"كويزار" الوحش... "الأكثر جهنمية في الكون"

كريستيان وولف لـ"المجلة": لا داعي للخوف من مثل هذه الثقوب السوداء "العملاق نائم"

بيب بوتيلا
بيب بوتيلا

"كويزار" الوحش... "الأكثر جهنمية في الكون"

قبل نحو 61 عاما، وبينما كان عالم الفلك الهولندي الأميركي مارتن شميدت يعمل على تحليل طيف أحد النجوم البعيدة، شاهد خطوطا غير عادية ولمعانا وبريقا غير معتاد سجلته مراصد فلكية أميركية. راجع العالم مجددا البيانات التي حصل عليها، إذ تصور أن عينيه تخدعانه. إلا أن الخطوط الغامضة ظلت كما هي. أرسل شميدت رسائل عدة إلى مراصد أخرى لتأكيد البيانات، ليُدرك بعد أشهر أنه اكتشف شيئا جديدا كليا.

بعد عام واحد، وتحديدا في عام 1964، صاغ العالم الأميركي التايواني الأصل هونغ بي تشيو، مصطلحا يصف الأجسام البعيدة والمضيئة التي اكتشفها شميدت. ذلك المصطلح الذي يُعرف الآن على نطاق واسع ويعبّر عن النجوم الزائفة هو "الكويزار".

أحدث هذا الاكتشاف الرائد ثورة في فهمنا للكون من خلال الكشف عن وجود أجسام بعيدة ومضيئة بشكل لا يصدق مدعومة بالثقوب السوداء الهائلة. ومنذ اكتشافها، كانت الـ"كويزارات" موضوعا لدراسة مكثفة عبر أطوال موجية مختلفة من الضوء، وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في معرفتنا بعلم الكونيات، وتطور المجرات، وفيزياء الثقوب السوداء.

"كويزار" ألمع جسم في الكون، يستمد طاقته من ثقب أسود ينمو بسرعة كبيرة الى درجة أنه يبتلع ما يعادل كتلة الشمس كل يوم، ويصدر ضوءا أقوى بـ 500 تريليون مرة من ضوء الشمس

دورية "نيتشر"

يعتقد علماء الفلك أنهم ربما عثروا على ألمع جسم في الكون، بحسب ما ورد في دورية "نيتشر"، "كويزار" يستمد طاقته من ثقب أسود ينمو بسرعة كبيرة الى درجة أنه يبتلع ما يعادل كتلة الشمس كل يوم.

ويُصدر القرص التراكمي للكويزار الذي يطلق عليه العلماء اسم "J0529-4351" ضوءا أقوى بـ 500 تريليون مرة من ضوء الشمس. تشير البيانات إلى أن كتلة الثقب الأسود الذي يغذي ذلك الـ"كويزار" البعيد تبلغ 15 إلى 20 مليار ضعف كتلة الشمس ويقع على بعد نحو 12 مليار سنة ضوئية من الأرض.

ما هي الـ"كويزارات"؟

الـ"كويزار" ظاهرة فيزيائية فلكية تتميز بوجود جسم مضيء ونشط بشكل مذهل في مراكز المجرات البعيدة، مدعوما بتراكم المواد على ثقب أسود فائق الكتلة.

تبعث هذه الأجسام إشعاعات عبر الطيف الكهرومغناطيسي، من موجات الراديو إلى الأشعة السينية وأشعة غاما، مع لمعان يتجاوز سطوع المجرات بأكملها، ويعتقد أنها تمثل مرحلة نشطة في تطور المجرات، حيث تولد طاقة الجاذبية الصادرة عن المادة الساقطة حرارة وإشعاعا شديدين، مما يولد مظهرا لامعا يشبه النجم. 

أ.ف.ب.
صورة نشرها المرصد الأوروبي (ESO)، يتصور فيها شكل نجم الكويزار الذي حطم الأرقام القياسية، 21 فبراير 2024

تبعث هذه الأجسام إشعاعات عبر الطيف الكهرومغناطيسي، من موجات الراديو إلى الأشعة السينية وأشعة غاما، مع لمعان يتجاوز سطوع المجرات بأكملها، ويعتقد أنها تمثل مرحلة نشطة في تطور المجرات، حيث تولد طاقة الجاذبية الصادرة عن المادة الساقطة حرارة وإشعاعا شديدين، مما يولد مظهرا لامعا يشبه النجم.

