"الإخوان" في لبنان وعراضاتهم المسلحة... "حزب الله" بنسخته المقلدة

عملية الاستنساخ تشمل الخطاب الاستعلائي والديماغوجي

 أ ف ب
أ ف ب
اعضاء في "الجماعة الاسلامية" يشاركون في جنازة القيادي محمد جمال إبراهيم في 11 مارس

"الإخوان" في لبنان وعراضاتهم المسلحة... "حزب الله" بنسخته المقلدة

منذ قيام "الجماعة الإسلامية"، الفرع اللبناني لتنظيم "الإخوان المسلمين"، بقصف المستوطنات الإسرائيلية شمالي فلسطين عبر ذراعها العسكرية (قوات الفجر)، دأب أمينها العام وسائر قياداتها ومسؤولوها على تأكيد أن سلاح الجماعة "موجه حصرا ضد العدو الإسرائيلي".

لكن، وبمعزل عن عدم اشرعية هذا السلاح، وإشكاليته الكبرى المتمثلة في خرقه لـ"اتفاق الطائف"، الذي أوقف الحرب الأهلية اللبنانية، ونص على سحب سلاح جميع الميليشيات، وكذلك القرار الأممي 1701 الذي أوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، ونص على عدم وجود أسلحة ثقيلة شمال نهر الليطاني، بعمق نحو 30 كيلومترا، فإن الوقائع تظهر أن لهذا السلاح أدوارا أخرى، كلها داخلية.

استعراض قوة

في خضم حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، لم ينل مشهد الظهور المسلح الفج "للجماعة الإسلامية" خلال تشييع القيادي في "قوات الفجر" محمد بشاشة في مدينة صيدا يوم 3 يناير/كانون الثاني الماضي، الاهتمام الذي تستحقه، رغم كل ما احتواه من رمزيات ومعان. وكان بشاشة قد قتل مع زميل له، واثنين من قادة "حماس" في لبنان، في عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" صالح العاروري، بقصف مسيرة إسرائيلية لمكتب الحركة في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت.

وقد انتشر شبان ملثمون بشكل كامل، يرتدون بزات عسكرية موحدة، يرفعون قبضات أسلحتهم، ويطلقون زخات من الرصاص في الهواء. لتتزاحم الأسئلة وتتوالى: ما أهداف هذا الاستعراض المسلح؟ هل يمكن لهذا السلاح أن يطال المستوطنات الإسرائيلية؟ هل يمكنه إسقاط مسيرة إسرائيلية تمر فوق رأس حامليه؟ هل له أي وزن عسكري أو حتى سياسي في حرب الاستنزاف الدائرة جنوبا؟ هل له أي أثر في التخفيف من معاناة أهل غزة؟ الحال أن هذا الاستعراض العسكري ما هو إلا رسالة موجهة للداخل، يراد من خلالها توظيف وهج السلاح في الداخل اللبناني، والداخل السني، سياسيا واجتماعيا.

تكرر المشهد في اليوم التالي بشكل أكثر فجاجة، خلال تشييع صالح العاروري ورفاقه من قلب منطقة الطريق الجديدة ذات الثقل الشعبي السني في بيروت. الأمر الذي أفضى إلى اعتراض عدد قليل من الأصوات على هذا الاستعراض العسكري "الميليشياوي" غير المبرر. فما كان من "الجماعة الإسلامية" إلا أن اعتبرت تلك الاعتراضات "لا وزن ولا قيمة" لها، وذلك على لسان رئيس مكتبها السياسي علي أبو ياسين، في تصريح لأحد المواقع الإخبارية اللبنانية.

رداء التقية ونشوة الحرب

قبل سنة ونيف، قام أحد قادة "الجماعة" بتهديد زميلة صحافية، عقب مقال لها عن التحولات التي حصلت داخل أروقة الجماعة. كانت هي المرة الأولى التي يبدر من هذا التنظيم الإسلامي العريق تصرف من هذا القبيل. لذا كان فعل التهديد مستهجنا داخل "الجماعة" قبل خارجها، لأنه يكسر أعرافا وتقاليد ويشجع خطاب الكراهية، ويزيد من حجم الانفصال بين التنظيم وبيئته اللصيقة. حينذاك كان الفريق الذي وصل إلى سدة القيادة في الجماعة عبر انتخابات داخلية معلبة مسبقا، حريصا على إخفاء حالة "العسكريتاريا" الناشئة خلف "رداء التقية".

الاستعراض العسكري ليس إلا رسالة، لتوظيف وهج السلاح في الداخل اللبناني، والداخل السني، سياسيا واجتماعيا

لذلك سارع لاحتواء ما حصل، من خلال التودد إلى الكتاب الذين تناولوا مسألة التغييرات الداخلية، وانعكاساتها السياسية والاستراتيجية. وسعى لاستدراج بعضهم بالإغراءات المالية أحيانا، وفق بعض المصادر، من أجل معرفة مصادر معلوماتهم، واستغلال ذلك لإجراء محاكمة حزبية لبعض القياديين السابقين المُراد التخلص منهم. فشل هذا المسار، وعولجت قضية التهديد باعتبارها خروجا فرديا عن السياق العام لا أكثر.

