في الأيام القليلة التي تلت الاتفاق مع صندوق النقد، أظهرت بيانات رسمية ارتفاع معدل التضخم إلى حدود 36 في المئة في فبراير/شباط على أساس سنوي، وهذا ما فاجأ أكثر المحللين الذين توقعوا انخفاضا في معدل الغلاء إلى 25 في المئة. عقب صدور الأرقام، توقع أحد أكبر المصارف الدولية أن يظل معدل التضخم متجاوزا نسبة 30 في المئة مع نهاية السنة، وهو ما يوضح مدى صعوبة مهمة السلطات في إعادة السيطرة على الأسعار سريعا. أما كارلا سليم، وهي خبيرة اقتصادية متخصصة في الشرق الأوسط لدى مصرف "ستاندارد تشارترد" البريطاني، فرأت أن معدل التضخم قد يرتفع مرة أخرى قبل أن يبدأ بالتراجع في السنة الجارية، مدفوعا بتراجع سعر الدولار أمام الجنيه، بحسب تصريحات أدلت بها إلى تلفزيون "بلومبرغ".
في الجانب المشرق، تزخر المؤسسات المالية والنقدية المصرية بالعديد من الكفاءات القادرة على تبني السياسات المطلوبة لكبح جماح التضخم وإدارة موازنة الدولة باحترافية طالما توفرت الإرادة السياسية لذلك. غير أن التحدي الأكبر يكمن في تطبيق سياسات طويلة الأجل لتحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة، وهو ما يتطلب خطوات إصلاحية جريئة. للتوضيح، أذكر هنا جلسة خاصة مع مسؤول حكومي سابق رفيع المستوى عام 2017، قال فيها إنه يتوقع عودة مصر إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي وغيره من المانحين. وقتذاك، لم يكن هناك ما يستدعي ذلك، لكنه قال: "نحن نجيد تطبيق السياسات والإصلاحات المالية والنقدية. هذا سهل. ما لا نجيده هو السياسات التي تساعد في دعم الصادرات"، أو تطوير قطاعات صناعية قادرة على تنويع مصادر الدخل القومي.
ما قد يبعث على التشاؤم، ندرة الأمثلة الناجحة لدول استطاعت تخطي أزمات مماثلة بسهولة، والتخوف من أن يؤدي الدعم غير المسبوق إلى تصور أن مصر تستطيع أن تخرج من أي أزمة في المستقبل بالطريقة نفسها، وهو ما قد يدفع المسؤولين إلى التخلي عن خطط الإصلاح أو التردد في اتخاذ أي إجراءات قد لا تتمتع بشعبية بين المواطنين.
الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء تأديته القسم أمام البرلمان المصري خلال حفل تنصيبه لفترة رئاسية ثالثة، في المقر الجديد لمجلس النواب في العاصمة الإدراية الجديدة شرق القاهرةفي المقابل، يشير تاريخ مصر منذ السبعينات، إلى تعرضها لأزمة اقتصادية خانقة مرة كل 10 سنوات تقريبا. هذا قد يعني أن المشكلة خلال هذا العقد مرت، وأن كل ما علينا فعله الآن هو الاستمتاع بثمار الإصلاح والنمو حتى 2030.
محطات في الأزمات الاقتصادية المصرية
1977: أدى قرار الرئيس أنور السادات في يناير/كانون الثاني خفض الدعم الحكومي عن بعض السلع الأساسية إلى تظاهرات عارمة لم تتوقعها الحكومة على الإطلاق. عرفت تلك الأحداث بـ"انتفاضة الخبز". وعلى الرغم من أن السادات وصفها بانتفاضة "الحرامية"، إلا أنه اضطر في النهاية إلى العدول عن قرار زيادة الأسعار.
1980 (الثمانينات): عانت مصر في العقد الأول من حكم الرئيس حسني مبارك من أزمات عدة، لعل من أشهرها إفلاس عدد من المصارف الإسلامية، وهو ما عرف اختصارا بـ"فضيحة الريان" نسبة إلى أشهر تلك المؤسسات، إضافة إلى تفاقم الدين الخارجي إلى مستويات قياسية آنذاك (أكثر من 40 مليار دولار في عام 1989). جاءت مشاركة مصر بقوات كبيرة في حرب تحرير الكويت بمثابة نقطة التحول في الأزمة، حيث تم إسقاط الديون العسكرية وإعادة هيكلة قسم كبير من الدين الخارجي.
1996 - 1999: أدى الهجوم الإرهابي المروع على مجموعة كبيرة من السائحين في مدينة الأقصر عام 1997 إلى تداعيات سلبية على السياحة في مصر. أضف إلى ذلك أن مصر كانت تعاني في ذلك الوقت من تحديات في السيولة المحلية وحالات تعثر في القطاع المصرفي في أعقاب ما اشتهر بأزمة "نواب القروض"، وهم مجموعة من البرلمانيين الذين تمت إدانتهم بتهم الاحتيال على مصارف محلية عدة للحصول على قروض ناهزت قيمتها الـ900 مليون جنيه. كما تعرضت حكومة رئيس الوزراء كمال الجنزوري إلى انتقادات حادة بسبب الإنفاق المتزايد على مشاريع عملاقة لم تثبت جدواها الاقتصادية.
2003: اضطرت حكومة عاطف عبيد إلى تعويم سعر صرف الجنيه بسبب أزمة شح الدولار وارتفاع سعر صرفه في السوق السوداء بأكثر من 50 في المئة.
2011 - 2016: أدت الفوضى التي صاحبت ثورة 2011 ضد الرئيس حسني مبارك، إلى تباطؤ وتخبط في القرارات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، وتراجع عن تطبيق اتفاقات بشروط ميسرة نسبيا مع صندوق النقد الدولي، الذي أبدى اهتماما كبيرا بمساعدة مصر على التعافي. كان أكبر أعراض الأزمة هنا أيضا، الشح الرهيب في الدولار والانخفاض الحاد في قيمة الجنيه. اضطرت القاهرة إلى إبرام اتفاق أكثر إجحافا مع الصندوق عام 2016 عومت معه الجنيه ورفعت أسعار الكهرباء والوقود بصورة كبيرة.
2022 – 2024: أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تراجع حاد في عائدات السياحة وارتفاع كبير في فاتورة استيراد القمح والمواد الغذائية، مما خلف عجزا كبيرا في حساب المعاملات الجارية. أدى ارتفاع أسعار الفائدة في الدول المتقدمة بعد جائحة "كوفيد - 19" أيضا إلى خروج عشرات المليارات من الأموال الساخنة. في المقابل، أدت محاولات السلطات لتثبيت سعر الصرف إلى انخفاض حاد في سعر الجنيه في السوق السوداء ليصل إلى نحو 70 جنيها للدولار في مقابل سعر رسمي في حدود الـ30 جنيها للدولار.