بوتين... هاجس الخريطة وظل بطرس الأكبر
أطول زعماء روسيا في المنصب من 200 عام
بوتين... هاجس الخريطة وظل بطرس الأكبر
حقق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوزا ساحقا في الانتخابات الرئاسية الأحد ليعزز قبضته على السلطة رغم مشاركة آلاف المعارضين في احتجاجات بمراكز التصويت في اقتراع قالت الولايات المتحدة إن التصويت افتقر إلى الحرية والنزاهة.
وبالنسبة لبوتين، الضابط السابق بجهاز المخابرات السوفيتية (كي.جي.بي) الذي صعد إلى السلطة لأول مرة في عام 1999، فإن النتيجة تؤكد أنه ينبغي لزعماء الغرب أن ينتبهوا إلى أن روسيا ستكون أكثر جرأة سواء في السلم أو الحرب لسنوات عديدة مقبلة.
وتعني النتائج الأولية أن بوتين (71 عاما) سيضمن بسهولة فترة رئاسية جديدة مدتها ست سنوات ستجعله يتفوق على جوزيف ستالين ليصبح أطول زعماء روسيا بقاء في المنصب منذ أكثر من 200 عام. من هو بوتين؟ وماذا يعني فوزه في تاريخ روسيا وخريطتها وقياصرتها؟
الخطوة الأولى لرسم صورة دقيقة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا تتعلق بمعرفة تاريخ ولادته ولا بحياته المهنية في أجهزة الاستخبارات السوفياتية ولا بدراسته أو عمله. المسار الصحيح إلى فهم شخصية بوتين هو النظر بعمق إلى خريطة روسيا وتاريخها والكيفية التي يتغيران بها منذ أكثر من قرن.
جلي أن بوتين كلف نفسه بمهمة خطيرة منذ قرر المشاركة في الحياة العامة كمساعد لرئيس بلدية سانت بيترسبورغ/ لنينغراد، أناتولي سابتشاك. بيد أن المهمة هذه تطورت واكتسبت أبعادا ربما لم تخطر في بال الضابط السابق في مقر جهاز "كي جي بي" في مدينة درسدن الألمانية في الأعوام الأخيرة من الحرب الباردة. وسابتشاك الذي ذبلت ذكراه هذه الأيام، كان من بين من ملأوا الأسماع والأبصار أثناء حكم الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف. فقد دفع في اتجاه المزيد من الإصلاحات الليبرالية في السياسة والإعلام والاقتصاد في الاتحاد السوفياتي. نجوميته وضعته في حال خلاف مع نجم طموح آخر في تلك الفترة المضطربة هو بوريس يلتسين الآتي من خلفية انتماء طويل إلى الحزب الشيوعي السوفياتي وعداء عميق للرفاق القدامى ولتاريخه الشخصي في الحزب.
يبالغ بوتين وأنصاره في وصف الأهوال التي عاشتها روسيا في التسعينات
لم يحقق بوتين إنجازات تُذكر أثناء عمله في بلدية سانت بيترسبورغ باستثناء مرافقته كبار زائري المدينة كولي العهد البريطاني الأمير تشارلز أو الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وفي هذا السياق، يذكر السفير السابق ستروب تالبوت في السلسلة الوثائقية "ملفات بوتين" التي بثتها شبكة "بي بي إس" (PBS) الأميركية قبل سنوات أن بوتين الذي كان يهتم بتأمين تنقلات ولقاءات الزائرين الأميركيين، بذل جهدا كبيرا أثناء زيارة كلينتون لمنع أي احتكاك بين الرئيس الأميركي والجمهور الروسي وضرب ما يشبه الحصار على الوفد الأميركي بما يذكر بسلوك صغار ضباط وعناصر الاستخبارات الذين يعملون على عزل الآخرين عن مجريات الأمور وإحاطة أنفسهم بأطواق من الغموض والسرية.
وهذا بالضبط ما كان بوتين يفعله من خلال إنشائه ما سيُعرف بـ"حلقة سانت بيترسبورغ" في تسعينات القرن الماضي وهي التي ضمت بعض زملائه في العاصمة القيصرية السابقة سواء في كلية الحقوق بجامعة المدينة حيث درس، أو في الـ"كي جي بي"، وهي الحلقة (أو العصابة كما يفضل خصوم بوتين تسميتها) التي ستؤدي دورا كبيرا في صعوده إلى رئاسة الوزراء في روسيا ثم إلى سدة الرئاسة في الكرملين.
