تصاعد دور الجهات "اللادولتية" في الشرق الأوسط... ما العمل؟

حقبة جديدة من الديناميات الجيوسياسية

رويترز
رويترز
عناصر من "حزب الله" أمام مدافع مضادة للمدرعات في جرود عرسال قرب الحدود اللبنانية السورية في 29 يوليو 2017

تصاعد دور الجهات "اللادولتية" في الشرق الأوسط... ما العمل؟

فجأة، عندما تعمل دولة عربية على تأصيل هويتها الوطنية، وتطلق مشروعها الوطني والإقليمي ورؤيتها، يصبح مفهوم الدولة ككيان ومؤسسات برمته في خطر... عندما تسعى مصر إلى إطلاق مشروعها التنموي، يشتعل السودان جنوبها، وغزة شرقها، ناهيك عن ليبيا في غربها. يسعى الأردن إلى ترسيخ استقراره، فإذا بجبهته الشمالية تشتعل حربا مع تنظيمات لا يبدو تهريب المخدرات هدفا وحيدا لها، ويتهدد غربه بفعل حرب مجنونة تشنها إسرائيل على الفلسطينيين. يحاول العراق لملمة جراحه فيقع أسير معارك تخوضها ميليشيات لا تعترف بالدولة العراقية. كيف إذن لمشاريع التنمية والاستقرار الوطنية أن تعيش في ظل إقليم يصارع تنظيمات تفكر إقليميا وتستهدف الدولة ومؤسساتها بشكل مباشر؟ كيف يمكن للدولة ومؤسساتها أن تنجو من تغول هذه التنظيمات؟الشرق الأوسط- منطقة الروايات الجيوسياسية المعقدة- يشهد تحولا كبيرا في ديناميات القوة. فقد أصبح ظهور الجهات الفاعلة "اللادولتية" وتعزيز قوتها سمة مميزة للمشهد السياسي في المنطقة، وربما السمة الأميز مؤخرا. لنلق نظرة على الأحداث التالية في أكتوبر/تشرين الأول: هجوم "حزب العمال الكردستاني" في وسط أنقرة، هجوم على الكلية الحربية في حمص ربما كان واحدا من أقسى الهجمات التي تعرض لها الجيش السوري في تاريخه، اتهم "الحزب التركستاني الإسلامي" بالوقوف خلفه. ليس من الضروري أن تكون هذه الأحداث مترابطة أو مرتبطة بفاعل واحد، ربما حدثت بشكل متزامن بمحض الصدفة، لكن هذا التزامن يشير إلى أن هذه التنظيمات تتعلم من بعضها البعض، وبشكل جعلها قادرة على توجيه ضربات موجعة لدول المنطقة.

عدم الاستقرار السياسي والتفاوتات الاقتصادية، والقمع الهوياتي، والتدخلات الأجنبية، خلقت أرضا خصبة لنمو التنظيمات

ما زلنا في جغرافيا الشرق الأوسط: يتبنى تنظيم "داعش" الإرهابي 34 هجوما في سوريا خلال الفترة بين 4/1/2024 و10/01/2024، وذلك بعد أعوام على إعلان "هزيمته" على يد تحالف دولي كبير تقوده الولايات المتحدة. طبعا لا ننسى الهجوم الذي نفذه التنظيم في كرمان بإيران، والذي أودى بحياة العشرات.
لنتجه جنوبا في هذا الإقليم. تهدد جماعة "أنصار الله" الحوثية حركة الملاحة في البحر الأحمر، مما يستدعي تدخلا من الولايات المتحدة وبريطانيا وتنفيذ هجوم على الجماعة في اليمن.

أ ف ب
عناصر من "الحشد الشعبي" العراقي يرفعون راياتهم في جنازة زملاء لهم قتلوا في 4 يناير

للغرب قليلا، السودان و"قوات الدعم السريع"، وليبيا والميليشيات المنتشرة فيها.
لنعد شمالا إلى سوريا والعراق: لا يعجز الجيش فقط عن السيطرة على البلاد، بل يسلك هو نفسه سلوك الميليشيات: تهريب مخدرات، اشتباكات بين تشكيلاته، اغتيالات... إلخ. ويشتبك الجيش الأردني مع عصابات التهريب التي لا تحاول تهريب المخدرات، بل السلاح أيضا. إذن تهريب المخدرات ليس الهدف، بل تمويل السلاح من المال المتحصل من تهريب المخدرات هو المطلوب. ليس الأمر جنائيا إذن، بل سياسي بامتياز.
دون أدنى شك تؤثر هذه الكيانات، بشكل متزايد على مسار الأحداث في الشرق الأوسط. تقليديا، وحتى "الربيع العربي" كانت البيئة السياسية والأمنية في الشرق الأوسط خاضعة لهيمنة الدول ومؤسساتها العسكرية والأمنية القوية، بشكل أجبر عددا من هذه الميليشيات على الدخول في حيز هذه المؤسسات، كما حدث مع "حماس"، عندما خاضت الانتخابات، و"حزب الله" بعد دخوله البرلمان كحزب سياسي. بمعنى أن التنظيمات اللادولتية كانت مقتنعة بأهمية الدولة ومؤسساتها لتنفيذ أجنداتها، وأجندات من يقف خلفها ومعها، لكنها، وبشكل تدريجي، بدأت تستشعر أنها أضحت أقوى من الدولة، بل أصبحت الدولة عبئا تضيق ذرعا به، فهي تريد حرية الحركة، داخل وخارج الحدود، ولا تريد إزعاجات من مؤسسات الدولة الأخرى.

