لبنان... مقتل باسكال سليمان وذروة الهشاشة السياسية والأمنية

توزع غضب الجمهور بين النقمة على النازحين والحملات على "حزب الله"

(أ.ف.ب)
(أ.ف.ب)
مناصرون لحزب "القوات اللبنانية" في مدينة جبيل الساحلية يوم 8 أبريل

لبنان... مقتل باسكال سليمان وذروة الهشاشة السياسية والأمنية

يعيش لبنان احتقانا سياسيا وأمنيأ متصاعدا في ظل المخاوف المحلية والخارجية من انفلات المواجهات العسكرية على حدوده الجنوبية بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، نحو حرب واسعة. ضاعف هذه المخاوف في الأيام الماضية القلق من انعكاسات أي رد إيراني انتقامي على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان الجاري، إذا تدحرجت الأمور إلى رد على الرد، يشمل لبنان. وكل ذلك يخضع لخلافات بين قواه السياسية حول مقاربة مفاعيل حرب غزة على البلد.

لم يكن ينقص لبنان، في ظل هشاشة وضعه السياسي والأمني في الداخل وعلى الحدود، سوى جريمة قتل منسق حزب "القوات اللبنانية" باسكال سليمان بمنطقة جبيل في جبل لبنان، والتي تركت تفاعلات سياسية وشعبية وطائفية أنذرت بالفتنة الطائفية.

الشحن الطائفي على مواقع التواصل

ومع أن التحقيقات في ظروف الجريمة التي قالت الأجهزة الأمنية إنها حصلت أثناء سرقة عصابة من السوريين سيارة المغدور، ما زالت متواصلة، فإنها أيقظت شياطين الحرب الأهلية قبل أسبوع على ذكراها التاسعة والأربعين، يوم 13 أبريل المشؤوم. فـ"حزب القوات" اعتبرها "اغتيالا سياسيا" للقيادي فيها، في انتظار إثبات العكس.

لكن مناصريه ألمحوا على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ اختفاء سليمان الأحد 7 أبريل، إلى ضلوع "حزب الله" في العملية، فيما اكتفت قيادات "القوات" بالتلميح إلى "الحزب" من دون تسميته. وهذه المواقع تشهد على الدوام فلتان اللغة التعبوية السياسية المشحونة بالمغالاة الطائفية والمذهبية.

الأمين العام لـ"الحزب" حسن نصر الله، اتهم "القوات" وكذلك حزب "الكتائب" بالسعي للحرب الأهلية، في خطاب ليل اليوم نفسه. إذ إن منطقة جبيل ذات الأغلبية المارونية تتميز بوجود 6 قرى شيعية يدين معظم سكانها بالولاء لـ"حزب الله"، منذ امتداد نفوذ الأخير وسط الطائفة، إضافة إلى نفوذ حركة "أمل". وأشار نصر الله إلى تلقي بعضهم تهديدات إثر اختفاء المغدور سليمان، واصفا ذلك بـ"الخطير جدا جدا"... كل ذلك حصل قبل اكتشاف العصابة المؤلفة من سوريين ذوي سوابق في سرقة السيارات ونقلها إلى الأراضي السورية، والتي قالت الرواية الرسمية إنها قتلت المغدور أثناء مقاومته لهم، فنقلوا جثته والسيارة إلى سوريا.

كانت الأجواء المشحونة انتشرت وشملت قطع مناصري "القوات" الطريق على الأوتستراد الرئيس الذي يصل الشمال ببيروت. وتوزع غضب جمهور الشارع "القواتي" بين النقمة على النازحين السوريين الذين تعرض بعضهم لاعتداءات في مناطق متفرقة، وبين الحملات على "الحزب".

مع أن التحقيقات في ظروف الجريمة التي قالت الأجهزة الأمنية إنها حصلت أثناء سرقة عصابة من السوريين سيارة المغدور، ما زالت مستمرة، فإنها أيقظت شياطين الحرب الأهلية

لكن مصدرا في "القوات" نفى أن يكون قادتها اتهموا "حزب الله" بالاسم سائلا: "هل يبني نصر الله مواقفه على ما يُكتب في مواقع التواصل الاجتماعي"؟

ومع ذلك اعتبر بيان لـ"القوات" بعد اكتشاف جثة المغدور في سوريا أن ما "سرِّب من معلومات عن دوافع الجريمة لا يبدو منسجما مع حقيقة الأمر". كما رأى أن مسؤولية "حزب الله" تعود إلى أن مواصلته امتلاك السلاح "أفسح المجال لفلتانه ولتغييب الدولة"، وأن "تحويله الحدود السائبة إلى خط استراتيجي بين طهران وبيروت يبقيها معبرا للجريمة السياسية والجنائية وتهريب المخدرات".

