاستقرار في المنطقة أمران لا بد منهما لكي يحقق الشرق الأوسط إمكاناته، كثيرا من الدول إلى السعي لتحسين العلاقات مع إسرائيل. وحققت الإمارات والبحرين والمغرب تقدما كبيرا من خلال مسار اتفاقات أبراهام التي توسطت فيها الولايات المتحدة، ما أدى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل تنازلات دبلوماسية أميركية مثل الاعتراف بمطالبة المغرب بالصحراء المغربية، فضلا عن تمهيد الطريق لمزيد من العلاقات الاقتصادية والتطورات بين الموقّعين على الاتفاقات.

تركزت مطالب المملكة العربية السعودية حول محاور رئيسة، وكلها حيوية للأجندة الوطنية للتحديث والنمو الاقتصادي

تعرف المملكة العربية السعودية الدور الحاسم للاتفاقات الدولية والتعاون الإقليمي في تعزيز بيئة مواتية لطموحاتها الاستراتيجية والسياسية والدبلوماسية. وكان من الأمور الأساسية في جهودها الدبلوماسية سعيها للتوصل إلى اتفاق شامل مع الولايات المتحدة.
وعند تولى الرئيس بايدن منصبه، تبنت إدارته موقفا أكثر تحفظا تجاه المملكة العربية السعودية، مقارنة بسابقتها، حيث قلصت الدعم العسكري في اليمن. ومع ذلك، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا واضطراب أسواق الطاقة العالمية، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم علاقتها مع المملكة العربية السعودية، مما دفع الرئيس بايدن لزيارة الرياض في يوليو/تموز 2022.
وكانت هناك مناقشات مستمرة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، في الفترة التي سبقت هجمات 7 أكتوبر، حول إنشاء معاهدة دفاع أو تحالف رسمي. كان هدف الولايات المتحدة هو ضمان بقاء المملكة العربية السعودية شريكا ثابتا في مجال الطاقة والدبلوماسية داخل المنطقة. وفي المقابل، تركزت مطالب المملكة العربية السعودية حول ثلاثة محاور رئيسة، وكلها حيوية للاجندة الوطنيد للتحديث والنمو الاقتصادي.
أولا، سعت المملكة العربية السعودية للحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، شبيهة لتلك التي حصل عليها حلفاء الولايات المتحدة الآخرون مثل كوريا الجنوبية ونيوزيلندا، وهي ليست أعضاء في "الناتو". 
ثانيا، تسعى الرياض أيضا إلى تطوير برنامج نووي مدني للمساعدة في التحول من الاعتماد على النفط والغاز. وبدافع من المخاوف المتعلقة بالأمن القومي.

Getty Images
وزير خارجية البحرين عبد اللطيف الزياني (يسار)، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد خلال التوقيع على "اتفاقيات إبراهيم"، البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020

أما الجانب الثالث الحاسم من المفاوضات فيتضمن الجهود التعاونية التي تبذلها الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية سعيا للتوصل إلى حل سلمي للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. حيث تسعى المملكة العربية السعودية إلى إيجاد حل سياسي لمسألة الدولة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، وهو حل الدولتين الذي يشكل أساس الإجماع الدولي العام. وفي مقابل دعم واشنطن لمثل هذا القرار، تريد واشنطن خطوات نحو علاقات مع إسرائيل. من بين جميع عناصر الاتفاق الأميركي السعودي المحتمل، فإن معالجة القضية الإسرائيلية الفلسطينية هي بلا شك الأكثر صعوبة وتعقيدا. لقد دعمت المملكة العربية السعودية القضية الفلسطينية باستمرار منذ نكبة الفلسطينيين وتهجير 750 ألفا منهم عام 1948 بعد قيام إسرائيل. وعلى الرغم من اقتراح كثير من خطط السلام بين الدول العربية وإسرائيل، حافظت المملكة العربية السعودية على موقف مؤيد للفلسطينيين في الحوارات ومؤتمرات القمة الدولية.
كما أن المملكة تدرك تماما مكانتها كقوة إقليمية فريدة من نوعها في المنطقة. حيث إن عضويتها في مجموعة العشرين ونفوذها الاقتصادي يضعانها في مكانة مهمة على المسرح العالمي، كما أن مكانتها تمنحها سلطة جيوسياسية ودور قيادي في العالمين الإسلامي والعربي. 
ومن هنا، فإن الصفقة يجب أن تعترف، بالنسبة للسعودية، بهذه السمات وأن تعزز مكانة الرياض الإقليمية وليس تقليصها. ومن المؤكد أن إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل يجب أن تؤمن ضمانات نووية وأمنية إضافية من الولايات المتحدة، من شأنها أن تعلي من شأن المملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط. فالاتفاق لن يؤدي، إذن، إلى تعزيز موقف المملكة العربية السعودية فحسب، بل سيوفر لها أيضا ميزة استراتيجية على منافساتها، مما يجعل المملكة أكثر قوة وأفضل موقعا في ديناميكيات القوة الإقليمية.

