روسيا وإيران... شراكة استراتيجية رغم المنافسة

توافق بين طهران وموسكو حول المصالح السياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يسيران معا بعد اجتماعهما في الكرملين في موسكو

روسيا وإيران... شراكة استراتيجية رغم المنافسة

يلفت الهجوم الإرهابي الأخير في موسكو من جديد إلى ضرورة إعادة التركيز على فهم العلاقات المعقدة بين روسيا وإيران. لقد اتهمت الولايات المتحدة تنظيم "داعش" بتنفيذ الهجوم، وهو ما أكده "داعش" نفسه عبر بيان على قناة "أعماق" الإخبارية التابعة له. بيد أن البعض يشكك، مع ذلك، في مصداقية تورط التنظيم، بالنظر إلى أن سيف العدل، زعيم تنظيم "القاعدة"، يقيم في إيران، تحت حماية "الحرس الثوري الإيراني"، منذ أن انتقل إليها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعد مغادرته أفغانستان.

ثمة شكوك متعلقة بدوافع "داعش" أو "القاعدة" لمهاجمة روسيا، وهي تنبع من الجهود المشتركة التي تتعاون فيها روسيا وإيران في سوريا وأوكرانيا. ولكن وجود زعيم تنظيم "القاعدة" في إيران لا يعني تلقائيا وجود تحالف كامل بين إيران و"القاعدة"، تماما كما لا يعني التعاون بين روسيا وإيران شراكة مباشرة، حيث تهدف روسيا إلى الحفاظ على هيمنتها في علاقتها مع إيران، إذ ترى أن الأخيرة ليست في كامل قوتها.

ما كانت العلاقة بين روسيا وإيران لتحظى بما يوليه لها الرأي العام الآن لولا التدخل العسكري الروسي في الصراع السوري. فقد كان للبلدين علاقة ضاربة الجذور مع نظام الأسدين في سوريا، مما قدم لهما مصالح متقاطعة. ومع ذلك لم ترفع روسيا مستوى مشاركتها في الصراع السوري حتى سبتمبر/أيلول 2015، عندما فقد نظام الأسد السيطرة على 70 في المئة من الأراضي السورية وتخلى عنها للجماعات المتمردة السورية، بينما كانت إيران أول جهة دولية تهب لمساعدة نظام الأسد منذ 2011، حيث أرسلت في البداية مستشارين عسكريين من "الحرس الثوري الإيراني" واستدعت "حزب الله" ليدعم النظام في حملته العنيفة على المتظاهرين السلميين.

ثمة شكوك متعلقة بدوافع "داعش" أو "القاعدة" لمهاجمة روسيا

وسرعان ما تطور الدعم الإيراني لنظام الأسد إلى وجود عسكري واسع النطاق داخل سوريا، عندما انضمت جماعات مسلحة أخرى مدعومة من إيران إلى ميليشيا "حزب الله"، من بينها "لواء فاطميون" الأفغاني في القتال عام 2014، و"لواء زينبيون" الباكستاني أوائل عام 2015. وعلى الرغم من كل هذا الانتشار الإيراني، كانت الجماعات المتمردة السورية على وشك التغلب على نظام الأسد وحلفائه، فجاء التدخل الروسي في سوريا شهر سبتمبر 2015 ليحول ميزان القوى على الأرض بشكل سريع ومفاجئ، مما أعطى نظام الأسد وإيران حقنة إنعاش كبيرة.

ويختلف التدخل الروسي في سوريا عن التدخل الإيراني في كونه يركز بشكل أكبر على استخدام القوات الجوية الروسية بدلا من القوات البرية. وأثبتت هذه الشراكة فائدتها، حيث كانت روسيا تؤمن الغطاء  الجوي، فيما تقوم إيران ووكلاؤها بتوسيع أنشطتهم البرية ووجودهم داخل سوريا.

ومع مرور الوقت، بدأ نظام الأسد بمكافأة كل من إيران وروسيا بتقديم عقود اقتصادية وبيع الأراضي لهما. وبينما كانت إيران تشتري الأراضي السورية كانت روسيا توقع عقود الفوسفات. وفي وقت لاحق، عززت إيران وجودها على طول الحدود اللبنانية من خلال "حزب الله"، بينما عززت روسيا وجودها في القواعد السورية وبخاصة على البحر الأبيض المتوسط. وبدت العلاقة بين إيران وروسيا ظاهريا وكأنها تقسيم مناسب للعمل يأتي مع مجموعة من الفوائد المرضية للطرفين.

الشراكة والمنافسة

إن شراكة روسيا وإيران في سوريا لا تخفف بحال من الأحوال من المنافسة القوية بينهما، إذ تحاول روسيا أن تكون الطرف المهيمن في المعادلة. من جانب آخر، ما كاد يمر وقت طويل قصير من بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا، حتى استأنفت إسرائيل في مهاجمة المواقع العسكرية الإيرانية داخل سوريا. مثل تلك الهجمات كثيرا ما وقعت قبل التدخل الروسي، ولم يحُلْ دخول روسيا إلى الساحة دون استمرارها، بل إن  روسيا كانت تتبادل المعلومات الاستخبارية حول سوريا مع إسرائيل، ما عزز المعرفة الإسرائيلية الحالية في المنطقة. وتدور بعض هذه المعلومات الاستخبارية المشتركة حول الوجود الإيراني داخل سوريا.