خلقت عوامل مثل عدم الاستقرار السياسي، والتفاوتات الاقتصادية، والقمع الهوياتي، والتدخلات الأجنبية والإقليمية، خلقت أرضا خصبة لنمو هذه التنظيمات وتأكيد نفوذها. كما تلقت الكثير من هذه التنظيمات الدعم من دول أجنبية، مما يزيد من تعقيد الديناميكيات الإقليمية. ويتراوح هذا الدعم بين المساعدات المالية وإمدادات الأسلحة والتدخلات العسكرية المباشرة. وفي حين أن مثل هذا الدعم يمكن أن يعزز من قدراتها، فإنه يشركها أيضا في الأهداف الاستراتيجية الأوسع لرعاتها وأحيانا بشكل يتحدى هذه الدول الراعية ذاتها.
لا يمكن وضع هذه التنظيمات في سلة واحدة، فالتعامل مع "داعش"، يختلف عن التعامل مع "حزب الله" و"هيئة تحرير الشام"، وجماعة "أنصار الله"، إلا أن ذلك يتطلب استراتيجية إقليمية شاملة، تعيد للدولة ومؤسساتها هيبتها المفقودة. فهذه التنظيمات، حصيلة عملية تهميش مارسته الدولة ذاتها على المحليات والأطراف، وجزء منها جاء نتيجة عنف الأنظمة، الذي خلق مجتمعات ترزح تحت نير النزوح والتهجير والإفقار والتجهيل.

فهم الجهات الفاعلة والتعامل معها أمر بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة

ما يزيد من تعقيد التعامل مع هذه التنظيمات تحديها للجهود الدبلوماسية التقليدية. فعمليات السلام والمفاوضات التي كانت في الماضي تضم جهات فاعلة تابعة للدولة فقط، أصبحت الآن تتطلب التعامل مع مجموعة متنوعة من هذه التنظيمات، ولكل منها مصالحها وأجنداتها الخاصة. وهذا التعقيد يتطلب اتباع نهج واستراتيجيات دبلوماسية مبتكرة. 

أ ف ب
شبان مؤيدون للجيش السوداني أثناء دورة تدريبية في الغضارف في 26 فبراير

بالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يستمر دور هذه التنظيمات في الشرق الأوسط في النمو. فالنسيج الاجتماعي والسياسي المعقد في المنطقة، والصراعات المستمرة، والمصالح الخارجية، توفر بيئة مواتية لانتشار هذه الأسلحة. ويتمثل التحدي الذي يواجه الجهات الحكومية والمجتمع الدولي في إيجاد طرق لدمج هذه الكيانات في نظام إقليمي مستدام وسلمي. غير أن هذا الدمج يتطلب حلولا شاملة، تتراوح من المواجهة العسكرية كتلك التي حدثت مع "داعش"، إلى أدوات أكثر سلمية للتعامل مع هذه التنظيمات.
إن الدور المتزايد الذي تلعبه الجهات الفاعلة غير التابعة لدول بعينها في الشرق الأوسط يمثل تحولا كبيرا في المشهد الجيوسياسي للمنطقة. وقد أعادت هذه الكيانات، بأجنداتها وأساليبها المتنوعة، تشكيل ديناميكيات القوة والصراع والدبلوماسية. إن فهم هذه الجهات الفاعلة والتعامل معها أمر بالغ الأهمية لأي استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق الاستقرار والسلام على المدى الطويل في المنطقة. ومع استمرار الشرق الأوسط في التطور، فإن تأثير هذه الجهات الفاعلة غير التابعة لدول بعينها سوف يشكل بلا شك عاملا حاسما في تشكيل مستقبله. 
بشكل حاسم، يتعين على الدول العربية وسائر دول المنطقة التفكير خارج صندوق الدولة الواحدة، نحو أمن إقليمي يضمن لها تحقيق التنمية داخل حدودها. بمعنى آخر، لا تنمية محلية دون سلام إقليمي، في سوريا واليمن والسودان.

font change

مقالات ذات صلة