يمتد الدعم الإيراني إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، المسؤولين عن الكثير من الهجمات على الأراضي السعودية وضد السفن المدنية والتجارية في البحر الأحمر

الدور الإيراني

منذ عام 1979، وفي أعقاب قيادة "المرشد" الخميني للثورة الإسلامية، أثرت إيران بشكل كبير على عدم الاستقرار والصراعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكانت سياستها الخارجية، التي اتسمت بالمعارضة الأيديولوجية والجيوسياسية للولايات المتحدة وإسرائيل، بمثابة القوة الدافعة وراء تصرفاتها في المنطقة.
وقد أنشأت إيران "محور المقاومة" بتوجيه من الحرس الثوري الإسلامي، وتضمن شبكة من الجماعات والميليشيات والكيانات السياسية والحكومات التي توحدها معارضتها للولايات المتحدة وإسرائيل. ويلعب الحرس الثوري الإيراني، وخاصة من خلال جناح النخبة في فيلق القدس، دورا حاسما في توجيه وتدريب وتمويل مختلف الجهات الفاعلة التي تساهم في عدم الاستقرار الإقليمي.
وفي لبنان، يبرز "حزب الله" باعتباره الحزب السياسي المهيمن والجهة الفاعلة غير الحكومية الأفضل تسليحا على مستوى العالم، وهو متورط في كثير من الهجمات ضد مواطنين أميركيين واغتيال رئيس وزراء لبناني سابق. وتتلقى هذه المجموعة شبه العسكرية دعما كبيرا من إيران، بما في ذلك التمويل والتدريب، وتعمل بما يتماشى مع المصالح الإيرانية في بلاد الشام.
ومن جهتها، أنشأت الولايات المتحدة قواعد في العراق وسوريا كجزء من التحالف الدولي ضد "داعش"، والذي شمل الدعم من المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى. وكثيرا ما استهدفت هذه القواعد، إلى جانب القوافل الأميركية، من قبل الميليشيات المدعومة من إيران، مثل جبهة "الحشد الشعبي" في سوريا والعراق.

DPA
اشتعال النيران في سفينة "مارلين لواندا" في خليج عدن بعد تعرضها لصاروخ مضاد للسفن أطلق من منطقة يسيطر عليها الحوثيون في اليمن

ويمتد الدعم الإيراني إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، المتورطين في الحرب الأهلية والمسؤولين عن الكثير من الهجمات على الأراضي السعودية وضد السفن المدنية والتجارية في البحر الأحمر، مما استدعى مشاركة القوات البحرية الأميركية.
علاوة على ذلك، كانت إيران منذ فترة طويلة من الداعمين الرئيسين لـ"حماس"، حيث تزود الجماعة بالأسلحة والتمويل لحملتها ضد المدنيين والعسكريين الإسرائيليين. وعلى الرغم من مفاجأة طهران بهجمات 7 أكتوبر، تفيد التقارير أن فيلق القدس أجرى تدريبات مع مئات من مقاتلي "حماس" قبل وقت قصير من هذه الهجمات.
وعلى الرغم من هذه المفاجأة، تصر إيران على استغلال الصراع الدائر والاضطراب الأوسع نطاقا لتحسين وضعها كقوة داخل المنطقة وتعزيز موقف تفاوضي أقوى مع الولايات المتحدة حول قضايا مثل الانتشار النووي وتخفيف العقوبات.
وكان رد فعل وكلاء إيران الآخرين على الهجوم ملحوظا، فكثفت قوات "الحشد الشعبي" والميليشيات الأخرى هجماتها على القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا في الأشهر التي تلت تصعيد "حماس" للصراع، لكنها حرصت على البقاء ضمن "قواعد الاشتباك" الموجودة مسبقا، وتجنب التسبب في أضرار بشرية أو مادية مفرطة.
كما زادت قوات الحوثيين من هجماتها، ما تسبب في تعطيل الشحن العالمي عبر البحر الأحمر والهجمات الصاروخية على أهداف إسرائيلية، كما كثف "حزب الله" هجماته على شمال إسرائيل.
ومع ذلك، لم تصل طهران إلى حد توجيه شبكتها إلى حرب واسعة النطاق. وهي تدرك مغزى تحرك السفن الحربية الأميركية إلى البحر الأبيض المتوسط والخليج، وتسعى إلى إبقاء قوات "حزب الله" في الاحتياط لكي تنشرها إذا سنحت فرصة أخرى في مرحلة أكثر ملاءمة من الناحية الاستراتيجية.
وتؤكد أعمال العنف في غزة وإسرائيل والمخاوف من التصعيد الإقليمي على قدرة إيران على إثارة اضطرابات أوسع نطاقا في جميع أنحاء المنطقة.
إن بروز المملكة العربية السعودية في أسواق الطاقة العالمية، إلى جانب نفوذها الإقليمي البديل، وإعادة تنشيط العلاقات الدبلوماسية مع إيران مؤخرا، أدى إلى رفع مكانتها كحليف حاسم للولايات المتحدة، وتستطيع أن تعمل كوسيط في الصراعات الإقليمية، وخاصة بعد ذوبان الجليد في العلاقات مع إيران، ما يؤكد أهميتها الاستراتيجية.
وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة مع المملكة العربية السعودية يعتبر مفيدا. ولا ريب في أن قدرة الرياض على ممارسة تأثير معتدل في الصراعات المستمرة تمثل رصيدا قيما لواشنطن. ويتماشى هذا التعاون مع مصالح الولايات المتحدة ، اللتي ستستفيد من قدرة المملكة العربية السعودية على التعامل مع التوترات الإقليمية واحتمال تهدئة التوترات الإقليمية.