وثمة مستوى آخر للتنافس بين البلدين، وهو المستوى الاقتصادي، فقد كان بين إيران وروسيا جملة من الخلافات حول العقود الاقتصادية مع النظام السوري. وفي عدد من المناسبات، حوّل نظام الأسد عقودا تجارية كان قد وعد بها إيران في الأصل إلى الشركات الروسية. وفي عام 2018، حظيت روسيا، من دون إيران، على عقود حصرية لإنتاج النفط والغاز في سوريا.

خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في روسيا كان المراقبون الدوليون من كل من سوريا وإيران حاضرين للتحقق من مصداقية العملية

لكن المنافسة العسكرية والاقتصادية بين روسيا وإيران ليست مطلقة، فلدى البلدين الكثير من المصالح المشتركة. وكلاهما ينظر إلى الغرب باعتباره خصما سياسيا، ويسعى لأن يكون له نفوذ استراتيجي حول البحر الأبيض المتوسط. وهما بالتأكيد يساعد بعضهما بعضا في التهرب من العقوبات الدولية. وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، استفاد جيشها من الطائرات الإيرانية دون طيار التي زودتها بها إيران مباشرة. وخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في روسيا، والتي ادعى فلاديمير بوتين فوزه فيها بنسبة 87.7 في المئة من الأصوات، كان المراقبون الدوليون من كل من سوريا وإيران حاضرين للتحقق من مصداقية العملية.

منذ أن بدأت الحرب في غزة، بدت روسيا وإيران وكأنهما تتخذان موقفا أخلاقيا متعاليا في مواجهة الولايات المتحدة. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألقى بوتين باللوم في حرب غزة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وقد ردد بيانه الأول منذ بدء الحرب روايته المتعلقة بأوكرانيا، واتهم الولايات المتحدة بـ"احتكار عملية السلام" دون السعي إلى "تسويات مقبولة لكلا الجانبين". لقد استخدمت روسيا الحرب لتأكيد موقفها ضد الأحادية القطبية الأميركية، ورأت في الحرب دليلا على أن موقف روسيا تجاه النظام الدولي القائم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة هو الصحيح.

أ.ف.ب
جنود من قافلة عسكرية روسية ونظراؤهم الأميركيون يتبادلون التحية أثناء تقاطع طرق دورياتهم في حقل نفطي بالقرب من بلدة القحطانية في محافظة الحسكة السورية

من ناحية أخرى، وجدت إيران متورطة في الحرب بسبب دعمها لـ"حماس" وتورط وكلائها في الشرق الأوسط. وتتجنب إيران بشكل فعال التصعيد داخل أراضيها. وفي العام الماضي، شاركت إيران في قمة مشتركة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في الرياض، والتي أصدرت بيانا هدف إلى إنهاء حرب غزة.

وفي الوقت نفسه، تدعم إيران الحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان والجماعات المسلحة في سوريا والعراق، بينما تستغل هذه الجماعات ذريعة حرب غزة لتبرير الهجمات على القواعد الأميركية. وردا على ذلك، تقوم إسرائيل والدول الغربية بشن هجوم مضاد على هذه الجماعات المدعومة من إيران.

في الوقت نفسه، تواصل روسيا تقديم المعلومات الاستخبارية لإسرائيل فيما يتعلق بسوريا، بينما تستمر إسرائيل في استهداف القوات الإيرانية أو التابعة لها داخل سوريا. وعلى الرغم من أن هذه الهجمات كانت موجودة قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن الاختيار الأخير للأهداف يشير إلى وجود صلة بسياق الحرب الدائرة، ويتعرض "حزب الله"، على وجه الخصوص، لحملة إسرائيلية ممنهجة يتم فيها قتل ضباط كبار ومهاجمة مواقع رئيسة داخل سوريا.

الحرب في غزة تكشف ضعف طهران المتزايد

ومنذ منتصف مارس/آذار، كثفت إسرائيل قصفها للبنية التحتية لـ"حزب الله" في القلمون بالقرب من الحدود اللبنانية. وفي الوقت نفسه، أقامت القوات الروسية نقاط مراقبة مشتركة مع الجيش السوري بالقرب من مرتفعات الجولان، التي تقع عادة تحت سيطرة "حزب الله".

وكانت موسكو تأمل أن تؤدي حرب غزة إلى تورط غربي يخفف بعض الضغوط عليها في أوكرانيا، لكن ذلك لم يحدث. وفي حين أن الوجود الروسي في سوريا كان منخفض التكلفة منذ البداية، تأخذ حرب روسيا في أوكرانيا مركز الصدارة بين أولويات لموسكو، التي لن ترغب في زيادة استثماراتها في سوريا.

وأخيرا، إيران نفسها لا تشارك بشكل مباشر في قتال إسرائيل، ولكن الحرب في غزة تكشف عن ضعف طهران المتزايد، كما رأينا في الاغتيالات الإسرائيلية لضباط "حزب الله" في لبنان وسوريا.

وهذا إنما يصب في مصلحة روسيا، فضعف إيران المتزايد في سوريا يسمح لروسيا بإعادة الانتشار والتقدم في البلاد دون الحاجة إلى استثمارات أكبر. ولعل الحالة المثالية بالنسبة لموسكو، إذن، هي استمرار نفوذ إيران في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا، شريطة أن تكون ضعيفة.

font change

مقالات ذات صلة