الرابحون و"المنتظرون" في رحلة مصر الشاقة نحو التعافي الاقتصادي

الخوف أن يؤدي الدعم غير المسبوق إلى تصور الخروج من أي أزمة بالطريقة نفسها والتخلي الإصلاح

إوان وايت
إوان وايت

الرابحون و"المنتظرون" في رحلة مصر الشاقة نحو التعافي الاقتصادي

على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عقدت مجموعة من المستثمرين جلسة مغلقة في أحد فنادق مدينة مراكش المغربية ذات الخمس نجوم، ناقشت فرص الأعمال المتوقعة في مصر. لم يكن قد مضى أسبوع على اندلاع الحرب بين إسرائيل و"حماس"، وما ترتب على ذلك من أسئلة بلا إجابات واضحة عن مصير المنطقة السياسي والاقتصادي، غير أن البعض رأى حينذاك أن احتمال لعب مصر دورا رئيسا في حل الصراع أو في أداء دور الوسيط بين إسرائيل و"حماس" قد يعود بالنفع على حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العالقة في براثن أزمة اقتصادية طاحنة.

للوهلة الأولى، لم تكن هناك أسباب كثيرة تدعو إلى التفاؤل، فمصر كانت في ذلك الوقت تعاني نقصا حادا في العملات الأجنبية أحدث شللا في الحياة الاقتصادية، وكانت مفاوضاتها متعثرة مع صندوق النقد حول تنفيذ برنامج مساعدات بقيمة ثلاثة مليارات دولار فقط، بسبب تردد القاهرة في اتخاذ إجراءات اقتصادية تراها مؤلمة. أما دول الخليج، التي ضخت عشرات المليارات من الدولارات لدعم الرئيس السيسي منذ وصوله إلى الحكم عام 2013، فبدت مترددة هي الأخرى في تقديم المزيد من الدعم من دون خطة اقتصادية واضحة أو مظلة عون دولية.

كان المتفائلون قلة، غير أن رهانهم استند إلى فرضيتين: الأولى، هي وضع مصر كوسيط تاريخي بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، والثانية، هي خوف الغرب والمؤسسات الدولية من أن تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى انهيار سياسي لا تتحمله الأوضاع المتفجرة في المنطقة. فمهما كانت تكلفة إنقاذ الاقتصاد المصري كبيرة، فإنها بالتأكيد أقل من الثمن الباهظ الذي قد يدفعه الجميع لو امتد الحريق ليشمل أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان.

26,5 مليار دولار الفائض المتوقع في التمويلات الخارجية من دول عربية ومؤسسات دولية

بعد خمسة أشهر على تلك الاجتماعات، وقعت مصر اتفاقا مع صندوق النقد بقرض قيمته 8 مليارات دولار، أي أكثر من ضعف المبلغ المتفق عليه سابقا. سبق الإعلان استثمار إماراتي مفاجئ بقيمة 35 مليار دولار تضمن خططا لتطوير منطقة "رأس الحكمة" على ساحل البحر المتوسط، وهو ما شجع السلطات المصرية على اتخاذ إجراءات مالية ونقدية جريئة: فخفضت قيمة الجنيه بأكثر من 40 في المئة للقضاء على سوق العملة الموازية، ورفعت أسعار الفائدة 600 نقطة أساس (100 نقطة أساس تساوي 1 في المئة) للحد من الآثار التضخمية الهائلة لتحرير سعر الصرف.

خطوة على طريق شائك

وفي حين يمكن تفهم الارتياح الكبير الذي عم الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية في مصر والعالم العربي (بث التلفزيون لقطات للرئيس السيسي وهو يمازح رئيس حكومته طالبا "هبرة" من الأموال التي تم تحويلها لصالح صندوق لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة)، تكفي نظرة سريعة على تاريخ البلاد مع أزمات العملات تحديدا، لفهم أن ما حدث لا يمثل سوى الخطوة الأولى على طريق طويل للتعافي، يحمل فرصا للكسب السريع لمجموعة صغيرة من المستثمرين وأسئلة كثيرة وأخطارا أكبر لفئات أخرى من بينها الحكومة والمؤسسات الدائنة لها والشعب المصري بصورة عامة.

