غارتان إسرائيليتان ووالدتان سوريتان... وقلق في تحالف إيران وروسيا والأسد

بقي الأسد منذ 7 أكتوبر بعيدا عن الصراع في غزة إلى حد كبير- باستثناء ربما كلامه الصارم وإشاراته المستمرة إلى سيادة نظامه على بلد لم بعد يسيطر عليه

أ ف ب
أ ف ب
مبنى القنصلية الايرانية في دمشق في 2 ابريل بعد تعرضه للغارة الاسرائيلية

غارتان إسرائيليتان ووالدتان سوريتان... وقلق في تحالف إيران وروسيا والأسد

في الأول من أبريل/نيسان قصفت إسرائيل، كما ورد، ما تدعي إيران أنه قنصليتها في دمشق، فقتلت قائد "فيلق القدس" التابع "للحرس الثوري الإيراني" في سوريا ولبنان، محمد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي، وخمسة ضباط آخرين في "الحرس الثوري"، وستة مدنيين سوريين لم تذكر أسماؤهم، ولا يزال نظام الأسد يرفض إلى الآن الإفصاح عن هوياتهم. أما إسرائيل فردت بالقول إن المبنى المؤلف من أربعة طوابق كان "مبنى عسكريا لقوات فيلق القدس مموها في هيئة مبنى مدني". وبينما ينتظر العالم رد إيران الذي هددت به، فإن نظرة فاحصة على ورقة نعيٍ لأم سورية وابنها قتلا في الغارة تشير إلى أن المبنى نفسه (على الأقل) لم يكن جزءا من أراضي القنصلية أو السفارة بشكل رسمي.

وتسلط هذه الحادثة الضوء على العلاقات المعقدة والسرية بين إيران وإسرائيل في سوريا والتي منعت حتى الآن الأسد من الانخراط في حرب غزة. بيد أن التشابه الرئيس بين إعلان النعي هذا وإعلان سبقه ينعى أما سورية أخرى وابنها، كانا قد قتلا في غارة إسرائيلية يوم 7 فبراير/شباط في حمص، يثير القلق في دمشق وأماكن أخرى، ويثير مخاوف في دمشق وخارجها بشأن دقة الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت الإيرانيين وأعضاء "حزب الله" في سوريا.

تصاعد الهجمات الإسرائيلية... والوفيات السورية

تشير التقارير مفتوحة المصدر إلى أن إسرائيل نفذت أكثر من 50 غارة جوية في سوريا خلال الأشهر الستة التي تلت هجوم "حماس" على إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقد تضمنت خمس غارات جوية على مطار حلب، واثنتين على مطار النيرب العسكري المجاور، وأربع غارات على مطار دمشق، وواحدة على مطار المزة العسكري. وبحسب ما أفادت تلك التقارير فقد استهدفت جميعها أهدافا إيرانية، بما في ذلك مستودعات للأسلحة. وعلى الرغم من أن الغارات الجوية الإسرائيلية على المطارات والمنشآت في سوريا ليست بالأمر الجديد خلال ثلاثة عشر عاما من الحرب السورية المستمرة، إلا أن وتيرة الضربات أصبحت ضعف ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر.

وتظهر التقارير نفسها أن الاستهداف الإسرائيلي قد تغير أيضا. فمنذ السابع من أكتوبر، كان هناك ارتفاع حاد في الغارات الجوية الإسرائيلية على "الحرس الثوري" الإيراني وقيادات الجماعات المتحالفة مع إيران العاملة في سوريا، بما في ذلك استهداف 18 ضابطا في "الحرس الثوري"، ونحو 32 عنصرا من "حزب الله" اللبناني، وواحد من حركة "حماس". وبالمقارنة، لم يقتل إلا اثنان من ضباط "الحرس الثوري" الإيراني، كما لم يقتل أحد من "حزب الله" اللبناني أو من حركة "حماس" بسبب الضربات الإسرائيلية بين يناير وأكتوبر من عام 2023.

لكن العدد الأكبر من القتلى بسبب الغارات الإسرائيلية المعلن عنها في سوريا منذ 7 أكتوبر كان من السوريين. فقد لقي ما يقرب من 75 مواطنا سوريا مصرعهم في الغارات الجوية الإسرائيلية المبلغ عنها، حيث قتل 45 منهم (أو 60 في المئة) في الأسبوعين الأخيرين فقط على أثر الضربة الإسرائيلية الهائلة في 29 مارس/آذار التي استهدفت مدينة حلب.