العملاق نائم

ويقول الباحث في علوم الفلك في الجامعة الأوسترالية كريستيان وولف، وهو المؤلف الرئيس للدراسة إن الـ"كوايزار" في حد ذاته "ثقب أسود سريع النمو" مشيرا في تصريحات خاصة لـ"المجلة" الى أن ما يجعل الثقب الأسود مرئيا بالنسبة للعلماء "هو ذلك النمو الذي يلتهم كل ما حوله".

لا داعي للخوف، فذلك الوحش ليس بعيدا فحسب، "الكويزار" الجديد سافر ضوؤه بسرعة تزيد على 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة لأكثر من 12 مليار سنة للوصول إلينا

كريستيان وولف، باحث في علوم الفلك في الجامعة الأوسترالية

فإذا توقف الثقب الأسود عن النمو "استحالت رؤيته إذ أنه لا يعكس الضوء على الإطلاق"، لكن عندما تنمو الثقوب السوداء، فإن المادة التي تلتهمها تنجذب في ظاهرة تُسمى القرص التراكمي "وهو نمط تماسك تدور فيه المادة حول الثقب الأسود بشكل أقرب حتى ابتلاعها".

مع دوران المادة، يتم إنتاج الكثير من الحرارة، مما يجعل الثقوب السوداء "تتألق بشكل أكثر سطوعا من المجرات. ذلك التألق يظهر في صورة الـ"كويزار" على حد قول وولف. تكمن أهمية دراسة "الكويزار" في واقع أن معظم المجرات الكبيرة تحتوي على ثقب أسود ضخم في مركزها، إذ يؤثر ذلك بشكل كبير على تطور المجرات المضيفة لها.

أ.ف.ب.
صورة نشرتها مجموعة "ناتشر بابليشينغ غروب"، تظهر كيفية حدوث اضطراب المد والجزر النادر، وانبعاث الطاقة أثناء تمزق نجم بسبب الثقب الأسود الضخم، 30 نوفمبر 2022

إلا أنه لا داعي للخوف من مثل هذه الثقوب السوداء، فذلك الوحش ليس بعيدا فحسب، فـ"الكويزار" الجديد سافر ضوؤه بسرعة تزيد على 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة لأكثر من 12 مليار سنة للوصول إلينا، "وهذا يعني أيضا أن الثقب الأسود توقف عن النمو منذ فترة طويلة". فهذا العملاق "نائم" على حد تعبير وولف، الذي يشير إلى انتهاء عصر  تغذيته الهائلة، فمعظم الغازات في المجرات تحولت إلى نجوم، وبعد مليارات السنين، ترتبت تلك النجوم بعضها مع بعض في أنماط منظمة لتدور في مدارات منظمة حول الثقوب السوداء النائمة في قلب المجرات.

الـ"كويزار" المكان الألمع في الكون

يضيء هذا الـ"كويزار" الجديد بقدر 500 تريليون شمس، أو 20 ألف ضعف سطوع مجرة درب التبانة بأكملها. وهو أكثر الأجسام المعروفة الآن في الكون سطوعا. وقد شوهد خلال الحقبة التي كانت فيها الثقوب السوداء أكثر نشاطا.

يعرف علماء الفلك بالفعل وجود مليون ثقب أسود فائق الكتلة سريع النمو في الكون، من النوع الموجود في مراكز المجرات والضخم مثل ملايين أو مليارات الشموس. ولكي تنمو بسرعة، فإنها تحتاج إلى سحب النجوم والسحب الغازية من المدارات المستقرة إلى قرص التراكم الخاص بها.

ترتفع حرارة القرص من طريق احتكاك ما يكفي من المواد، ليصبح وهج الحرارة ساطعا للغاية، إلى درجة أنه يتفوق على آلاف المجرات ويجعل نشاط الثقب الأسود مرئيا للجميع.