 أ ف ب
مشيعون في مدينة صيدا يحملون نعش مقاتل في "حماس" قتل في غارة إسرائيلية في بلدة القليلة في 19 يناير

فيما بعد تبين أن هذا السلوك لم يكن مقتطعا من سياقه، بل هو السياق بحد ذاته. فما كادت "حماس" تنفذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حتى خلعت قيادة الجماعة الجديدة عنها "رداء التقية"، وراحت تستغل تعاطف الجمهور السني مع القضية الفلسطينية، من أجل الظهور على الساحة كفصيل مسلح. وفي الوقت الذي يعمل هذا الفصيل المسلح على تجييش الشارع السني وتحريضه وأدلجته بمختلف الوسائل والأدوات الدينية والأيديولوجية، ويفتح "باب الجهاد"، كما أشار أمين عام "الجماعة الإسلامية" محمد طقوش في حوار صحافي، أمام عشرات الشبان الذين تعرضوا لعمليات "غسيل أدمغة"، فإنه يحاول إسكات أي صوت مخالف أو معترض.
ليل السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر فقط من عملية "طوفان الأقصى"، تعرض منزل وسيارة المسؤول السابق لـ"الجماعة الإسلامية" في محافظة الشمال إلى إطلاق نار مجهول الهوية. وحسب المعلومات المستقاة من جهات أمنية، فإن الهدف كان "توجيه رسالة داخلية حادة للقيادي السابق، وللجناح المحسوب عليه، الأكثر ميلا للعلاقة مع تركيا وقطر، في ظل الشعور بنشوة قوة في هذه المرحلة". تلاها قيام أحد القياديين المسؤولين عن الملف الأمني في "الجماعة" بتهديد زميل صحافي آخر، خلال مناسبة اجتماعية جمعتهما في يناير/كانون الثاني الماضي، علنا وأمام الحاضرين. وحين تفاعلت القضية، عقب تقديم الصحافي إخبارا أمام القضاء اللبناني، كان أن برر صاحب التهديد ما حصل بالقول: "هؤلاء الصحافيون يستهدفوننا بالكتابة، ونحن نمنع شبابنا عنهم بالقوة"، وفق ما نقلته مصادر دخلت على خط الوساطة.

من العراضات المسلحة إلى التخوين

وسط كل ذلك، تلقت "الجماعة" نصائح من جهات عربية وإقليمية فاعلة بضرورة الانسحاب من الواجهة، والركون إلى الظل بعض الشيء، ولا سيما غداة الظهور السلفي على مسرح الأحداث الساخنة جنوبا أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ومن بعدها عملية اغتيال صالح العاروري، وذلك خوفا من الثمن الذي يمكن أن يفرض على الجماعة دفعه في "اليوم التالي" للحرب على غزة، وإمكانية التضحية بها على مذبح السياسة. فتراجعت وتيرة نشاطها بشكل ملحوظ، لكنها عادت مرة جديدة إلى الواجهة في الأيام القليلة الماضية. 

تلقت "الجماعة" نصائح من جهات عربية وإقليمية فاعلة بضرورة الانسحاب من الواجهة، بعد الظهور السلفي في نوفمبر 2023

في 10 مارس/آذار، قتل ثلاثة قياديين من "قوات الفجر"، الذراع العسكرية "للجماعة الإسلامية"، في منطقة العرقوب الحدودية، بقصف مسيرة إسرائيلية، بينما كانوا بصدد إطلاق صاروخ نحو شمال فلسطين المحتلة. وأبدت بعض النخب السنية أسفها لمصرع أشخاص في ريعان شبابهم بلا فائدة تذكر، في الوقت الذي كان بإمكانهم خدمة القضية الفلسطينية بطرق أخرى أكثر تأثيرا ونجاعة، خصوصا أن بينهم طبيبا. 
في اليوم التالي، نظمت "الجماعة" استعراضا مسلحا في محلة الطريق الجديدة وسط بيروت، خلال تشييع أحد شهدائها الثلاثة، وهو من أبناء العاصمة اللبنانية. هذا التمادي في العراضات المسلحة استفز شريحة واسعة من الشارع السني، نخبا وجمهورا. ودفع ببعض نواب بيروت الذي يمثلون "انتفاضة 17 أكتوبر 2019" الشعبية، إلى اتخاذ مواقف حادة ضد هذا الظهور "الميليشياوي". 
وكان الموقف الأكثر حدة للنائب إبراهيم منيمنة، الذي اعتبر أن "إحياء المظاهر المسلحة والعراضات العسكرية وإطلاق الرصاص في قلب بيروت من قبل (الجماعة الإسلامية)، ليس سوى تلطٍ وراء الأحداث لفرض وقائع ميدانية في العاصمة تحت عناوين المقاومة ودعم القضية الفلسطينية". وطالب المؤسسات الأمنية الشرعية بمنع تكرار مثل هذه الممارسات. وحذا حذوه نائبا بيروت وضاح الصادق، وفؤاد مخزومي. 

