عن خفوت وتوهج الحراك السياسي في إسرائيل

تحولت الاحتجاجات المناوئة لحكومة نتنياهو إلى نشاط سياسي أسبوعي بعد فترة من السكون في أعقاب هجمات 7 أكتوبر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مظاهرة مناهضة لنتنياهو في القدس في 4 نوفمبر

عن خفوت وتوهج الحراك السياسي في إسرائيل

بعد مرور نصف عام على صراع غير مسبوق في غزة، عادت السياسة الداخلية الإسرائيلية إلى الظهور من جديد، بعد أن دفع اندلاع الصراع في غزة كافة الأطراف لتجاوز الانقسامات الأخيرة وتشكيل إجماع وطني حول أهداف محاربة "حماس" واستعادة أكثر من مائتي رهينة تم أسرهم من المجتمعات المدمرة القريبة من حدود غزة.

وحمل شعار الحرب "متحدون ننتصر" إشارة ضمنية تدل على انقسامات الأمس العميقة. وأكدت وسائل الإعلام والمعلقون الإسرائيليون أن إسرائيل موحدة. أما برنامج "إيرتس نهيديريت"، وهو النسخة المحلية الإسرائيلية من البرنامج الأميركي الساخر "ليلة السبت على الهواء"Saturday Night Live) /SNL) فعرض مشهدا هزليا أظهر إسرائيليين من مختلف مكونات الطيف السياسي المنقسم وهم يستقلون حافلة للانضمام إلى الجيش كجنود احتياط، وكان بينهم أولئك الذين أطلق عليهم البعض لقب "الخونة" أو "الفوضويين" أو "أنصار بيبي" أو "الغادرين" أو "العنصريين" (أسماء أليفة يستخدمها الأعداء السياسيون) وجميعهم ينضمون إلى المجهود الحربي.

غير أن السياسة، بعد مضي ستة أشهر على الحرب، أخذت تعود إلى البلاد على نحو صاخب. وتبددت الوحدة المزعومة التي أعقبت مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول. وقررت بعض عائلات الرهائن المحتجزين في غزة وبعد أن ضاقت ذرعا، قررت الانضمام إلى الحركة المتنامية التي تطالب باستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

ظلت حركتا الاحتجاج منفصلتين حتى الآن (إحداهما تطالب بعقد اتفاق لإطلاق سراح الرهائن والأخرى تطالب باستقالة الحكومة الحالية)، على الرغم من أن المسافة الفاصلة بينهما ليست سوى بضعة شوارع في تل أبيب. وكانت أسر الرهائن قد أعربت عن خشيتها من أن يؤدي تسييس القضية إلى نتائج عكسية. غير أن الحال تغير، فقد قال الكثير من هذه الأسر يوم السبت إنهم سيحتجون الآن أيضا على الحكومة نفسها، حيث يرون أن نتنياهو هو العقبة الرئيسة أمام التوصل إلى اتفاق.

ليست الاحتجاجات هي العلامة الوحيدة على عودة السياسة. فالحكومة منقسمة أيضا حول إعفاء اليهود الأرثوذكس من التجنيد

وعزم العائلات على فعل هذا يكسر أحد المحرمات الكبرى المتعلقة بالاحتجاجات الجماهيرية خلال الحرب. ومع أن غضب الإسرائيليين من الحكومة ومن رئيس الوزراء كان يغلي منذ اليوم الأول، بسبب دفع نتنياهو إصلاحاته القضائية قدما إلى الأمام، غير أنهم كانوا مترددين في إعادة الاضطرابات إلى المستوى الذي وصلت إليه قبل الحرب. ومع ذلك، وبعد ساعات من إعلان أسر الرهائن، جرت أكبر مظاهرة احتجاج منذ بدء الحرب أمام الكنيست، البرلمان الإسرائيلي في القدس.

وليست الاحتجاجات هي العلامة الوحيدة على عودة السياسة. فالحكومة الإسرائيلية منقسمة أيضا حول القانون الذي يهدف إلى الإلغاء الجزئي لما يحظى به اليهود الأرثوذكس المتشددين من إعفاء من التجنيد. وقضية الإعفاء من الخدمة العسكرية التي يتمتع بها مجتمع اليهود الأرثوذكس المتشدد المتنامي في إسرائيل ما فتئت تثير الخلاف حتى قبل الحرب بزمن طويل. لكن الحرب ألقت مزيدا من الضوء على عدم المساواة القائمة بين اليهود العلمانيين والتقليديين، الذين يخدمون في الجيش، والمجتمع الأرثوذكسي المتشدد والمتطرف، الذي يُعفى شبابه من الخدمة العسكرية.