لعل الاختبار الحقيقي الذي ستخوضه القاهرة للمرة الثانية في أقل من 10 سنوات، هو محاولة استغلال الدعم العربي والدولي الهائل لطي صفحة الأزمات الاقتصادية المتكررة ووضع الاقتصاد على طريق الإصلاح والنمو المستدام. بداية هذه الرحلة سهلة نسبيا، غير أن مجموعة من المستثمرين وخبراء الاقتصاد الذين استطلعنا رأيهم يتفقون على أن الطريق سيغدو أكثر وعورة بمرور الوقت، إذا ما فشلت مصر في تطبيق إجراءات لخفض الدين الخارجي المتفاقم والعجز المزمن في الميزان التجاري، إضافة إلى معدلات تضخم مرتفعة أثرت في القدرة الشرائية للمواطنين.

إوان وايت

يرجع سبب السهولة النسبية لبداية طريق التعافي، إلى "رأس الحكمة"، وهي منطقة لم يسمع عنها الكثيرون خارج مصر (أو حتى كثير من المصريين أنفسهم) قبل شهر فبراير/شباط الماضي، عندما سرت شائعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن الإمارات قررت استثمار 22 مليار دولار في المنطقة. وقتذاك، تكهن محلل في أحد المصارف المصرية خلال حديث خاص، أن الحكومة نفسها (التي سارعت إلى نفي الخبر) هي التي روجت لتلك الشائعة في محاولة للسيطرة على السوق السوداء للدولار.

"رأس الحكمة"، التي تبلغ مساحتها نحو 180 مليون متر مربع (أو ما يعادل مساحة واشنطن العاصمة)، هي جزء من ساحل مصر الشمالي الذي دأبت الشركات المصرية والعربية والحكومات المتعاقبة منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك على تطويره، لما يتمتع به من شواطئ خلابة تضاهي أبرز سواحل العالم.

خطورة الأموال الساخنة

ويرى المصرف الأميركي العريق، "غولدمان ساكس"، أن الاستثمارات الإماراتية في مصر، إضافة إلى حزمة المساعدات المتفق عليها مع صندوق النقد والاتحاد الأوروبي وغيرهما من المؤسسات الدولية، ستؤدي إلى تحقيق فائض في التمويلات الخارجية خلال السنوات الأربع المقبلة يقدر بـ26,5 مليار دولار، في مقابل عجز يقدر بـ13 مليار دولار قبل تلك التطورات.

33 مليار دولار على الأقل حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة المرتقبة في عام 2024

ويتوقع المصرف في تقرير له، ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة للسنة الجارية إلى أكثر من 33 مليار دولار، إضافة إلى انتعاش في التدفقات النقدية الأجنبية في الدين الحكومي المقوم بالجنيه المصري. يمكن اعتبار تلك الفئة الأخيرة بمثابة الرابح الرئيس في المرحلة الأولى من التعافي، حيث يرى العديد من الصناديق الاستثمارية مصر كفرصة لتحقيق ربح سريع مرتفع من الصعب الحصول عليه في أي مكان آخر في العالم. 

كيف ذلك؟ تعرف تلك الاستثمارات بالأموال الساخنة (تتدفق بسرعة وقد تخرج أيضا بسرعة دخولها)، وهي تعتمد على استثمار أموال بعملات ذات معدل فائدة منخفض في أصول ذات معدل فائدة مرتفع. في الأسبوع الأول الذي أعقب اتفاق مصر مع صندوق النقد، بلغ متوسط معدل الفائدة على سندات الخزانة المصرية لمدة ستة أشهر، أكثر من 30 في المئة، مقارنة بأقل من 5 في المئة على سندات الخزانة الأميركية ذات العشر سنوات.

بدأت مصر بتطوير سوق الدين المحلي في أوائل القرن الحالي، في عهد وزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالي، وبلغ حجم الأموال الأجنبية فيه أكثر من 30 مليار دولار (أي أكبر من حجم الاقتصاد اللبناني بالكامل حاليا) قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت أحد العوامل التي أدت إلى اهتزاز الثقة في الاقتصاد المصري، مع انهيار إيرادات السياحة وارتفاع فاتورة استيراد القمح والمواد الغذائية الأخرى. يوضح هذا، خطورة الاعتماد المتزايد على الأموال الساخنة، إذ تجعل البلاد عرضة لأزمات ثقة قد تكون خارجة عن السيطرة.

