حرب غزة تؤكد التماهي الأميركي- الإسرائيلي... وتختبره

لقد تعلمت أميركا بخصوص فلسطين وإسرائيل خلال ستة أشهر ما لم تستطع تعلمه على مدى سبعة عقود

رويترز
رويترز
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستقبل الرئيس الأميركي جو بايدن لدى وصوله إلى إسرائيل في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023

حرب غزة تؤكد التماهي الأميركي- الإسرائيلي... وتختبره

عَلَّمت حربُ غزة أميركا الكثير مما لم تتوقع أن تكتشفه بخصوص سياستها نحو إسرائيل وفلسطين. بعد شن "حماس" عمليتها الجريئة "طوفان الأقصى" بضحاياها الكثيرين من الإسرائيليين مدنيين وعسكريين. كان رد الفعل الأميركي المباشر، رسميا وشعبيا، هو التضامن الكامل مع إسرائيل. فبعد يومين من هجوم "حماس" وقف الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض، ليشرح للأميركيين معنى عملية "حماس" وموقف الولايات المتحدة منها: "في هذه اللحظة، علينا أن نكون واضحين تماما: نقف مع إسرائيل. وسنتأكد من أن لديها ما تحتاجه لتعتني بمواطنيها ولتدافع عن نفسها وترد على هذا الهجوم. ليس هناك تبرير للإرهاب، ليس هناك عذر له".

كان لافتا أن رئيس الولايات المتحدة يخاطب الشعب الأميركي بخصوص عملية مسلحة خارج أميركا والأخيرة ليست طرفا فيها وتناولَ هذا الأمر كأنه شأن داخلي ومهم للولايات المتحدة. لم يكن هذا إلا نتيجة منطقية للنظر أميركيا لـ"طوفان الأقصى" بوصفه النسخة الإسرائيلية للحادي عشر من سبتمبر/أيلول الأميركي: حركة إرهابية تستهدف أناسا عاديين، غالبيتهم من المدنيين وتوقع خسائر هائلة فيهم وسط عجز مؤقت يصيب الدولة إزاء هذا الاستهداف. اعتُبر نجاح "حماس" في السابع من أكتوبر انتصارا خاطفا ومُروعا، لكنه، ليس إلا يوما واحدا وشاذا من أيام كثيرة، ويجب أن تتبعه خسارة دائمة للطرف البادئ، حتى إن تطلب إيقاع هذه الخسارة به الكثير من الزمن والجهد وإعادة ترتيب الأشياء.

هكذا حَمَلت زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل، بعد نحو عشرة أيام من وقوع الهجوم، روحَ الحادي عشر من سبتمبر، باستثنائية الرد الإسرائيلي الذي تبعه حجما وشراسة والإيمان الأميركي بشرعية هذا الرد، وضرورة دعمه حتى مع القلق من العواقب المحتملة لسقوط ضحايا مدنيين. كانت هذه باختصار فحوى رسالة بايدن التي ألقاها أثناء هذه الزيارة، مخاطبا الإسرائيليين: "ينبغي إحقاق العدل ومعاقبة المعتدي. لكني أحذر: في الوقت الذي تشعرون فيه بالغضب، عليكم أن لا تسمحوا له أن يهيمن عليكم. بعد الحادي عشر من سبتمبر، شعرنا بالغضب الشديد في الولايات المتحدة، وفيما كنا نسعى لإحقاق العدل بمعاقبة المعتدي ونجحنا في هذا، ارتكبنا أخطاء أيضا".

هذا التحذير من ارتكاب الأخطاء الذي بدا حينها هامشا ضائعا في كلام بايدن الكثير عن التعاطف مع إسرائيل، ودعم أميركا لها، كبرَ سريعا حتى أصبح الهامش يوازي المتن، وأحيانا يزيد عليه. بدأ التحول الأميركي في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من بدء الرد الإسرائيلي وتعلق بالإحراج المحلي والدولي الذي واجهته أميركا بوصفها الراعية الأولى والتقليدية لإسرائيل.

