تشهد منطقة الشرق الأوسط تصعيدا غير مسبوق في المواجهة بين إيران وإسرائيل، تجاوزت فيه التوترات الحدود التقليدية للصراع، وانتقلت من العمليات غير المباشرة والحرب بالوكالة إلى مواجهة علنية ومباشرة. فقد نفذت إسرائيل عمليات عسكرية منسقة استهدفت أشخاصا ومنشآت إيرانية، مستخدمة مزيجا من الضربات الجوية والقدرات السيبرانية والاستخباراتية، في إطار ما تقول إنه رد وقائي على تهديدات تتعلق بالأمن الإقليمي.
في المقابل، ردت إيران بإطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة في اتجاه أهداف إسرائيلية، معلنة أن ما يحدث هو انتهاك مباشر لسيادتها. وبهذا، دخل الصراع بين الطرفين مرحلة جديدة لم تعد تقتصر على المناوشات المحدودة أو التهديدات المتبادلة، بل تحولت إلى مواجهة مفتوحة تحمل تبعات تتجاوز حدود البلدين، وتمس بنية الأمن الإقليمي ككل.
ترافق هذا التصعيد العسكري مع تصاعد في الحرب السيبرانية، وتأثيرات اقتصادية محتملة، إضافة إلى تحذيرات دولية من أن يؤدي تطور المواجهة إلى زعزعة أوسع للاستقرار في المنطقة. ومع غياب مؤشرات واضحة على التهدئة، يظل مستقبل هذا الصراع مفتوحا على احتمالات متعددة، تتراوح بين احتوائه ديبلوماسيا أو تحوله إلى صدام إقليمي أشمل.
بدأت الحرب السيبرانية الإيرانية - الإسرائيلية قبل أن تُسمع أول طلقة في الميدان. ففي عام 2010، وقع حدث مفصلي غيّر وجه الصراعات الدولية، حين ضرب فيروس "ستاكسنت" منشأة نطنز النووية الإيرانية، مخلِّفا أضرارا بالغة طالت ما يقرب من ألف جهاز طرد مركزي كانت تستخدم في تخصيب اليورانيوم.
ولم يكن هذا الهجوم مجرد عملية تخريب إلكتروني عادية، بل عُدّ على نطاق واسع أول سلاح سيبراني فعال في التاريخ الحديث، إذ استخدم البرمجيات كسلاح ذي تأثير ملموس على البنية التحتية المادية لدولة ذات سيادة، دون أن تُطلَق فيه رصاصة واحدة.
ويعتقد أن هذا الفيروس المتطور كان نتاج تعاون وثيق بين الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية، ضمن عملية سرية حملت اسم "الألعاب الأولمبية"وقد مثّل "ستاكسنت" لحظة ميلاد ما يمكن وصفه بـ"العقيدة السيبرانية الإسرائيلية" القائمة على الهجوم الاستباقي، واستخدام التكنولوجيا لا لردع الخصم فحسب، بل لإبطاء تطوره العلمي والنووي عبر أدوات غير تقليدية.
مجموعات قرصنة
منذ ذلك الحين، لم تتوقف الحرب السيبرانية بين الطرفين. صحيح أنها كانت لا تُرى بالعين، ولا تُسمع لها أصوات كالرصاص والمدافع، لكنها حرب يومية صامتة تجري خلف شاشات الحواسيب وتحت جدران المراكز الحكومية والمفاعلات والمنشآت الحيوية. تحولت العلاقة بين طهران وتل أبيب إلى ما يشبه حرب ظل رقمية مستمرة، يتم فيها استهداف كل ما يمكن تعطيله، من البنى التحتية الحيوية، إلى الأنظمة المالية، مرورا بالمؤسسات الحكومية وشبكات الطاقة والنقل والمياه.
تعد إيران في طليعة الدول التي توظف مجموعات قرصنة متقدمة (APT) لتنفيذ عمليات تجسس سيبراني واسعة. أبرز هذه المجموعات: APT33, APT34, APT39, وAPT42، تختلف في أساليبها وأهدافها لكنها كلها تعمل خدمة للمصالح الإيرانية. تستهدف هذه الفرق القطاعات الاستراتيجية مثل الاتصالات والطاقة والطيران والمؤسسات الحكومية، مع تركيز خاص على ملاحقة المعارضين والباحثين والصحافيين داخل إيران وخارجها، ولا سيما في الجاليات الإيرانية والدوائر الأكاديمية الغربية.
وفي هذا المضمار، برزت إيران كواحدة من أكثر الدول استثمارا في تطوير قدراتها السيبرانية، ليس دفاعا فقط، بل كأداة هجومية ضمن استراتيجيتها للرد غير المتماثل. وقد أنشأت طهران عددا من المجموعات السيبرانية المرتبطة بالحرس الثوري، تُعرف باسم مجموعات "التهديد المستمر المتقدم" أو APTs (Advanced Persistent Threats)، وهي فرق قرصنة تتميز بالمهارة العالية والقدرة على التسلل والتخفي والعمل لفترات طويلة داخل شبكات الخصم دون أن تُكشف.