في الأشعة تحت الحمراء المتوسطة، تميل ألوان النجوم إلى الاختلاف عن ألوان الـ"كويزارات"، لأن للنجوم سطحا ذا درجة حرارة واحدة بينما الجزء اللامع من الـ"كويزار" يحتوي على مزيج مختلط من درجات الحرارة التي تغير لونها

ينمو هذا الـ"كويزار" بأقصى معدل نمو، ومعروف باسم "حد إدينغتون"، وهو أقصى لمعان يمكن أن يحققه جسم سماوي قبل أن يصبح الضغط الإشعاعي المنبعث من الضوء شديدا الى درجة أنه يتغلب على قوة الجاذبية. وهو ليس رقما ثابتا، بل يزداد مع كتلة الثقب الأسود نفسه. لذلك، إذا استمر الثقب الأسود في النمو عند حد إدينغتون، فإن كتلته ستنمو بشكل كبير، حيث تتضاعف الكتلة كل 30 مليون سنة.  لكن، لماذا لم يتم اكتشاف هذا من قبل؟

الثقوب السوداء الأكثر تطرفا نادرة للغاية. يقول وولف إن مجموعته العلمية فحصت كل شيء تقريبا في السماء يشبهه "ولا تزال الملايين من الثقوب السوداء الأقل نهما، والتي تتغذى على شمس واحدة شهريا، في انتظار اكتشافها، لكن هذا ليس عملنا الأساسي. فعملنا ينصب على الثقوب السوداء المتوحشة التي تأكل شمسا واحدة يوميا". 

كيف اكتشف الـ"كويزار"؟

رصد المرصد الأوروبي الجنوبي هذا الجسم "J0529-4351" خلال مسح للسماء عام 1980، لكن كان يعتقد أنه نجم. ولم يتم تحديده على أنه "كوايزر" حتى العام الماضي، بعدما حسمت الملاحظات التي أجريت بواسطة التلسكوبات في أوستراليا وصحراء أتاكاما في تشيلي ذلك الأمر.

يقول وولف "إنه وفي صورة للسماء ملتقطة بواسطة التلسكوب، تظهر الـ"كويزارات" مثل النجوم تماما "تم اكتشاف الـ'كويزار' الأول قبل 61 عاما لأنه كان مصدرا مشعا قويا يبدو أنه يتزامن مع نجم آخر".

أ.ف.ب.
صورة نشرها المرصد الأوروبي (ESO)، يظهر فيها الثقب الأسود الهائل الموجود في وسط مجرة M87

لكن عدد النجوم يفوق عدد الـ"كويزارات" بشكل كبير. لذا، نحن في حاجة إلى معلومات تميز بين النوعين وتكشف عن إبرة الـ"كويزار" في كومة قش النجوم.

في الآونة الأخيرة، توفرت بيانات ممتازة من بعثتين فضائيتين أجرتا مسوحات للسماء بأكملها، إحداهما مهمة وكالة الفضاء الأوروبية "غايا"، التي قامت بقياس دقيق لحركات مليار نجم، جميعها تقريبا في مجرة درب التبانة. ساعدت تلك البيانات في فهم أنماط تدفقها وتاريخها. فبعضها عبارة عن نجوم في الأجزاء البعيدة من المجرة وتكون بعيدة جدا بحيث لا يمكنها تمييز أي حركة، ومن ثم فإن القليل منها ليس نجوما على الإطلاق، بل "كويزارات". في تلك الدراسة، استخدم الباحثون بيانات عن ألوان الأشعة تحت الحمراء المتوسطة من مستكشف "ناسا" المخصص لرصد الأشعة تحت الحمراء.

في الأشعة تحت الحمراء المتوسطة، تميل ألوان النجوم إلى الاختلاف عن ألوان الـ"كويزارات"، لأن للنجوم سطحا ذا درجة حرارة واحدة بينما الجزء اللامع من الـ"كويزار" يحتوي على مزيج مختلط من درجات الحرارة التي تغير لونها.