رويترز
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث إلى الجنود خلال زيارة إلى شمال قطاع غزة

وهدد بيني غانتس، وهو المعارض السابق لبنيامين نتنياهو الذي انضم إلى حكومة الطوارئ العام الماضي، بالاستقالة من الحكومة، وهي المرة الأولى التي يرسم فيها غانتس خطا أحمر، ويقول علنا إنه سيترك الحكومة بسبب قضية محددة. والخط الأحمر الذي رسمه غانتس مرتبط بمسألة الإعفاء الديني من الخدمة العسكرية، لكن من الواضح أنه مستمد أيضا من أشهر من الإحباط غير المعلن. ولكي نكون واضحين فإن الشراكة المحرجة بين غانتس وبيبي لم تسر بسلاسة. فقد اختلف الاثنان حول عدد من القضايا الأخرى، منها رفض نتنياهو أن يقدم أي خطة واقعية لـ"اليوم التالي في غزة"، أو في ما يخص أولويات الحرب، أو حول شهية نتنياهو الجديدة لإثارة صدام علني مع الرئيس بايدن.

  وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه غانتس تهديده العلني، قرر حليفه جدعون ساعر أن يقفز من حكومة الطوارئ ومغادرتها. وزعم ساعر أن حكومة الحرب (وهي أعلى هيئة تنفيذية في إسرائيل خلال الحرب) تفتقر إلى أي صوت ناقد. وينطوي كلامه هذا على انتقاد ضمني لغانتس، الذي دخل مجلس الوزراء ليكون صوت الأغلبية المتزايدة التي تعارض نتنياهو.

الطريق إلى إقالة الحكومة الحالية يتطلب ممارسة مزيد من الضغط الشعبي على التحالف

سيرى البعض أن السياسة لم تختف قط اختفاء حقيقيا حتى بعد 7 أكتوبر، وهم على حق في أكثر من منحى. فبعد أيام قليلة من الحرب، ووسط توقعات عامة بتشكيل حكومة وحدة وطنية في القريب العاجل، عمد نتنياهو إلى المناورة كي يتأكد من أن ائتلافه سيظل على حاله في الأشهر المقبلة.

فانتظر حتى يتوصل إلى الاتفاق الأمثل لتشكيل حكومة طوارئ. ورفض عرضا قدمه خصمه الرئيس يائير لابيد بالتخلي عن شركائه اليمينيين المتطرفين وتشكيل ائتلاف من دونهم. فما كان مقلقا لنتنياهو أن لابيد سيهجر الائتلاف في اللحظة التي تنتهي فيها الحرب، وسيفرض بالتالي إجراء الانتخابات. ومجرد احتمال أن يغادر لابيد كان سيمنحه نفوذا كبيرا على قرارات مجلس الوزراء، على قدم المساواة مع حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف والمتدينين، الذين هددوا على نحو متكرر بمغادرة الحكومة إذا كسرت خطوطهم الحمراء.

غير أن نتنياهو اختار غانتس بدلا من لابيد شريكا رئيسا له من المعارضة لسبب وحيد حاسم: عرض غانتس دخول الحكومة دون تغيير الائتلاف الحاكم. وفي ظل حالة الطوارئ، فما عرضه غانتس على نتنياهو هو صفقة لا يستطيع نتنياهو رفضها. وأدى هذا إلى حدوث انفصال بين حكومة الحرب المشكّلة، التي تقتصر فاعليتها على نتنياهو وغانتس ووزير الدفاع غالانت فقط كأعضاء مصوتين، وبين الائتلاف الحاكم الذي لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الأحزاب الدينية وعلى الثنائي اليميني المتطرف: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ومع أن ذلك همّش سموتريتش وبن غفير (وأثار استياءهما كثيرا)، وأجبرهما على الصراخ بصوت أعلى من ذي قبل، فإنهما لا يزالان يشكلان جزءا هاما لا يتجزأ من الائتلاف والحكومة، كما يعني أيضا أن مشاركة غانتس ليست حاسمة لبقاء هذه الحكومة.