هذه المرة، يرى بعض المحللين أن تدفقات الأموال الساخنة قد لا تستمر طويلا إذا لم تلتزم القاهرة ما اتفقت عليه مع صندوق النقد الدولي في خصوص تطبيق نظام مرن لسعر الصرف، وهو ما يعني ضرورة تحرك الجنيه صعودا أو هبوطا، بناء على آليات العرض والطلب بدلا من الحفاظ على سعر ثابت، حتى إن كانت تكلفة ذلك استهلاك احتياط النقد الأجنبي للبلاد وتفشي سوق موازية للعملات الأجنبية.

تحدي السيطرة على آلام التضخم

بعيدا من المكاسب السريعة، من المؤكد أن على الغالبية العظمى من الشعب المصري الانتظار لقطف ثمار الإصلاح، حيث يتعين على السلطات أولا محاولة علاج الآثار التضخمية للأزمة، وما تلاها من تعويم للجنيه، على المواطنين، الذين تعرضوا لصدمات متتالية في الأسعار أثقلت كاهل الفقراء والطبقة المتوسطة. والأخيرة تعاني خصوصا بسبب غيابها عن أي برامج دعم حمائية تقدم إلى الأسر الأكثر احتياجا. ويكفي النظر في أسعار الكهرباء مثلا للتوضيح: ففي عام 2016، كان سعر الشريحة الثانية من الاستهلاك (من 51 إلى 100 كيلو وات) 14,5 قرشا للكيلو وات، في مقابل 65 قرشا في عام 2024، أي بزيادة قدرها 350 في المئة.

ثمة تخوف من أن يؤدي الدعم غير المسبوق إلى تصور أن مصر تستطيع أن تخرج من أي أزمة في المستقبل بالطريقة نفسها، والتخلي عن خطط الإصلاح

في الأيام القليلة التي تلت الاتفاق مع صندوق النقد، أظهرت بيانات رسمية ارتفاع معدل التضخم إلى حدود 36 في المئة في فبراير/شباط على أساس سنوي، وهذا ما فاجأ أكثر المحللين الذين توقعوا انخفاضا في معدل الغلاء إلى 25 في المئة. عقب صدور الأرقام، توقع أحد أكبر المصارف الدولية أن يظل معدل التضخم متجاوزا نسبة 30 في المئة مع نهاية السنة، وهو ما يوضح مدى صعوبة مهمة السلطات في إعادة السيطرة على الأسعار سريعا. أما كارلا سليم، وهي خبيرة اقتصادية متخصصة في الشرق الأوسط لدى مصرف "ستاندارد تشارترد" البريطاني، فرأت أن معدل التضخم قد يرتفع مرة أخرى قبل أن يبدأ بالتراجع في السنة الجارية، مدفوعا بتراجع سعر الدولار أمام الجنيه، بحسب تصريحات أدلت بها إلى تلفزيون "بلومبرغ". 

في الجانب المشرق، تزخر المؤسسات المالية والنقدية المصرية بالعديد من الكفاءات القادرة على تبني السياسات المطلوبة لكبح جماح التضخم وإدارة موازنة الدولة باحترافية طالما توفرت الإرادة السياسية لذلك. غير أن التحدي الأكبر يكمن في تطبيق سياسات طويلة الأجل لتحقيق نمو اقتصادي أكثر استدامة، وهو ما يتطلب خطوات إصلاحية جريئة. للتوضيح، أذكر هنا جلسة خاصة مع مسؤول حكومي سابق رفيع المستوى عام 2017، قال فيها إنه يتوقع عودة مصر إلى طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي وغيره من المانحين. وقتذاك، لم يكن هناك ما يستدعي ذلك، لكنه قال: "نحن نجيد تطبيق السياسات والإصلاحات المالية والنقدية. هذا سهل. ما لا نجيده هو السياسات التي تساعد في دعم الصادرات"، أو تطوير قطاعات صناعية قادرة على تنويع مصادر الدخل القومي.

ما قد يبعث على التشاؤم، ندرة الأمثلة الناجحة لدول استطاعت تخطي أزمات مماثلة بسهولة، والتخوف من أن يؤدي الدعم غير المسبوق إلى تصور أن مصر تستطيع أن تخرج من أي أزمة في المستقبل بالطريقة نفسها، وهو ما قد يدفع المسؤولين إلى التخلي عن خطط الإصلاح أو التردد في اتخاذ أي إجراءات قد لا تتمتع بشعبية بين المواطنين. 