سلبية الأسد خلال حرب غزة

لعل مثل هذا العدد المتزايد من الضحايا السوريين كان سيشكل، قبل الحرب السورية، إغراء للأسد للدخول في صراع غزة لدعم كل من إيران و"حماس"، غير أن الأسد بقي، منذ 7 أكتوبر، بعيدا عن الصراع في غزة إلى حد كبير- باستثناء ربما كلامه الصارم وإشاراته المستمرة إلى سيادة نظامه على بلد لم بعد يسيطر عليه منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث لم تطلق قواته سوى نحو 20 إلى 30 صاروخا أو هجمة صاروخية من سوريا باتجاه الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، سقطت جميعها تقريبا، بحسب ما ورد، "في مناطق مفتوحة" ولم تسفر عن وقوع إصابات في صفوف الإسرائيليين- وهو ما يُقرأ في واشنطن وفي أماكن أخرى على أنه شيفرة من نوع ما تشير إلى أن الأسد يريد أن يبقى بعيدا عن الصراع في غزة. وكانت إسرائيل قد ردت بقصف مدفعي وبعض الغارات الجوية على مواقع الإطلاق عموما.

لعل العدد المتزايد من الضحايا السوريين كان سيشكل- قبل الحرب السورية- إغراء للأسد للدخول في صراع غزة دعما لإيران و"حماس"، غير أن الأسد بقي، منذ 7 أكتوبر، بعيدا عن صراع غزة

من السهل أن نفهم سبب بقاء الأسد على هامش الحرب في غزة. إن نظام الأسد، الذي يعاني من النقص والتضخم المفرط والذي فقد السيطرة العسكرية على معظم الموارد الزراعية والوقود الأحفوري في البلاد، هو نظام منهك. فقواته العسكرية منتشرة بشكل ضعيف، وتتعرض لهجوم متزايد من قبل تنظيم "داعش" في وسط سوريا، و"هيئة تحرير الشام" في الشمال الغربي للبلاد. وفي حين انصب معظم اهتمام وسائل الإعلام على التقارير التي تفيد بأن واشنطن تطور خططا للانسحاب من سوريا في مرحلة ما، فمن غير المرجح في الحقيقة أن يتمكن نظام الأسد من الاستيلاء على شرق سوريا الغني بالموارد والاحتفاظ به دون التوصل إلى اتفاق مع "حزب العمال الكردستاني" الذي يسيطر على "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وهو الأمر الذي لم تكن دمشق مستعدة للقيام به حتى الآن إلا وفق شروط تتمثل في اندماج "قوات سوريا الديمقراطية" في صفوف الجيش العربي السوري بشكل كامل. 
وبحسب ما ورد فقد دفع كل ذلك اثنين من حلفاء الأسد- وهما روسيا والإمارات العربية المتحدة- إلى حث الأسد على البقاء بعيدا عن الصراع في غزة. إذ لا يريد أي منهما تعريض سيطرة النظام الهشة على أجزاء البلاد التي يفترض أنه يسيطر عليها للخطر، إضافة إلى فرص النظام في الحصول على أموال إعادة الإعمار التي تشتد الحاجة إليها والتي تمنعها حاليا عقوبات "قيصر" الأميركية، إلى جانب حيرة الجهات الأردنية وفي الخليج العربي بخصوص التدفقات الكبيرة للكبتاغون التي تستمر في الخروج من الأراضي السورية باتجاه الأردن وخارجه.

وتتمتع كل من موسكو وأبوظبي بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، التي لم ينصب تركيزها منذ ما يقرب من عقد من الزمن على الحرب السورية وحسب، ولكن أيضا على التسوية التي تبقي الأسد مسيطرا على البلاد بينما تلعب إيران دورا ثانويا. إن استمرار التقسيم الفعلي لسوريا بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، وخصوصا الميليشيات التابعة لإيران والتي أمضت شهورا في توجيه ضربات للقوات الأميركية في شرق سوريا (ما أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين وتبعها عدد من الضربات الانتقامية الأميركية) يعطي سببا وجيها للنصيحة التي قدمتها موسكو وأبوظبي.