سوابق أمنية عن اشتباه "القوات" في "حزب الله" 

خلف التشنجات التي رافقت الجريمة عوامل متصلة بتاريخ الحوادث الأمنية بين "الحزب"، و"القوات" التي تتمتع بشعبية واسعة في الوسط المسيحي. فثمة حوادث أمنية وقعت في السنوات الأخيرة، منها:
-  الاشتباك المسلح بين مناصري الجانبين في منطقة الطيونة عند أطراف العاصمة بيروت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أثناء مظاهرة مؤيدي "الحزب" وحركة "أمل" ضد المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس/آب 2020 للمطالبة بتنحيته بتهمة انحيازه، ونظرا إلى إشاعات عن إمكان اتهامه "الحزب" بالضلوع في التفجير. فالمتظاهرون الذين كان في عدادهم مسلحين دخلوا منطقة عين الرمانة المسيحية الشهيرة التي لـ"القوات" وحزب "الكتائب" النفوذ الرئيس فيها، فاشتبك معهما مسلحون مناصرون للحزبين وسقط 7 قتلى من محازبي الثنائي الشيعي وعدد آخر من الجرحى من الجانبين. ومنطقة عين الرمانة لها رمزية سياسية إذ هي معقل الأحزاب المسيحية المسلحة التي شهدت شرارة انطلاق الحرب الأهلية عام 1975، حين قام مسلحون كتائبيون بقتل فلسطينيين كانوا يستقلون ما سمي "بوسطة عين الرمانة" الشهيرة.

-  وقد اتهم "الحزب" رئيس حزب "القوات" سميرجعجع بأنه أعطى الأوامر لمحازبيه بإطلاق النار على مناصري الثنائي، فيما اتهم القواتيون "الحزب" بمحاولة ترهيب وترويع عين الرمانة بدخولها بالسلاح. كما اتهموه بالوقوف خلف قرار المحكمة العسكرية التي له نفوذ فيها باستدعاء جعجع للتحقيق معه في القضية. وأدى تدخل المرجعيات المسيحية إلى العودة عن هذا القرار في حينها. وما زال ملف هذه الحادثة مفتوحا حتى اليوم. وشهدت منطقتا عين الرمانة والشياح الشيعية تشنجات ومواجهات بقيت محدودة بين مناصري الجانبين خلال السنوات الماضية. وغالبا ما ينتشر الجيش للفصل بينهما. وسيرت قيادته دوريات على الخط الفاصل بين المنطقتين قبل أيام بعد شيوع نبأ خطف باسكال سليمان ثم إعلان مقتله.

مسؤولية "حزب الله" تعود إلى أن مواصلته امتلاك السلاح "أفسح المجال لفلتانه ولتغييب الدولة"

مصدر في "القوات اللبنانية"

- اتهام "القوات" لـ"حزب الله" بالوقوف خلف مقتل المسؤول فيها في بلدة عين إبل المسيحية جنوبي لبنان، إلياس حصروني، مطلع شهر أغسطس/آب من السنة الماضية. فبعد تسريب أنباء عن أنه قضى نتيجة وقوعه في أحد حقول البلدة، نشر حزب "القوات" فيديو التقطته كاميرا مثبتة في أحد الشوارع لسيارات رباعية الدفع تعترض سيارة حصروني خلال الليل وتنزله منها. لكن وجوه الخاطفين لم تكن واضحة في الفيديو، فيما اعتبرت مصادر "القوات" أن ليس هناك من جهة تستطيع التحرك بحرية في الجنوب اللبناني للقيام بهكذا عمل إلا "حزب الله". وما زال حزب "القوات" يطالب الأجهزة الأمنية بكشف ملابسات مقتل حصروني، بينما نفى "الحزب" علاقته بالأمر.

- إن لقادة "القوات" تجارب مع عمليات اغتيال لكوادر فيه عملوا على تنشيط المناصرين والحزبيين أثناء وجود جعجع في السجن بين 1994 و2005 وأثناء الوجود السوري في لبنان. وهي عمليات بقيت غامضة وقيل في حينها إنها تمت بدافع السرقة. وهو ما دفع بعض قيادييها إلى إعلان عدم اقتناعهم بالرواية عن أن باسكال سليمان قتل لمقاومته سرقة سيارته...
- يعود قادة قواتيون بالذاكرة إلى محاولة اغتيال جعجع في 4 أبريل 2012 حين أخطأته رصاصتا قناص، فيما كان يتنزه بحديقة مقره في أعالي منطقة كسروان الجبلية. وفي حينها اتجهت تلميحات "القوات" إلى "حزب الله" بحجة أنه الأقدر على حرية الحركة الأمنية والوصول إلى جرود المنطقة. 