أ.ف.ب.
الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء تأديته القسم أمام البرلمان المصري خلال حفل تنصيبه لفترة رئاسية ثالثة، في المقر الجديد لمجلس النواب في العاصمة الإدراية الجديدة شرق القاهرة

في المقابل، يشير تاريخ مصر منذ السبعينات، إلى تعرضها لأزمة اقتصادية خانقة مرة كل 10 سنوات تقريبا. هذا قد يعني أن المشكلة خلال هذا العقد مرت، وأن كل ما علينا فعله الآن هو الاستمتاع بثمار الإصلاح والنمو حتى 2030.

محطات في الأزمات الاقتصادية المصرية

1977: أدى قرار الرئيس أنور السادات في يناير/كانون الثاني خفض الدعم الحكومي عن بعض السلع الأساسية إلى تظاهرات عارمة لم تتوقعها الحكومة على الإطلاق. عرفت تلك الأحداث بـ"انتفاضة الخبز". وعلى الرغم من أن السادات وصفها بانتفاضة "الحرامية"، إلا أنه اضطر في النهاية إلى العدول عن قرار زيادة الأسعار.

1980 (الثمانينات): عانت مصر في العقد الأول من حكم الرئيس حسني مبارك من أزمات عدة، لعل من أشهرها إفلاس عدد من المصارف الإسلامية، وهو ما عرف اختصارا بـ"فضيحة الريان" نسبة إلى أشهر تلك المؤسسات، إضافة إلى تفاقم الدين الخارجي إلى مستويات قياسية آنذاك (أكثر من 40 مليار دولار في عام 1989). جاءت مشاركة مصر بقوات كبيرة في حرب تحرير الكويت بمثابة نقطة التحول في الأزمة، حيث تم إسقاط الديون العسكرية وإعادة هيكلة قسم كبير من الدين الخارجي.

1996 - 1999: أدى الهجوم الإرهابي المروع على مجموعة كبيرة من السائحين في مدينة الأقصر عام 1997 إلى تداعيات سلبية على السياحة في مصر. أضف إلى ذلك أن مصر كانت تعاني في ذلك الوقت من تحديات في السيولة المحلية وحالات تعثر في القطاع المصرفي في أعقاب ما اشتهر بأزمة "نواب القروض"، وهم مجموعة من البرلمانيين الذين تمت إدانتهم بتهم الاحتيال على مصارف محلية عدة للحصول على قروض ناهزت قيمتها الـ900 مليون جنيه. كما تعرضت حكومة رئيس الوزراء كمال الجنزوري إلى انتقادات حادة بسبب الإنفاق المتزايد على مشاريع عملاقة لم تثبت جدواها الاقتصادية.

2003: اضطرت حكومة عاطف عبيد إلى تعويم سعر صرف الجنيه بسبب أزمة شح الدولار وارتفاع سعر صرفه في السوق السوداء بأكثر من 50 في المئة.

2011 - 2016: أدت الفوضى التي صاحبت ثورة 2011 ضد الرئيس حسني مبارك، إلى تباطؤ وتخبط في القرارات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، وتراجع عن تطبيق اتفاقات بشروط ميسرة نسبيا مع صندوق النقد الدولي، الذي أبدى اهتماما كبيرا بمساعدة مصر على التعافي. كان أكبر أعراض الأزمة هنا أيضا، الشح الرهيب في الدولار والانخفاض الحاد في قيمة الجنيه. اضطرت القاهرة إلى إبرام اتفاق أكثر إجحافا مع الصندوق عام 2016 عومت معه الجنيه ورفعت أسعار الكهرباء والوقود بصورة كبيرة. 

2022 – 2024: أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى تراجع حاد في عائدات السياحة وارتفاع كبير في فاتورة استيراد القمح والمواد الغذائية، مما خلف عجزا كبيرا في حساب المعاملات الجارية. أدى ارتفاع أسعار الفائدة في الدول المتقدمة بعد جائحة "كوفيد - 19" أيضا إلى خروج عشرات المليارات من الأموال الساخنة. في المقابل، أدت محاولات السلطات لتثبيت سعر الصرف إلى انخفاض حاد في سعر الجنيه في السوق السوداء ليصل إلى نحو 70 جنيها للدولار في مقابل سعر رسمي في حدود الـ30 جنيها للدولار. 

font change

مقالات ذات صلة