التسعينات الهادرة
من المحطات التي يتعين التركيز عليها في سيرة بوتين، الصدمة التي أحدثتها في نفسه سنوات التسعينات من القرن الماضي. ذلك أن انهيار الاتحاد السوفياتي بما كان يمثل من بنية سياسية مستقرة لها امتداداتها على الاستقرار النفسي والسلوكي والاجتماعي لأكثرية كبيرة من المواطنين ومحاولة الانتقال من البنية تلك إلى أخرى تعتمد اقتصاد السوق بنسخته المستوردة والتي تعلي من قيم الاستهلاك والربح السريع، ترك آثارا بالغة على الروس وخصوصا على من اعتادوا العمل ضمن نظام راسخ من التقاليد، لم تكن كلها من ابتداع النظام الشيوعي بل إن بعضها يرجع إلى مئات الأعوام.
ولا شك في أن بوتين وأنصاره يبالغون في وصف الأهوال التي عاشتها روسيا في التسعينات لتبرير ما جاءوا به في عهد الرئيس الجديد. لكن، في المقابل، لا مفر من أن الانهيار كان كبيرا وخطيرا على كل أوجه الحياة في روسيا التي ظهرت فيها تيارات سياسية وثقافية واقتصادية من مدارس شتى تمتد من أقصى اليمين الفاشي إلى أقصى الليبرالية. عهد بوريس يلتسين كان اختبارا فاشلا للتيارات تلك كلها وبدا في الأعوام الأخيرة من العقد ذاك أن أصحاب المناصب العليا الذين يحتلون مقاعد الوزراء ورؤساء الحكومات مرشحون للاختفاء بالسرعة ذاتها التي جاءوا بها.
يرى بوتين أن رسالة روسيا تفرض عليها البقاء في حالة يقظة قومية وعسكرية واقتصادية
هكذا كانت التوقعات عندما وصل بوتين إلى قيادة جهاز الاستخبارات ثم إلى رئاسة الحكومة في أغسطس/آب 1999 بعد سلسلة من المسؤولين الباهتين الآتين على خلفية الهزيمة المذلة التي تعرضت لها روسيا في حرب الشيشان الأولى (1994-1996) وأسفرت عن اهتزاز عميق في صورة الجيش الروسي الذي ورث سلفه السوفياتي، بل عن إثارة التساؤلات حول وحدة الأراضي الروسية ومعنى بقاء يلتسين في منصبه.
وعليه، لم يكن مفاجئا أن يستهل بوتين عمله في رئاسة الحكومة بمحاولة محو آثار الهزيمة والتخلص من رموزها. وفي أعقاب دخول مسلحين من الشيشان أراضي داغستان وقعت تفجيرات غامضة في روسيا. كلام كثير قيل عن سلسلة الانفجارات الضخمة التي هزت مباني سكنية في المدن الروسية المختلفة وأسفرت عن سقوط مئات من القتلى. السلطات الروسية ألقت اللوم على المتمردين الشيشان فيما ألمح المشككون إلى تورط الأجهزة الروسية في خلق أجواء مناسبة لشن الحرب الثانية على الشيشان.
ولم تتأخر هذه عن الاندلاع إذ بدا أن بوتين والقيادة الروسية الجديدة راحا ينظران إلى الوضع في الشيشان كتهديد وجودي مع تداول أنباء عن دعم خارجي يتلقاه المتمردون الشيشان من الغرب في سبيل إصابة روسيا بشرخ دائم في وحدتها.
هذه النقطة مست وترا شديد الحساسية في عملية إعادة تكوين الوعي الدولتي- إذا صح التعبير- الروسي بعد فشل التجربة السوفياتية والتخبط في عهد بوريس يلتسين. الكثير من السياسيين والمفكرين الروس كانوا قد وصلوا إلى قناعة تقوم على أن روسيا لا يمكنها البقاء ما لم تنتج نفسها بصيغة جديدة. آراء عديدة طرحت في تلك المدة، يبدو أن ما صمد من بينها هو "الأوراسية" التي روج لها الكاتب ألكسندر دوغين ولقيت آذانا صاغية عند بوتين. خلاصة هذه الأطروحة أن روسيا لا تنتمي إلى الحضارة الغربية، بل هي نسيج فريد يؤدي فيه الإيمان المسيحي الأرثوذكسي دورا جامعا للشعب الروسي المنتشر على مساحة جغرافية شاسعة بين آسيا وأوروبا. وأن روسيا التي تحمل إرث الامبراطورية البيزنطية (لذلك هي روما الثالثة، بعد الأولى في العصر القديم، ثم القسطنطينية في العصور الوسطى) تواجه كذلك تهديدات جمة من الغرب والشرق وأن رسالتها تفرض عليها البقاء في حالة يقظة قومية وعسكرية واقتصادية.
