مهزلة مساعدة غزة بالمظلات!

مهزلة مساعدة غزة بالمظلات!

يمثل إسقاط المساعدات جوا لأهالي قطاع غزة في الأونة الأخيرة، تراجيكوميديا كبرى غير مسبوقة في تاريخ الأمم ومسارح الشعوب.

صحيح أن سكان غزة المحاصرين والمعرضين للإبادة هم في أمس الحاجة إلى غذاء لن يسد رمقهم ولكن قد يبقيهم على قيد الحياة، إلا أن ما يحدث في سماء غزة يستوقف كل عاقل مراقب للأحداث، حيث تتولى الطائرات الحربية والمسيرات رمي الصواريخ التي لا تخطئ هدفا، عشوائيا أكان أم مقصودا، ومصدرها الأساسي هو الولايات المتحدة، تليها طائرات تنزل المساعدات بالمظلات بهدوء وتمايل، لتسقط على بعد مئات الأمتار من الفلسطينيين، أو تغرق في البحر أو تنتهي في إسرائيل، أو تخذلها المظلة لتتحول قنبلة من العيار الثقيل تسقط على الفلسطينيين فتقتلهم، وكأن آلة القتل الإسرائيلية لا تكفيهم.

أفضل من وصف المشهد، الأمين العام للمجلس النروجي للاجئين والمسؤول السابق عن المساعدات في الأمم المتحدة، جان إيغلاند، في قوله إن "عمليات الإسقاط الجوي مكلفة وعشوائية، وعادة ما تؤدي إلى حصول الأشخاص الخطأ على المساعدات"، وهم عشرات من آلافٍ بينهم أولئك القابعون في المستشفيات ومخيمات النازحين، يعودون بلا شيء مجرجرين أذيال الذل والخيبة، ليستكملوا رحلة الموت جوعا، خصوصا بين الأطفال في شمال القطاع حيث يوجد أكثر من 300 ألف فلسطيني بحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، يقننون القليل من الطعام أو المياه النظيفة. علما أن ما أُسقط حتى الآن كمية لا تذكر مقارنة بالحاجات، فيما يحتاج القطاع فعليا إلى إدخال نحو 600 -1000 شاحنة قبل الحرب، والآن هو يحتاج، بعد كل مشاهد الدمار ومآسي القتل والاصابات والجوع، إلى آلاف الشحنات يوميا. أضف إلى ذلك، أن ما يتم إسقاطه هو عبارة عن وجبات يومية، بعيدة عن كونها مساعدات استراتيجية كالحبوب والطحين والزيوت وغيرها من المنتجات المتعددة الاستخدامات والطويلة الأجل.

عمليات الإسقاط الجوي مكلفة وعشوائية، وعادة ما تؤدي إلى حصول الأشخاص الخطأ على المساعدات

جان إيغلاند، الأمين العام للمجلس النروجي للاجئين والمسؤول السابق عن المساعدات في الأمم المتحدة

أكثر من 20 عملية إسقاط جوي للمساعدات نفذتها خلال الأسابيع القليلة الماضية، فرنسا وبلجيكا والإمارات وقطر ومصر والولايات المتحدة والأردن، بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي طبعا. وهي تعتبر الملاذ الأخير بعد استنفاد كل الوسائل الأخرى المتاحة والأكثر نجاعة وفقا لحسابات برنامج الغذاء العالمي واللجنة الدولية للصليب الأحمر، إضافة إلى كونها إعلانا لفشل مساعي إدخال المساعدات عبر البر، في امتداد مخطط الإبادة والتهجير الذي تمارسه اسرائيل تحت انظار كاميرات العالم وأقماره الاصطناعية، وعدا كونها لا تلبي الحاجة الفعلية على الأرض، وبغض النظر عما تتضمنه هذه المساعدات، وهي بحسب منظمات ليست مصممة للأمهات المرضعات أو للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، أو للأمراض المزمنة.

