هولمكويست السويدي الذي أنجز خماسيّة سينمائية عن غزة

من "غيتو غزة" إلى "غزتي"

Getty Images
Getty Images
حي تل السلطان 24 مايو 2004 في مخيم رفح للاجئين جنوب قطاع غزة

هولمكويست السويدي الذي أنجز خماسيّة سينمائية عن غزة

استأثرت غزّة باهتمام السينمائيّين العالميّين منذ أواخر القرن الماضي، وتضاعف هذا الاهتمام مع تعاقُب حروب إسرائيل عليها بوحشيّة، إذ لفتتْ مأساتها انتباه أطياف جديدة وأجيال صاعدة ومخضرمة في آن من المخرجين الأجانب، الذي أفردوا لها أفلاما طويلة وقصيرة في آن، تتأرجح بين صنفي الوثائقي والروائي، على نحو تسجيلي وواقعي في معظمها، وعلى نحو تخييلي في بعض نماذجها الاستثنائيّة.

وممّن راكموا تجربة نوعيّة في الاشتغال على صورة غزة من الدّاخل المخرج السويدي بير أكه هولمكويست، الذي أخرج خمسة أفلام وثائقية بداية بفيلمه "غيتو غزة" عام 1985، و"الأسد في غزة" عام 1996، و"كلمة وحجر-غزة" عام 2000، و"فرويد في غزّة" عام 2000، ثمّ فيلم "غزّتي" عام 2009.

"غيتو غزة" 1985

يستغرق الفيلم 80 دقيقة، وقد أخرجه هولمكويست رفقة بيار بيوركلوند وجون ماندل، ويرصد فيه يوميات عائلة فلسطينية في مخيّم جباليا، مقدّما بورتريها بالغ الخصوصيّة عن وجوهها التي تتمثّل حياة المخيّم عامّةً. تسجّل عين الكاميرا مناخ العيش داخل البيت وخارجه، متعقبة سيرة المعاناة الإنسانية للمهجّرين في جباليا، تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي.

اخترق الوثائقي الأوّل حصار الصمت الذي يطوّق غزة، لافتا النظر إلى واقع الفلسطينيين المأساوي

وخارج واقع المخيّم المأساوي، يفتح الفيلم هامشا للجدّ أبو عادل الذي يصحب أحفاده إلى قريتهم القديمة "ديمرا" محدثا إيّاهم عن معالمها المدمرة، وتاريخها المغتصب، وهذا ما لن يستسيغه جنود الاحتلال الذين سرعان ما تدخّلوا وأمروهم بالانصراف.

يزاوج الفيلم في تركيبه بين ما يحدث في الحاضر وخلفية ما وقع عام النكبة 1948، وحرب 1967، دون القفز على زحف المستوطنات الجارفة لمزارع الزيتون وقرى الفلسطينيين البكر. كما يتيح مساحة للطرف المحتل، ويحاور قادة إسرائيل، تاركا الحُكْم للمشاهد لكي يفتي في عدالة القضية بين الجلاد والضحيّة.

twitter

إنّه الفيلم الوثائقي الأوّل الذي صُوّر في قطاع غزّة، مخترقا حصار الصمت الذي يطوّق المدينة، لافتا النظر إلى واقع الفلسطينيين المأساوي بأمانة التوثيق وبلاغة التسجيل.

"الأسد في غزة" 1996

يستغرق الفيلم 38 دقيقة، وقد شاركت هولمكويست زوجته سوزان خرديال مغامرة الإخراج، ويرصد زيارة فايد لمدينته غزة بعد غياب دام 13 سنة، لكي يلتقي أهله وأصدقاءه، فيصطدم بمتغيرات مدينته، وتحوّلات مجتمعه، مع أنّ واقعها لا يزال مأساويا كما هو تحت سطوة الاحتلال. هي حكاية فلسطيني اغترب قسرا عن بلده، كلاجئ رفضت بولندا أن تمنحه الإقامة، فيضطرّ إلى العيش في السويد، ممتهنا تدريس اللغة العربية. مجمل الأسئلة الحارقة على نحو خاص التي اصطخبت في رأس فايد وقلقه وهواجسه إزاء فلسطين ومستقبلها في القطاع، هي نفسها الأسئلة الجماعية للفلسطينيين داخل وخارج غزّة، موجزة في: إلى أين؟ كأنه يستعير سؤال الأسئلة للوحة التهجير الشهيرة لإسماعيل شموط.

"كلمة وحجر-غزّة" 2000

يستغرق الفيلم 26 دقيقة، ويرصد سيرة الطفل الفلسطيني وائل الذي قتلته رصاصات جنود الاحتلال بدم بارد، في إحدى المستوطنات، بل قُتل أمام عيني المخرج بير أكه هولمكويست بينما كان يصوّر أحد المشاهد الميدانيّة. ظلت صورة الطفل المغدور وهو يحمل حجرا على أهبة أن يلقيه في وجه الغزاة، الخلفية الدراميّة لنسيج وقائع الفيلم الذي ينفتح على سيرة موازية للشاب مخلص، مدرّس اللغة الإنكليزية الطامح للخروج من جحيم القطاع، تزامنا مع مفاوضات السلام التي كلما انعقدت في مكان، ازدادت عزلة غزة وحصارها وباتت أكثر شدّة وحدّة.

فرويد في غزة، 2000

يستغرق الفيلم 90 دقيقة وقد أخرجه إلى جانب زوجته سوزان خردليان.