لم يتغير موقف السعودية على الرغم من التصعيد الأخير في الصراع، مما يعزز التزامها بالسلام والاستقرار في المنطقة

ردا على الحرب

لعقود طويلة، كانت المملكة العربية السعودية من أشد المدافعين عن حل الدولتين، واقترحت رؤية تتعايش فيها دولة فلسطينية مستقلة بسلام إلى جانب إسرائيل. وقد عبرت وزارة الخارجية السعودية عن هذا الموقف بوضوح في بداية شهر فبراير/شباط، حيث ذكرت أنه لن يتم النظر في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا إذا جرى الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، وتوقفت الأعمال العدائية الإسرائيلية في قطاع غزة.
وكانت أسس الموقف من السلام، قد أرسيت خلال قمة بيروت عام 2002، وسط أعمال العنف التي شهدتها الانتفاضة الثانية، من خلال مبادرة السلام العربية التي قادتها السعودية. وسعت هذه المبادرة إلى إنهاء الصراع والتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، بشرط انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وإيجاد حل عادل للاجئين الفلسطينيين، وإنشاء دولة فلسطينية. وقد تم التأكيد على هذه المبادرة في مختلف مؤتمرات القمة العربية، مع الحفاظ على مبدأ وجوب ارتباط التطبيع مع إسرائيل مع قيام حل سياسي للقضية الفلسطينية.
ولم يتغير موقف المملكة العربية السعودية على الرغم من التصعيد الأخير في الصراع، مما يعزز التزامها بالسلام والاستقرار في المنطقة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، قادت المملكة العربية السعودية قمة جمعت زعماء العالم العربي والإسلامي، بهدف صياغة استجابة جماعية للأزمة. وشددت نتائج القمة على إنهاء الأعمال العدائية بين إسرائيل و"حماس"، ودعمت فكرة الدولة الفلسطينية المتجاورة، مظهرة بذلك النهج العملي الذي تتبناه الدول العربية تجاه إسرائيل.
ورفضت دول رئيسة، بما في ذلك الإمارات والبحرين والمغرب، مقترحات لتعطيل إمدادات النفط وتجميد الاتصالات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل. كما رفضت دعوات إيران لتسليح الفلسطينيين والرئيس السوري بشار الأسد وبأنه لا ينبغي لأي دولة في الشرق الأوسط أن تقيم علاقات مع إسرائيل.

Reuters
خلال اجتماع رؤساء الدول المشاركين في قمة "منظمة التعاون الإسلامي" في الرياض، 11 نوفمبر 2023