هل أميركا عاجزة حقا

هل بلغ عجز العالم مرحلة المظلات الغذائية هذه، بعد تصميم إسرائيل على قتل مئات الفلسطينينن خلال سعيهم لتلقي مساعدات عبر البر؟ وهل هناك من أدلة أشد للعالم أن القطاع في نكبة انسانية تاريخية ويتخبط في كوارث إنسانية رهيبة تحتاج جهودا طارئة غير مسبوقة، بعدما تجاوز أعداد القتلى 31 الف فلسطيني، واصابة 72524 بحسب آخر أرقام "رويترز".

يتعجب المرء عندما يتردد أن الولايات المتحدة في صدد بناء ميناء على شاطئ غزة يستغرق العمل على إنجازه شهرين كاملين، كممر مناسب لإيصال المساعدات، وهل هذا يعني أن الحرب مستمرة إلى "ما بعد بعد" شهرين!

تساؤلات تغذيها الوقائع على الأرض من جهة، وما تحققه هذه الخطوة الأخيرة، مقارنة بالأثر الكبير الذي يمكن أن يحدثه نقل المساعدات عبر الشاحنات. فحجم المساعدات المسقط جوا، لا يقارن بما يمكن أن يحصل عليه القطاع برا، وتكلفته تفوق السبعة أضعاف مقارنة بالمساعدات المنقولة برا، حتى أن المرء يتساءل هل ما يدور في القطاع، مرسوم بتفاصيله المرعبة حتى قبل نشوب الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.  

يتعجب المرء عندما يتردد أن الولايات المتحدة في صدد بناء ميناء على شاطئ غزة يستغرق العمل على إنجازه شهرين كاملين، كممر مناسب لإيصال المساعدات إلى القطاع، شماله تحديدا. فهل لدى الولايات المتحدة القدرة على تنفيذ مشروع حيوي واستراتيجي كهذا بهذه السهولة في حين عجزت عن الضغط على إسرائيل لفتح المعابر البرية لأيام حيث تنتظر أكثر من 2000 شاحنة عند المعابر الحدودية في غزة، لم تسمح لها إسرائيل بالدخول؟ 

وهل أميركا عاجزة حقا عن الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار وإزاحة هذه المعاناة التي لا توصف عن كاهل الغزيين بدلا من رمي حفنة من الإعانات يكاد تأثيرها أن يكون معدوما؟ من المشروع التصور والتساؤل ما إذا كان للميناء الذي تنوي الولايات المتحدة إنشاءه أهداف ووظائف اقتصادية وأمنية أخرى في الفترة المقبلة، وربما بعد انتهاء الحرب، وهي استخدمت المساعدات ورقة لتمرير هذا المشروع في خضم المأساة الدائرة في القطاع. أما الاستنتاج الأهم، فهو أن الحرب مستمرة إلى "ما بعد بعد" شهرين!

المظلات لا تجنب المجاعة

ثمة أكثر من نصف مليون شخص في غزة يواجهون المجاعة، في حين يعاني جميع السكان البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة من نقص حاد في الغذاء، وفقاً لمنظمات الإغاثة، وتفيد أرقام مرعبة بأن سوء التغذية الحاد وصل إلى 16,2 في المئة، متجاوزا العتبة الحرجة البالغة 15 في المئة التي حددتها منظمة الصحة العالمية، وبأن ما لا يقل عن 16 طفلا توفوا بسبب الجفاف وسوء التغذية في شمال القطاع.

هل وظيفة هذا المظلات، هي محض رد تلفزيوني على المشهد الاستعراضي لمظلات "حماس" الهجومية يوم السابع من أكتوبر، التي ابتهج بها مزايدو "محور المقاومة" الإيراني! 

يخيل إليَّ أن وظيفة هذا المظلات، هي محض رد تلفزيوني على المشهد الاستعراضي لمظلات "حماس" الهجومية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي ابتهج بها مزايدو "محور المقاومة" الايراني الصنع، وقصيرو النظر والسذج فقط!  

هذا الانزال الجوي ليس إلا حركة إعلامية تافهة، يراد منها حفظ ماء الوجه أمام الشعوب والأصوات الأميركية والأوروبية المنددة بالحرب، وهي لن تجنب القطاع المجاعة، ما لم تفتح إسرائيل المعابر البرية أو تسمح بإقامة ممرات آمنة للغذاء والدواء قبل الفناء، أو يجري وقف نهائيّ لإطلاق النار.

font change