أثارَ مثلاً القصف الجوي في مخيم جباليا نهاية أكتوبر/تشرين الأول انزعاجا شخصيا شديدا لدى بايدن. استهدف هذا القصف الإسرائيلي، الذي نُفذ بقنابل أميركية ضخمة زعيما عسكريا في "حماس" تتهمه إسرائيل بالمشاركة في التخطيط لهجوم السابع من أكتوبر. سقط في هذا القصف أيضا عشرات المدنيين الفلسطينيين، فيما دُفن عدد أكبر منهم تحت الأرض. أزعج الإدارة الأميركية كثيرا غياب التناظر هذا بين القيمة العسكرية للهدف والخسائر المدنية المحتملة ليتحول هذا الانزعاج من تسريبات صحافية إلى خطاب علني ناقد. جاء الانتقاد الأول في 12 ديسمبر/كانون الأول، على لسان بايدن نفسه الذي أشار إلى أن الإسرائيليين "بدأوا يخسرون الدعم [الأميركي والأوروبي] بسبب القصف العشوائي. لقد قال لي [رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين] نتنياهو- وأنا صريح معكم تماما في هذا: حسنا، ألم تقصفوا ألمانيا قصفا عشوائيا وشاملا؟ ألم تستخدموا القنبلة الذرية؟ مات في هذا الكثير من المدنيين. رددتُ عليه: نعم، وهذا هو السبب وراء إنشاء مؤسسات دولية كثيرة بعد الحرب العالمية الثانية لضمان أن لا يحدث هذا مرة أخرى. ولم يحدث هذا مرة أخرى. لا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبناها بعد الحادي عشر من سبتمبر".

أزعج الإدارة الأميركية كثيرا غياب التناظر بين القيمة العسكرية للهدف والخسائر المدنية المحتملة، وتحول هذا الانزعاج من تسريبات صحافية إلى انتقاد علني

يعكس هذا الانتقاد العلني والنادر لإسرائيل استراتيجية جديدة طَوَرتها الإدارة للتعاطي مع الملف الفلسطيني- الإسرائيلي، وهي: تقويض  نتنياهو كحليف لأميركا، يضر بالمصالح الإسرائيلية ويضعف موقف أميركا الداعم لإسرائيل في المحافل الدولية وأمام الرأي العام العالمي الآخذ غضبه في التصاعد ضد السلوك الإسرائيلي في غزة.

وبوصفه زعيما لليمين الإسرائيلي المتطرف الذي ساهم في صناعة مأزق غزة عبر سد الأفق السياسي لحل مستدام وعقلاني مع الفلسطينيين، أصبح نتنياهو واليمين الذي يتزعمه، هدفا لاستراتيجية التقويض الحذر هذه. استهدفت هذه الاستراتيجية إظهار الاثنين، على نحو صحيح، كعائق أساسي أمام سلام مستقبلي يمكن تحقيقه مع الفلسطينيين بعد تفكيك اليمين الفلسطيني متمثلا في "حماس".  
لذلك جاءت بعض قرارات إدارة بايدن ذات المعنى الرمزي التي تكمن أهميتها في الرسائل التي تبعثها للجمهور الإسرائيلي بخصوص اليمين المتطرف فيه، كإصدار الإدارة قرارا بمنع السفر إلى أميركا بحق بعض زعماء المتطرفين في حركة بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، إلى جانب إدانة الإدارة لعنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. 

في هذا السياق أيضا جاء نقد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور تشاك شومر، حليف إسرائيل التاريخي والقوي ذي الجذور اليهودية أيضا، عندما تناول علانية ما يدور سرا في أوساط إدارة بايدن: الدعوة إلى انتخابات مبكرة في إسرائيل على أمل إزاحة نتنياهو وتحالفه اليميني من الحكم. قال شومر في خطابه الأشياء التي لا يستطيع بايدن ومساعدوه قولها في العلن: "إن العقبة الرئيسة الثانية أمام السلام  [بعد "حماس" ومؤيديها الفلسطينيين] هم الإسرائيليون اليمينيون المتطرفون في الحكومة والمجتمع". ولذلك ربط شومر دعوته إلى إجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل بفشل حكومة نتنياهو في استيعاب المتغيرات الهامة الجديدة: "لم يعد التحالف الذي يقوده نتنياهو ملائما لحاجات إسرائيل بعد السابع من أكتوبر. لقد تغير العالم على نحو جذري منذ ذلك التاريخ فيما يُخنق الشعب الإسرائيلي الآن بسبب رؤية رسمية حاكمة لا تزال أسيرة الماضي".