وهذا يضع غانتس في موقف صعب، وهو نتيجة مباشرة لقراره بأن يشارك في حكومة الطوارئ دون شروط. ويدرك غانتس أن مغادرته للحكومة سيكون لها بعض العواقب المباشرة، لكنها لن تنهي حكومة نتنياهو. وسيجبر نتنياهو عندئذ على الاعتماد بشكل أكبر على شركائه من اليمين المتطرف ومن المتدينين، إنما لن يؤدي تلقائيا إلى إجراء انتخابات. 

إن الطريق إلى إقالة الحكومة الحالية أطول وأكثر خطورة، وسيتطلب ممارسة مزيد من الضغط الشعبي على التحالف، وعلى الأخص ضغط الاحتجاجات الشعبية في الشوارع. فانفجار الاحتجاجات على إقالة وزير الدفاع غالانت في العام الماضي أجبرت نتنياهو على التراجع عن موقفه، لأسباب منها أن حلفاءه أقلقهم كم بات نتنياهو عامل انقسام.

وإن كان من غير الواضح أن يكون غانتس مستعدا فعلا للمضي في هذا الطريق الغامض، فمن المؤكد أنه سيكون أكبر الرابحين من الانتخابات، لو أجريت اليوم. إذ تتوقع استطلاعات الرأي أن يصبح حزب غانتس الحزب الأول من حيث عدد المقاعد في الكنيست، متجاوزا إلى حد كبير حزب الليكود المنهار (حزب نتنياهو). ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن غانتس تمكن من جذب الناخبين المعتدلين ومؤيدي نتنياهو سابقا من اليمين الذين أصيبوا بخيبة من أداء نتنياهو.

الاختيار بين العودة إلى السياسة أو الوضع الراهن الذي يفيد منه نتنياهو وحلفاؤه، هو ما تواجهه إسرائيل بأسرها

بيدَ أن غانتس يدرك أيضا أن الطريق إلى الانتخابات طويل وأن ما اكتسبه حديثا من شعبية يمكن أن تختفي بالسرعة التي ظهرت بها. فناخبوه المحتملون ليسوا من مؤيدي حزبه من قبل وليسوا ممن يتبنون برنامجه ورؤيته. وما يجذبهم في الغالب هو موقفه المعتدل في الطيف السياسي. وإذا أُعلن عن الانتخابات، توفرت فرصة معتبرة أيضا أمام غيره من المنافسين كي يحاولوا ملء هذا الفراغ، وأن يقدموا أنفسهم كبدائل عن نتنياهو من يمين الوسط. وقد لا يكون أداء حزبه جيدا في ظل هذه المنافسة الشديدة.

ولكن لعل الأهم من كل ذلك هو أن رحيل غانتس قد يترك البلاد في حال أكثر انقساما. وسيتطلب الطريق إلى الانتخابات مزيدا من المظاهرات، واتخاذ موقف أشد وضوحا وعلانية ضد نتنياهو. 

قد يعتقد البعض أن هذا الطريق هو ما تسلكه إسرائيل من قبل، كما أوضحت ذلك المظاهرة الحاشدة الأخيرة في القدس. لكن غانتس- وهو رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق- قد يكون مترددا في تأجيج هذه الانقسامات التي عاودت ظهورها، إما لخوفه من أن يلقى باللائمة عليه، أو بسبب قلقه الحقيقي على إسرائيل، أو للسببين معا.

إن هذا الاختيار بين العودة الكاملة إلى السياسة أو الوضع الراهن المحرج الذي يفيد منه نتنياهو وحلفاؤه، هو الخيار الذي تواجهه إسرائيل بأسرها. قد يتأخر غانتس في حل المشكلة، لكن عودة السياسة في إسرائيل أمر لا مفر منه. وإذا كان نتنياهو قد استغرق بضعة أيام فقط بعد 7 أكتوبر ليدركه ويتصرف بناء على هذا الإدراك. فالسؤال هو كم من الوقت سيستغرق غانتس ليصل إلى النتيجة نفسها؟

font change

مقالات ذات صلة