المناخ السياسي الضاغط وحرب الجنوب 

وبصرف النظر عن اتضاح النواحي الأمنية والقضائية، فإن لتداعيات مقتل باسكال سليمان التي استنفرت البلد لضبط أي صدامات طائفية، ظروف سياسية شديدة التعقيد. ويعتقد معظم القيادات السياسية باستحالة تجديد الحرب الأهلية. فما من فريق يريد تكرار التجربة، وليس هناك من طرف خارجي مستعد لتمويلها وتسليح أطرافها كما حصل عام 1975. ولذلك نجحت جهود تطويق التفاعلات في الشارع في الأيام الماضية.

(أ.ف.ب)
وزير الداخلية اللبناني بسام المولوي أثناء مؤتمر صحافي بشأن مقتل باسكال سليمان يوم 9 أبريل

والجريمة وقعت في مناخ الصراعات الداخلية المفتوحة على مصراعيها، جراء الفراغ في الرئاسة الأولى منذ أكثر من سنة وخمسة أشهر، وشلل مؤسسات الدولة، إضافة إلى اعتراض فرقاء كثر على دخول "الحزب" في مواجهة مع إسرائيل ربطا بحرب غزة. وهو ما رفع من حدة التخاطب السياسي خلال الأشهر الماضية. ويمكن الإشارة إلى الكثير من الوقائع في هذا السياق، بينها:
1- إن"حزب الله" يتعرض في الجنوب لخسائر في مقاتليه وكوادره العسكرية العالية الخبرة، الذين تمكن الجيش الإسرائيلي من اصطياهم، والذين دأب نصر الله على الإشارة إليهم، في خطبه الأخيرة، متحدثا عن التضحيات التي تبذلها المقاومة لمساندة غزة. 
2- إن "الحزب"، رغم تكراره الدعوة إلى الصبر والصمود في مخاطبته جمهوره الذي تعرضت قراه وأملاكه الحدودية لخسائر فادحة وتهجير واسع شمل زهاء 100 ألف مواطن يضطر لتبرير خياره فتح جبهة الجنوب في شكل يوحي بأنه محرج ومرتبك أمام هذا الجمهور. فالضوابط لحدود هذا الانخراط مصدرها قرار إيران عدم توسيع الحرب لأسباب إقليمية، في وقت يعد هذا الجمهور بالنصر الآتي. وفي المقابل، حسبما تشير المعلومات، يبذل نصر الله جهدا لإبقاء الجبهة مضبوطة تحت سقف تجنب الحرب الواسعة، رغم ضغوط في حزبه بوجوب الرد على الضربات الإسرائيلية بقوة أكثر، تملك إمكاناتها قواته.

فقدان "الحزب" التغطية المسيحية

3- إن "الحزب" فقد التغطية المسيحية لخياراته بعدما ابتعد عنه "التيار الوطني الحر" بزعامة الرئيس السابق العماد ميشال عون والنائب جبران باسيل الذي أعلن رفضه خيار "وحدة الساحات"، وحصر تأييده المقاومة بالتصدي لإسرائيل في حال اعتدت على لبنان، داعيا إلى وقف الحرب جنوبا. وهو انضم بذلك إلى خصومه وخصوم "الحزب" المسيحيين، وفي طليعتهم "القوات".
4- بموازاة عجز أي من المعسكرين السياسيين الكبيرين، "حزب الله"وحلفائه في قوى "الممانعة" من جهة، والقوى "السيادية" المعارضة لنفوذ "الحزب" والتغييريين وبعض المستقلين، عن ترجيح كفة مرشح أي منهما لرئاسة الجمهورية، أخذ الاهتراء السياسي في مؤسسات الدولة يثقل على الأطراف كافة.

"الحزب" فقد التغطية المسيحية لخياراته بعدما ابتعد عنه "التيار الوطني الحر" بزعامة الرئيس السابق ميشال عون والنائب جبران باسيل الذي أعلن رفضه خيار "وحدة الساحات"

5- يزيد الشغور الرئاسي  شلل الإدارات ويعمق الأزمة الاقتصادية الكارثية التي وقع فيها لبنان منذ صيف 2019، من دون حلول جذرية لها. ويتبادل معظم الفرقاء اللبنانيين الاتهامات بالمسؤولية عن ذلك. القوى السيادية تتهم "الحزب" بتحويل ساحة لبنان لخدمة مشروع  إيران للهيمنة الإقليمية وللتفاوض مع أميركا على نفوذها في لبنان وغيره. هؤلاء يرفضون مرشحه الرئاسي سليمان فرنجية لأنه يأتي في سياق هذا المشروع. و"الحزب" يتهم معارضيه و"القوات" بخدمة الأميركيين، وبالتالي إسرائيل...
ربما يكون مقتل باسكال سليمان مرتبطا بهذه العوامل السياسية وغيرها، وربما يتم حصر الأسباب بسرقة سيارته، في انتظار التحقيقات... لكنها تساعد بالتأكيد على فهم الهزة التي سببتها الجريمة على الصعيدين السياسي والأمني.

font change

مقالات ذات صلة