أفرزَ عالم ما بعد السابع من أكتوبر، أميركيا ودوليا، تعاطفا شعبيا مع الفلسطينيين كشعب ليس فقط في سياقات الدعم الإنساني له وأهمية حمايته من النيران الحربية الإسرائيلية، وإنما أيضا كمجتمع بطموح سياسي مشروع في إنشاء دولة له قابلة للحياة بعيدا عن الهيمنة الإسرائيلية الحالية تحت دواعي الأمن المختلفة التي ليس فيها مكان لطموح كهذا. قد يكون هذا التعاطف أحد الاكتشافات المفاجئة بعد عملية "حماس". فبعد أسابيع قليلة من بدء إسرائيل ردها العسكري المدعوم أميركيا وغربيا، تراجع التضامن الرسمي الدولي والأميركي معها، خصوصا مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين. 

حتى اندلاع حرب غزة، كانت أميركا المعقل التقليدي الداعم لإسرائيل شعبيا وسياسيا على مدى عقود طويلة. لكن في خلال أشهر قليلة وصعبة اهتزت "ثوابت" السياسة والمجتمع في أميركا بخصوص إسرائيل.

ثمة تحول جدي وإن كان بطيئا بخصوص التعاطي الأميركي مع إسرائيل واعتبارها حليفا "مدللاً" لا ينطبق عليها ما ينطبق على حلفاء أميركا الآخرين في العالم، فقد أصبح نقد إسرائيل معتادا وعلنيا وانتقل من هامش السياسة والإعلام إلى المركز، فيما يتصاعد التأييد للفلسطينيين وحل الدولتين، خصوصا بين الأقليات من السود واللاتينيين والعرب، فضلا عن الفئات العمرية الشابة، ضمن الحزب الديمقراطي تحديدا. لعل المظهر الأشد وضوحا لهذا لتحول السياسي الأميركي هو إعلان إدارة بايدن أنها تفكر جديا في الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة على نحو أحادي من دون ربط هذا الاعتراف بقبول إسرائيل به، ما يمثل تخليا أميركيا عن سياسة "ثابتة" سابقة قامت على الطابع المشروط للاعتراف الأميركي بفلسطين مستقلة وربطه بضرورة موافقة إسرائيل على هذه الدولة.

يعكس الانتقاد العلني والنادر لإسرائيل استراتيجية جديدة طَوَرتها أميركا للتعاطي مع الملف الفلسطيني-الإسرائيلي: تقويض نتنياهو كحليف لأميركا، يضر بالمصالح الإسرائيلية ويضعف موقف أميركا 

مع ذلك، يبدو التغير الأهم أميركيا ذا طابع ثقافي بنيوي وبعيد الأثر وليس سياسيا ومباشرا. يتعلق هذا التغير بمغادرة الفكرة التقليدية والتبسيطية بأن المعضلة التي يدور حولها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تتعلق بإيجاد حلول "تقنية" لمشاكل فلسطينية: توطين اللاجئين الفلسطينيين الذين رَحّلتهم إسرائيل أثناء حرب 1948 في مكان ما، بعيدا عن إسرائيل. و"لجم" الإرهاب الفلسطيني ضد إسرائيل الديمقراطية (وبالتالي اقتراح حل الدولتين كجواب على هذه المشاكل التقنية المفترضة).

في سياق حرب غزة، تطورَ فهم أميركي آخر أكثر عمقا، لا يزال خلافيا، لكنّ له وجودا معتبرا في السياسة والإعلام والمجتمع، مؤداه أن جانبا مهما من المعضلة يرتبط بشعب فلسطيني عانى كثيرا بسبب السياسات الإسرائيلية وفشل قياداته المحلية، وله مطامح مشروعة في دولة مستقلة ليس على أساس حاجات الأمن القومي الإسرائيلي، بل على أساس خليط صحيح من حقوق قانونية ومبادئ أخلاقية واعتبارات برغماتية. 
لقد تعلمت أميركا بخصوص فلسطين وإسرائيل خلال ستة أشهر ما لم تستطع تعلمه على مدى سبعة عقود.

font change

مقالات ذات صلة