ا ف ب
مشيعون وعناصر من "الجماعة الاسلامية" يرفعون صور القيادي في "حماس" صالح العاروري الذي اغتيل في يناير أثناء جنازة محمد جمال ابراهيم الذي قتل في غارة على بلدة الهبارية، في 11 مارس

الأمر الذي جعل النواب المذكورين عرضة لحملة شعواء من "الجماعة الإسلامية"، وخصوصا منيمنة، بلغت حد التخوين والتكفير على منابر بعض المساجد. ووصل الحال بنائب أمين عام "الجماعة الإسلامية"، الشيخ عمر حيمور، إلى وصف نواب "انتفاضة 17 أكتوبر" في خطبة الجمعة بـ"أشباه الرجال"، و"نواب الصدفة"، واتهامهم بأنهم "عملاء السفارات والاستخبارات". وبتذكيره بدعم منيمنة وبعض زملائه النواب لحقوق المثليين. ويكون حيمور بذلك قد أسهم في تأليب المصلين ضدهم، حتى ولو كان ذلك غير مقصود، من خلال العزف على وتر شديد الحساسية. 

وهج السلاح

غداة ذلك، اندلعت حرب بيانات نارية الطابع بين أطراف من "الجماعة"، والنائبين منيمنة والصادق، اللذين تضامن معهما 6 نواب من المنتمين إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" الشعبية، حيث أصدر 5 منهم بيانا موحدا استهجنوا فيه "العراضات العسكرية وتوظيفها السياسي، والذي قد يهدد أمن لبنان كله غدا إذا سمح لهذه الحالة بالتوسع تحت حجة القضية الفلسطينية أو الدفاع عن لبنان من خارج الدولة". وعاد النائب منيمنة وأكد أن موقفه "جاء نتيجة عشرات الدعوات والاتصالات التي تلقيناها لمنع تكرار ما حصل"، بما يعكس حجم الرفض الشعبي للمظاهر الميليشياوية. هذا المناخ المحتقن دفع بـ"الجماعة الإسلامية" إلى السعي لتبريده، من خلال إطلالة إعلامية للشيخ حيمور نفسه، عبر فيها عن رفضه للمظاهر المسلحة، وأكد أن ما حصل كان عفويا وليس بقرار من التنظيم. وحاول حرف الموضوع نحو قضية الشهادة وقيمتها ومقاومة العدو، لكن الارتباك الذي كان واضحاً عليه، دفعه إلى إعادة تكرار اتهاماته نفسها في سياق المقابلة. 

التحولات التي ضربت "الجماعة الإسلامية" في السنوات الأخيرة، جعلتها أقرب إلى محور "المقاومة والممانعة"

ما سبق ليس سوى نتاج التحولات التي ضربت "الجماعة الإسلامية" في السنوات الأخيرة، والتي جعلتها أقرب إلى محور "المقاومة والممانعة"، صاحب الباع الطويل في مثل هذه السلوكيات. ويعود تاريخ آخر ظهور مسلح كبير في العاصمة اللبنانية إلى 7 مايو/أيار 2008، حين اجتاحت ميليشيات "حزب الله" وحلفائه شوارع بيروت لإجبار حكومة فؤاد السنيورة على التراجع عن قرارات اتخذتها بحق شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب، وهو ما حصل. 
هذه الوقائع تثبت أن سلاح "الجماعة الإسلامية" ذو اتجاهين متعارضين: واحد ضد إسرائيل لا أهمية له على الإطلاق في الصراع الدائر سوى كونه "بندقية سنية لبنانية". والثاني داخلي يراد منه فرض معادلات سياسية جديدة بقوة "وهج السلاح"، ويستخدم من قبل فئة معينة ضمن التنظيم لتصفية حسابات خاصة وضيقة. تماما كما فعل ويفعل "حزب الله"، بما يؤكد أن التحذيرات التي سبقت "طوفان الأقصى" من مغبة خلق نسخة سنية مشوهة و"مقلدة" من "حزب الله" لم تنبع من فراغ، بل إنها أمست واقعا تتعاظم آثاره السلبية يوما بعد آخر. 
وإلى جانب استخدام وهج السلاح، فإن عملية الاستنساخ هذه تشمل أيضا الخطاب الاستعلائي والديماغوجي للحزب، وكذلك الديكتاتورية الاجتماعية المتمثلة في المنظومة الفكرية والأخلاقية التي يفرضها قسرا على بيئته. بيد أن الساحة السنية أثبتت على الدوام صعوبة التعايش مع أفكار ومشاريع من هذا النوع، ولا سيما لتيارات الإسلام السياسي، ذلك أن السنة تاريخيا كانوا معارضين للميليشيات والتنظيمات العسكرية على اختلاف أهدافها وتسمياتها.
يأتي كل ذلك على خلفية المشكلة المستعصية في تيارات الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، وخلاصتها أنها لا تحاول فقط احتكار الدين، بل تبيح لنفسها أيضا ممارسة الترهيب الفكري والمادي باسم الدين.

font change

مقالات ذات صلة