بكلمات ثانية، استعاد بوتين مشروع القيصر بطرس الأكبر الذي أخرج روسيا من ظلمات القرون الوسطى ووضعها على طريق التحول إلى قوة عالمية. وليست هي المرة الأولى التي يستوحي حكام روسيا نماذجهم السياسية من الماضي. فجوزيف ستالين، وعلى الرغم من انتمائه الأيديولوجي إلى الماركسية التي صدرت عن الحداثة الأوروبية الغربية، فإنه كان كبير الإعجاب بالقيصر إيفان الثالث "الرهيب" الذي اعتبره مؤسس الدولة الروسية بعد الانتصارات التي حققها على الأمراء المحليين وعلى جماعات التجار وأصحاب الأراضي وعلى الخصوم الخارجيين خصوصا التتار في عاصمتهم قازان.
يرى بوتين أنه مسؤول عن إنقاذ بلاده الكبيرة والغنية من ربقة التبعية للغرب
وصحيح أن بطرس الأكبر قد رأى في الغرب الباب الذي يجب أن تدخل منه روسيا إلى التمدن، وحربه القاسية حتى على ملابس النبلاء الروس ولحاهم واستقدامه المظاهر الغربية في العمارة والفن، إلا أنه أرفق كل ذلك مع إصرار على الموقع الروسي الحاسم في السياسات الأوروبية وحيال السلطنة العثمانية. وهو الدرب الذي سلكه خلفاؤه من دون استثناء تقريبا على الرغم من أن بعضهم- مثل كتارينا العظمى- لم يكد يتكلم اللغة الروسية ولم يكن روسيا من ناحية النسب إلا أن العقيدة القومية الروسية كانت عميقة الأثر فيه.
سينتقل الأثر المذكور إلى بوتين المولع بسياسات يشبهها بعض الباحثين الغربين على غرار جون ميرشايمر، بسياسات القرن التاسع عشر التي يقول إنها لا تزال المسيطرة على عقول السياسيين في موسكو (وبكين). ومن بين التصورات تلك، الاعتقاد بأن روسيا ستظل معرضة لهجوم غربي على خطى هجومي نابليون بونابرت وأدولف هتلر اللذين فصل بينهما 130 عاما تقريبا. إلا أنهما يتشاركان في أنهما جاءا من حكومتين غربيتين قويتين واستغلا نقطة الضعف الجغرافية الروسية المتمثلة في "السهب الأوروبي الكبير" الذي تنعدم فيه الجبال والواقع بين بولندا وروسيا بحيث تصبح حركة الجيوش سهلة فيما تنكشف كل مواقع الدفاع.
يضاف إلى ذلك أن القسم الأكبر من سكان روسيا يقيم في الجزء الغربي (الأوروبي) من البلاد، فيما تظل الأقسام الآسيوية شبه خاوية نظرا إلى عزلتها الجغرافية ومناخها القاسي صيفا وشتاء، ناهيك عن الصعوبات الضخمة التي واجهت كل محاولات تنمية روسيا الآسيوية. عليه، تظل روسيا الأوروبية هي الأهم إضافة إلى أنها حاضنة التاريخ والثقافة و"الحضارة" الروسية– بتعبير دوغين.
من هنا، يمكن فهم الحساسية الشديدة التي قابل بها توسيع حلف "الناتو" لعضويته لتشمل دول البلطيق السوفياتية السابقة الثلاث وتصديه بالقوة لسعي جورجيا إلى الانضمام لـ"الحلف الأطلسي" (ضمن مسائل أخرى) في 2008. والأهم الحرب الحالية في أوكرانيا التي لا يجافي الحقيقة القول إنها شكلت أزمة شخصية لبوتين بسبب اختصارها كل التاريخ المعقد بين روسيا وشقيقتها التوأم أوكرانيا.
مقالات ومقابلات وخطابات بوتين تكرر ذاتها عند الوصول إلى أوكرانيا التي شن "عمليته العسكرية الخاصة" عليها في 24 فبراير 2022: لا شيء يسمى أوكرانيا بل هي مجموعة من الأراضي التي يجب أن يعود أكثرها إلى روسيا أما سكانها فهم روس أقحاح لكنهم يتحدثون بلهجة (وليس لغة) خاصة تأثرت باللغة البولندية... يضاف إلى ذلك اتهامات للزعماء السوفيات بالتفريط في أراضي روسيا وتوزيعها كهدايا على الأوكران والبولنديين.
على هذه الخلفية السياسية والتاريخية يتحرك الرئيس الروسي الذي يرى أنه مسؤول عن إنقاذ بلاده الكبيرة والغنية من ربقة التبعية للغرب الذي لا يأتي منه أي شيء إيجابي. السخرية المريرة من مظاهر الانحدار الغربي في السياسة والاجتماع وانتشار ظواهر يراها بوتين "غير أخلاقية" أمور كلها تدفع بوتين إلى التمسك أكثر بإيمانه بانتصار روسيا وحلفائها في الخارج، على الأعداء في الغرب...