ليس لدى العلماء أي دليل على الظروف الحقيقية في الجحيم، ربما لأنه لم يعد أحد ليروي الحكاية، هو مكان حار ومعاد للأشكال الجسدية للحياة البشرية. بفضل المسوحات الفلكية، وجد الآن المكان الأكثر جهنمية في الكون

كريستيان وولف، باحث في علوم الفلك في الجامعة الأوسترالية

وعندما جمع الباحثون بين مجموعتي البيانات الفضائية معا (بيانات غايا وناسا) أثبتوا أنها قوية بما يكفي للسماح بالعثور تقريبا على كل الـ"كويزارات" مع القليل من الأخطاء من بين تلك التي اختاروا دراستها بالتفصيل.

يبدو أن هناك ثقوبا سوداء وجدت في الكون المبكر -بعد نصف مليار سنة من الانفجار الكبير- وهي ضخمة جدا بحيث لا يمكن أن تكون قد تكونت من بقايا نجم انهار مبكرا ثم نمت "ببساطة" إلى ما هي عليه بواسطة الكون.

المكان الأكثر جهنمية في الكون

يقول وولف إنه، وفي معظم الأوقات، "كنا نعتقد أن الثقوب السوداء تتشكل في المجرات، أولاً من انهيار النجوم الضخمة، ثم تنمو بمرور الوقت". الآن، تفتح تلك الدراسة المزيد والمزيد من التساؤلات حول ما إذا كانت الثقوب السوداء قد جاءت أولاً، بل وكانت بمثابة بذور لتشكل المجرات حولها "وسيكون مثيرا على مدى العقود المقبلة إجراء مزيد من البحث في هذا الأمر" وفقا لوولف في تصريحاته لـ"المجلة".

بالنسبة الى وولف، يعد هذا الاكتشاف مثيرا أيضا من حيث الاهتمام الإنساني، "فالرهبة من الأشياء الموجودة في الطبيعة، ربما مثل رؤية جبل إيفرست يمكن أن تثير مشاعر خاصة". لكن، وفي الوقت نفسه، لا تُظهر صور للـ"كويزارات" أي مشهد من شأنه أن ينافس المناظر الطبيعية الأرضية، لأن الـ"كويزار" يشبه النقطة، والبيانات الأخرى لا تستحضر الكثير من الصور الذهنية ذات المغزى لدى غير علماء الفلك، "لكن كوننا علماء، يمكننا من خلال سياقنا أن نتخيل كيف يبدو هذا الكائن إذ يجب أن نفترض أن هذا الـ'كويزار' الجديد هو أعنف مكان نعرفه في الكون".

Shutterstock
الثقب الأسود فوق حقل النجوم في الفضاء

يبلغ عرض القرص التراكمي المرئي لذلك الـ"كويزار" سبع سنوات ضوئية وهو واحد ونصف مرة المسافة من النظام الشمسي إلى أقرب نجم "ألفا سنتوري". يشبه ذلك القرص التراكمي إعصارا عملاقا ذا ثقب أسود في عين العاصفة، وتتراوح سرعة الرياح فيه من آلاف الكيلومترات في الثانية على الحافة الخارجية إلى 10700 كيلومتر في الثانية من الداخل.

والقرص ساخن الى درجة لا يمكن تصورها، إذ تبلغ حرارته آلاف الدرجات المئوية. أما العاصفة بأكملها، فهي مترابطة بمجالات مغناطيسية قوية وهناك صواعق ذات حجم كوني تنطلق في كل مكان، وهو مصدر مهم للحرارة في الزوبعة "لذا أميل إلى وصفها بأنها أكبر بوابات الجحيم التي وجدناها في أي مكان في الكون، لأنك إذا سقطت شخصيا في القرص التراكمي، فسوف ينتهي بك الأمر باللون الأسود بالكامل وبالطبع لن تعود".

يقول وولف مستطردا، "ليس لدى العلماء أي دليل على الظروف الحقيقية في الجحيم، ربما لأنه لم يعد أحد ليروي الحكاية. لقد تم تصور الجحيم على أنه مكان غير مريح على الإطلاق، حار ومعادٍ للأشكال الجسدية للحياة البشرية. بفضل المسوحات الفلكية التي شملت السماء بأكملها، وجدنا الآن المكان الأكثر جهنمية في الكون".

font change

مقالات ذات صلة