قلق بشأن دقة الضربات الإسرائيلية

لا يزال من غير المعروف كيف يمكن أن تكون هذه المشورة مرتبطة بفعالية الضربة الإسرائيلية الأخيرة في سوريا. يتكهن بعض المتهكمين بأن نظام الأسد، الذي يتطلع بشدة إلى استعادة أراضيه، سيكون سعيدا عندما تقوم إسرائيل بإضعاف وتدمير المصالح الإيرانية في سوريا لصالح روسيا المثقلة بالحرب الأوكرانية. وأن موسكو في محادثاتها مع إسرائيل ستكون سعيدة للغاية بتمرير نوايا الأسد الهزيلة خلال حرب غزة وما بعد الحرب إلى الجانب الإسرائيلي. الأمر الذي أدى إلى ظهور شائعات تقول إن تلك الأطراف ذاتها تقوم على الأرجح بتمرير معلومات استخباراتية بشرية وغيرها من المعلومات التي يمكن أن تساعد إسرائيل على استهداف قادة إيران و"حزب الله" في سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فإن العلاقة العسكرية الوثيقة بين موسكو وطهران خلال حرب أوكرانيا تقلل من أهمية هذه النظرية، ما يعني أن مثل هذا السلوك المراوغ من قبل موسكو قد ينجم عنه خطر فقدان الوصول إلى المسيرات الإيرانية وغيرها من الذخائر التي تشتد حاجة روسيا إليها.

 أ ف ب
صور القتلى الايرانيين الذين سقطوا في الغارة الاسرائيلية اثناء تقبل العزاء بهم في دمشق في 3 ابريل

لكن إسرائيل معروفة بامتلاكها أساليبها الخاصة في الحصول على معلومات دقيقة عن الاستهداف في سوريا والتي يعود تاريخها إلى ما قبل الحرب السورية بفترة طويلة. وأبرزها الضربة التي وجهتها إسرائيل عام 2007 لمفاعل الكبر النووي التابع لنظام الأسد، والذي يقال إن كوريا الشمالية عملت على بنائه. الأمر المثير للاهتمام بخصوص تفاصيل الأم السورية وابنها اللذين قتلا في الأول من أبريل هو أنه يبدو أن العائلة ربما تكون أجّرت شقة في المبنى الذي تعرض للتدمير الآن لإيرانيين يعملون من خارج السفارة والقنصلية الإيرانية المجاورة. ومن المثير للاهتمام أيضا التفاصيل الرئيسة التي نشرت في ورقة النعي والتي تشير إلى أن الابن درس الهندسة في الولايات المتحدة في جامعة فرانكلين بولاية أوهايو. ظاهريا، لا يعد هذا أمرا غريبا، ذلك أن عددا من السوريين الذين سئموا من سياسات بلادهم المتصدعة درسوا في الولايات المتحدة وأبلوا بلاء حسنا على مر عقود من الزمن، ما جعل سوريا ثاني أكبر مصدر للأطباء المولودين خارج الولايات المتحدة.

يتكهن بعض المتهكمين بأن نظام الأسد، الذي يتطلع بشدة إلى استعادة أراضيه، سيكون سعيدا عندما تقوم إسرائيل بضرب المصالح الإيرانية في سوريا

وما يشاع الآن أن الأمر الذي يثير القلق في دمشق هو أوجه التشابه بين حالة هذه العائلة وحالة أم سورية أخرى وابنها كانا قد قتلا في غارة إسرائيلية يوم 7 فبراير في حمص، أسفرت عن مقتل تسعة أشخاص وإصابة ثلاثة عشر آخرين- بمن فيهم ثلاثة من قادة "حزب الله".

وبحسب التقارير، فقد كانت تلك الأم قد أجرت أيضا شقة في مبنى مكون من ثلاثة طوابق لقيادي إيراني أو قيادي في "حزب الله"- المبنى يقع على بعد مئتي متر فقط من قصر المحافظ وخمسمئة متر من فرع أمن الدولة السوري. وقد يكون أحد دروس هذه الضربة وما سبقها مباشرة أن التقارير التي أشارت في فترة سابقة إلى أن إيران قد سحبت قادتها من سوريا خوفا من الضربات الإسرائيلية تبدو متسرعة في أحسن الأحوال بالنظر إلى تفاصيل ضربة الأول من أبريل.

ومثل الضحايا السوريين في غارة الأسبوع الماضي في دمشق، أشارت التقارير إلى أن ابن الفقيدة الذي قتل في حمص كان يقيم في الولايات المتحدة الأميركية أيضا- وكان يتأهب للعودة إلى هناك عبر بيروت عندما وقعت تلك الضربة الصاروخية.
قليلة هي الأشياء في سوريا التي تبدو على حقيقتها، ولكن في الحرب السورية وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لم يبق هناك سوى عدد أقل من الأسرار الحقيقية.

font change

مقالات ذات صلة