أما في العصور الوسطى، فكانت الدراما تعبّر عن ذاتها من خلال العروض الدينية التي تقدّم مقاطع من العهدين القديم والجديد، دون إغفال العروض الهزلية والترفيهية، سواء في الميادين أو القصور. كانت شخصية الممثل البارز تجسّد في صورة "الصعلوك"، إذ لم تكن مباني المسارح قائمة بعد. وبفضل فكاهته وسخريته، وأيضا لأنه كان مشرّدا بلا مأوى ويلجأ إلى حركات مشينة خلال التمثيل، كان يُستهجَن باستمرار ويُشار إليه بازدراء من جانب الكنيسة، وهو ما دحضه الإيطالي داريو فو، الحائز جائزة نوبل، من خلال أعمال مسرحية باللغة الدارجة، فكان يصف نفسه بأنه ليس سوى صعلوك من العصور الوسطى.
داريو فو ممثل ايطالي
في الفترة ما بين منتصف القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر، تطورت العروض الكوميدية التي تتبع هذا الاتجاه، وباتت تكمن خصوصيتها في الأداء حسب الموضوع، إذ لا يقوم الممثلون بأداء كوميديا معدّة مسبقا، ولكنهم يستخدمون حبكات تسمى "كانوفاتشي" (Canovacci). يشار بهذا المصطلح إلى التقاليد المسرحية، ذات الطابع الإيطالي البحت، التي تستند إلى فنّ الارتجال واستخدام الأقنعة، والتي تعتمد على تقديم حبكة قصصية لإحدى المسرحيات أو الأعمال الأدبية دون استخدام نبرات ساخرة أو طريفة، بل تعرض فقط حبكة الأحداث، مثل "مشاهد غرامية" أو "جدال ونزال" بين عاشقين متنافسين. على هذا الأساس، يقوم الممثلون بتأدية أدوارهم بشكل عفوي، وفقا لطلبات الجمهور، في حوارات ونكات ومزاح، ويظهرون كل إبداعهم كراقصين وبهلوانيين ومغنين.
في هذا النمط المسرحي، يقوم كل قناع بأداء دور أساسي: على سبيل المثل، يجسد بانتالوني شخصية "العجوز المتبرّم الضجر"، أما أرليكّينو فيقدم دور "الخادم الذكي"، وتؤدّي كولومبينا شخصية "الخادمة النبيهة المرحة". أحد التطورات التي ظهرت مع "كوميديا الفن"، تقديم نساء في أدوار مسرحية. كانت النساء غالبا جميلات وأنيقات، يظهرن في ثياب فاخرة موشاة بالحلى والزخارف. وقد أثار هذا استهجانَ الكنيسة لأنَّ أداء النساء هذا يغيّر، من وجهة نظرها، صورة المرأة النقية الطاهرة، التي تُعْتَبَر ركيزة من ركائزِ عقيدة المسيحية حول الأسرة والمجتمع.
وكوميديا الفن هي ظاهرة إيطالية نموذجية، ولكن سرعان ما صدّرها الممثلون الإيطاليون إلى بلدان مجاورة مثل فرنسا وألمانيا، حيث أحدثت تأثيرا على كتاب الدراما كشكسبير وموليير، ثم على المسرحي كارلو غولدوني بشكلٍ خاص. هذا الأخير، من خلال جهوده في إصلاح المسرح، سيلغي تدريجيا استخدام الأقنعة وسيلغي فكرة الارتجال لصالح استخدام نص مكتوب مسبقا.
المسرح الحديث
في عصر النهضة، الذي شهد تحولا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، أدخلت أبعاد جديدة في المجال المسرحي. بجانب المسرحيات التي تتسم بالتعقيد والثقافة، بدأ المسرح الشعبي الذي كان يسلِّي الناس كثيرا دون وجود نص مكتوب، يظهر تطورا. نحو القرن السابع عشر، اختفت فترة "كوميديا الفن"، حتى أعادها إلى الواجهة المؤلف المسرحي والكاتب ومؤلف الأغاني، المحامي الإيطالي كارلو غولدوني، بهدف حفظ شخصيات بارزة، مثل أرليكّينو وكولومبينا وبالانزون.
في القرن السابع عشر، شهدت أوروبا تطورات بارزة، تمثلت في ظهور فلسفة متأصلة في التراث الكلاسيكي، وبروز كتّاب مسرحيين مهمين، مثل بيار كورناي وجان راسين. وفلسفة مرتبطة بالتعمق في المواضيع التاريخية، مثل تلك التي قدمها كريستوفر مارلو ووليام شكسبير، أول من عَوْلَم المسرح بشخوصه التي تنتمي إلى أمم وأعراق مختلفة. كان المسرح النهضوي أيضا دراما رعوية، حيث كانت عناصره تتعلق بالهروب من الحقيقة، والتعلق بأوهام العالم المثالي.
كان المسرح في بداية القرن التاسع عشر مميزا بشغفه بالعروض الباذخة والضخمة، إذ اتسم بجمال إكسسواراته وأزيائه وديكوراته المصممة بدقة. ونحو منتصف القرن، ظهر على خشبة المسرح الأوروبية ثلاثة كتّاب مسرحيين كبار: النروجي هنريك إبسن، والروسي أنطون تشيخوف، والسويدي أوغست ستريندبرغ، الذين مهّدوا لطرق جديدة في المسرح تُعرَف باسم الدراما الواقعية التي تحلّل الواقع بدقة في جوانبه المختلفة، بدءا من تلك التصادمية وصولا إلى العنف المؤثر.
وتتمثّل السمة الرئيسة لبدايات القرن العشرين في ظهور تجارب جديدة في المجال المسرحي، تستجلي عمق المواضيع التي قد تكشف عن العلاقة بين الفرد وتأثيراته التي يفرضها المجتمع.. كانت أعمال الكاتب والشاعر الإيطالي، الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1934، لويجي بيرانديلو، هي التي أبرزت هذا الجانب بشكل كبير.