وبالإضافة إلى الجهود الدبلوماسية، تواصل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى إعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والسلام والازدهار، حتى مع تركيز الاهتمام العالمي على الحرب. وتستمر هذه الدول في مسارها نحو تعزيز اقتصاداتها، وتظهر نهجا متوازنا لمعالجة الصراعات الإقليمية مع مواصلة النمو والتنمية. 
على سبيل المثال، عقدت قمة المناخ، في دبي كما هو مقرر، دون أن تردعها المخاوف من أن الصراع في غزة قد يلقي بظلاله على الحدث. وشهد هذا التجمع إطلاق صندوق استثماري كبير بقيمة 30 مليار دولار من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة بالتعاون مع "بلاك روك"، و"بروكفيلد"، و"تي بي جي"، بهدف دعم مشاريع المناخ على مستوى العالم. وتؤكد هذه المبادرة التزام دول الخليج بمعالجة تغير المناخ وقدرتها على جذب استثمارات دولية كبيرة.
وفي سياق مماثل، تقدمت مبادرة مستقبل الاستثمار في المملكة العربية السعودية إلى الأمام، حيث اجتذبت المستثمرين العالميين وعمالقة المال، مثل: "بريدجووتر"، و"جيه بي مورغان"، و"سيتي غروب"، فضلا عن المؤسسات الثقافية والرياضية الكبرى مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم، وجميعها وجد في خطط التحول المحتملة والطموحة في المملكة العربية السعودية ما يجذبه.
ولتسليط الضوء بشكل أكبر على دفع المنطقة نحو الاستدامة والتنمية، أعلنت المملكة العربية السعودية عن خطة استثمارية بقيمة 92 مليار دولار لتحويل الرياض إلى واحدة من المدن المستدامة الرائدة في العالم، استعدادا لمعرض "إكسبو 2030". وتعكس هذه المبادرة رؤية المملكة للتنمية الحضرية والحفاظ على البيئة.
وفوق ذلك، يوضح الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي كُشف عنه في قمة مجموعة العشرين في سبتمبر/أيلول الماضي، تصميم دول الخليج على تحقيق التقدم الدبلوماسي والاقتصادي على الرغم من الصراعات الإقليمية المستمرة. وسوف يربط هذا الطريق التجاري المقترح الهند والخليج وأوروبا عبر شبكة من الروابط الحديدية والبحرية.
وعلى الرغم من تصاعد الصراع في غزة مؤخرا، أكدت المملكة العربية السعودية وشركاؤها التزامهم بمشروع الممر الاقتصادي، مظهرين بذلك تصميما جماعيا على مواصلة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية الأوثق. إن التزام الطرفين بمواصلة المشروع الذي يهدف إلى ربط هذه البلدان بعضها ببعض بشكل أوثق من الناحية الدبلوماسية والاقتصادية يظهر فهمهما بأن المستقبل سيتطلب تعاونا أوثق بينهما.

من الضروري أن تكثف الجهات الفاعلة الإقليمية جهودها لضمان انتصار ثقافة السلام على ثقافة الحرب والتفكك

طريق التقدم نحو المستقبل

ختاما، يشير الاتفاق الأخير ، او الجديد المحتمل، للموافقة على وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن- حتى وإن لم يعمّر طويلا- إلى احتمال التوصل إلى نهاية للحرب. لا ينبغي النظر إلى أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول على أنها بداية حرب جديدة، بل كجزء من صراع طويل الأمد ما فتئ يستعر في دورات من العنف الشديد تليها فترات من الهدوء والاستقرار النسبي. وبينما من المتوقع أن يستمر هذا النمط في المستقبل المنظور، فإن الأهداف الاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين الرئيسين تظل دون تغيير.
وتهدف الولايات المتحدة إلى تسهيل اندماج إسرائيل في المنطقة وتخفيف النفوذ الإيراني. وفي الوقت نفسه، تسعى المملكة العربية السعودية إلى تعزيز دورها الإقليمي مع التقدم نحو التحديث الثقافي والنمو الاقتصادي. يحتفظ الاتفاق الأميركي- السعودي المزمع، بقيمته الاستراتيجية لجميع الأطراف المعنية، مما يعكس الأهداف الثابتة التي تحققت خلال السنوات الأخيرة. 
ولا نقاش في أن المملكة العربية السعودية لا تزال تسعى للحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، وسط عدم الاستقرار الإقليمي، إلى جانب المزايا الاقتصادية المترتبة على تطوير برنامج نووي مدني والمكاسب الدبلوماسية من التوسط في حل فلسطيني. تريد ذلك ان يكون فرصة استراتيجية لتعزيز الاستثمارات الدولية في المملكة العربية السعودية واستكشاف ممرات تجارية جديدة مربحة، وبالتالي تعزيز مكانتها في التسلسل الهرمي للقوى الإقليمية.
ولا غرابة في أن تؤدي الحرب في غزة إلى انتكاسة عملية السلام وفرص الوحدة الإقليمية، مما يؤدي إلى تأجيل احتمالات التوصل إلى اتفاقات دائمة، والمصالحة، والتطبيع. إلا أن هذا لا يلغي إمكانية تحقيق هذه الأهداف في المستقبل. ومن الضروري أن تكثف الجهات الفاعلة الإقليمية جهودها لضمان انتصار ثقافة السلام على ثقافة الحرب والتفكك. ولعل اللحظة الراهنة تمثل فرصة لتحقيق ذلك كله، وما على الأطراف جميعها إلا أن تنتهزها.

•  المقال،  نسخة محدثة من المقال المنشور في العدد الشتوي لعام 2024 من مجلة "آفاق" الصادرة عن "مركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة (CIRSD)

font change

مقالات ذات صلة