يختتم المخرج مشروعه الفيلمي حول غزة بتجربة خامسة يعلن فيها الانحياز الكامل للمدينة كأنها مدينته

ولأنّ مضاعفات الحصار والتهجير والعيش في المخيّم لها عواقب نفسية وخيمة، اختار المخرج السويدي بير أكه هولمكويست سبر أغوار غزة بنظارة فرويد هذه المرّة، هذا الذي يتمثله الطبيب النفسي الفلسطيني عايد حمداني، محاولا علاج حالات نفسية ميدانيّة بالغة التعقيد، تتأرجح بين الرهاب المزمن والاكتئاب والسوداوية والرغبة في الانتحار أطفالا وشبابا وشيوخا ونساء، حالات مرضيّة سببها فقدان الأقرباء جرّاء التقتيل الإسرائيلي أو الاعتقال، فضلا عن المناخ الداخلي الرازح تحت ثقل الانقسام الفلسطيني، وصعوبة ترتيب البيت السياسي لمقاومة الاحتلال.

 هكذا يتقصّاهم عايد بحقيبته في منازلهم وأمكنتهم الخرائبية داخل المخيم الذي يعاني ويلات الحصار الجوي والبري والبحري بين سنتي 2006 و2008.

"غزتي" 2009

يختتم المخرج مشروعه الفيلمي حول غزة بتجربة خامسة يعلن فيها الانحياز الكامل للمدينة كأنها مدينته، ويفصح عن علاقته الحميمة بغزّة منذ أوّل مغامرة تصوير فيها، دون نسيان عائلة صديقه مصطفى الحمداني، التي أسعفته في اكتشاف خرائط القطاع من الدّاخل، ويسّرت له تصوير تجاربه السينمائية.

فيلم "غزتي" محض سيرة لمغامرة المخرج في غزة، تتعقّب كواليس ووقائع إنجازه للأفلام الأربعة المشار إليها آنفا، يقدم من خلالها شهادة شخصية عن علاقته بالعائلة الفلسطينية خاصّة، والمدينة عامّة.

بهذا الفيلم يشيّع بير أكه هولمكويست مدينته المأساوية غزّة، التي قضى فيها نحو ثلاثين عاما بين التصوير والعيش في حضرة عائلة صديقه مصطفى الحمداني، هذا الذي سيموت مخلّفا أسى غائرا في وجدان المخرج، إذ شكّل مصطفى الحمداني الحلقة المركزية في معرفة بير أكه هولمكويست لخارطة غزة من الدّاخل، وكان الدليل الميداني إلى إنجازه رباعية أفلامه بجسارة وشجاعة على الرغم من سلسلة المضايقات التي طالته من طرف إسرائيل، محاربة إيّاه في كلّ مكان في أوروبا.

قد يكون لموت صديقه الغزاوي الأثر الصادم في انقطاعه عن زيارة غزة مرّة أخرى، وفي كلّ الأحوال فغزّة تتألق بيانا مشحوذا بملء التعدّد في فيلمه الأخير "غزتي"، الذي مهر به مغامرته السينمائية، مقدّما وردة إلى شعبها وتاريخها وصمودها وعزلتها، بعد أن جعل عين كاميرته لا تنام وهي ترصدها على امتداد ثلاثين سنة.

ستظلّ فلسطين ملازمة للمخرج هلموكويست، فيعود مُجدّدا إلى القدس عام 2017 ليخرج فيلم "القدس الأخرى"

جدير بالإشارة أن المخرج أكه هولمكويست صوّر فيلمين أثارا الجدل داخل إسرائيل والسويد معا، قبل إنجاز خماسيته الغزاوية، الفيلم الأوّل أخرجه عام 1979 وهو موسوم بعنوان "قريتان في الجليل" تقصّى فيه قضية مصادرة الأراضي في  قرية "دير الأسد" أمام الزحف الاستيطاني الإسرائيلي الجارف، وفي السنة ذاتها أخرج فيلما ثانيا عن القدس تحت عنوان " القدس مدينة بلاحدود" وفيه يتعقّب جريمة اغتصاب أراضي القرى العربية المتاخمة لمدينة القدس من جهة، وكذا القرى الفلسطينية التي تعرّضت للمحو، بتهجير أهلها ومحاولة استنبات غابة طارئة مكانها من جهة ثانية، وقد فضح المخرج رئيس وزراء السويد الذي قَبِلَ بأن تسمّى إحدى غابات الاحتلال باسمه في قرية عمواس، فتعرّض لحملة مسعورة تستهدف إيقاف الفيلم، دون أن تنجح الدعوات القضائية في إعدام مشروعه.

ستظلّ  فلسطين ملازمة للمخرج هلموكويست، فيعود مُجدّدا إلى القدس عام 2017 ليخرج فيلما يستغرق 58 دقيقة، حول المدينة تحت عنوان "القدس الأخرى" بعد مرور خمسين سنة على حرب الأيام الستة، راصدا بؤرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حول مركزية المدينة كعاصمة، من خلال ثلاثة وجوه: وجه المحامي زياد المدافع عن حقوق الفلسطينيين الذين سلبت أراضيهم، وطردوا من منازلهم في سلوان التي تقع على أطراف القدس الشرقية، ووجه المزارع خالد وهو أب لثمانية أطفال فقد هو الآخر منزله في سلوان ويكافح من أجل الحفاظ على أرضه وزيتونه، ثمّ وجه آرييه كينغ المستوطن الطارئ على المكان بالسطو وتزييف التاريخ والذاكرة، الذي يحرّض على غزو المزيد من المناطق في القدس.

font change

مقالات ذات صلة