عشية الرد الإيراني... القيادة حائرة بين انتقامين

لو لم تتمكن طهران من توجيه ضربة عسكرية لكان انهار شعار "دام رعبه"

 أ ف ب
أ ف ب
متظاهرون أمام السفارة البريطانية في طهران في 14 أبريل بعد اطلاق المسيرات والصواريخ الإيرانية في اتجاه اسرائيل

عشية الرد الإيراني... القيادة حائرة بين انتقامين

احتدمت الخلافات حول الطريقة التي اعتمدها إيران في نهاية المطاف، قبل ساعات من الرد على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت قنصليتها في دمشق، في دوائر القرار العليا، خصوصا في المجلس الأعلى للأمن القومي، وتنظيم "الحرس الثوري".

وفي الاجتماع الأخير الذي عقده المجلس بحضور رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، لمناقشة آثار الغارة واتخاذ القرار المناسب بشأنها، انقسم المجتمعون إلى فئتين: فئة المتحمسين الذين ينادون بالرد المباشر، أي ضرب أهداف عسكرية وأمنية داخل إسرائيل بالصواريخ الباليستية، وكل فعل أقل من هذا هو علامة ضعف.

وفئة المتعقلين الذين يفضلون المضي في سياسة "الصبر الاستراتيجي"، التي أثبتت جدواها في حماية إيران، ويفضلون الرد عبر الأذرع الوكيلة، للحؤول دون تحقيق إسرائيل غايتها بجر إيران نحو حرب مباشرة.

أ ف ب
اجتماع الحكومة الإيرانية برئاسة الرئيس إبراهيم رئيسي في طهران غداة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق

في المقابل، أبدت مجموعة في "الحرس" خشيتها من أن يؤدي الرد المباشر إلى تحقيق حلم بنيامين نتنياهو بافتعال حرب إقليمية يكون هدفها تدمير إيران، ورأت أن الانتقام بواسطة الميليشيات الوكيلة هو الحل الأمثل.

في حين اعتبرت مجموعات أخرى أنه على إيران المجازفة بالرد المباشر مهما كانت العواقب، لئلا تفقد مصداقيتها وتهتز صورتها كقوة إقليمية.

الخلاف داخل مراكز القرار عكسته وسائل الإعلام، التي انقسمت بدورها إلى فئتين متماثلتين، فأيد قسم منها الرد المباشر من الأراضي الإيرانية على أهداف عسكرية أو أمنية داخل إسرائيل، بينما حذر قسم آخر من الانزلاق إلى هذا الفخ الذي نصبته إسرائيل.

وفي هذا السياق، كتبت صحيفة "كيهان" المتشددة أن "الرد على إسرائيل آتٍ لا محالة، لكن الأهمية الكبرى هي لنوعه وحجمه وكذلك زمانه ومكانه، ويجب أن لا يتأخر، فعامل الوقت مهم جدا، وعلى العدو أن يعرف أن الغضب الإيراني مقدس". بينما انتقدت صحيفة "همشهري"، الأصوات الفوضوية التي تدعو إلى اتخاذ قرار فوري بالرد المباشر، وكتبت: "لماذا تصرون على تنفيذ خطة العدو؟". كما نشر موقع "بصيرت" التابع لـ"الحرس" تقريرا مفصلا عن الغارة الإسرائيلية، وأكد أن "جبهة المقاومة سيكون لها رد قريب ومتوازن واستراتيجي". وختم: "إن هدف نتنياهو هو جر إيران والولايات المتحدة إلى هذا الصراع، وهو ما لن يتحقق أبدا".

الخلاف داخل مراكز القرار الإيرانية عكسته وسائل الإعلام، فأيد قسم الرد المباشر من داخل إيران على أهداف عسكرية أو أمنية في إسرائيل، بينما حذّر قسم آخر من الانزلاق إلى الفخ الذي نصبته إسرائيل

برغم الخلافات، لم تكفّ إيران عن الادعاء بأنها ستنتقم بقسوة من إسرائيل، وبطريقة تردعها عن شن هجمات مستقبلية على أراضيها ومصالحها في خارجها، وأنه صار بحوزتها عشرات الخطط لتنفيذ "الانتقام القاسي" وأكثر منها لتنفيذ "الانتقام الاستراتيجي".
خيار "الانتقام القاسي"، نادى به دعاة الرد المباشر، ورأوا أنه كما قصفت إيران قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق، انتقاما لمقتل قائد "فيلق القدس" الجنرال قاسم سليماني، بمقدورها أن تكرر هذه التجربة الناجحة لردع إسرائيل وتحجيمها. 
أما دعاة الرد غير المباشر فمالوا إلى خيار "الانتقام الاستراتيجي"، أي تصعيد الهجمات على طول الحدود اللبنانية من خلال "حزب الله"، أو الإيعاز إلى الوكلاء في اليمن بتسخين مياه البحر الأحمر، أو إلى الوكلاء في سوريا والعراق بمهاجمة القواعد العسكرية الأميركية.
وتنبغي الإشارة هنا، إلى أن غياب الإجماع، علاوة على تصريحات المسؤولين الإيرانيين المتضاربة، أظهر حقيقة واحدة، أن طهران تملكتها مخاوف جدية بشأن العواقب الداخلية والخارجية المُكلفة، التي ستنعكس عليها في حال أقدمت على الرد المباشر أو غير المباشر، منها تحرك قواعد المعارضة في الداخل وعودة المظاهرات وانتشار الفوضى مجددا، بعد أن نجحت السلطات في قمع كل أشكالها، وآخرها انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" في خريف 2022، ومنها اندلاع حرب شاملة في المنطقة؛ ربما تنضم إليها الولايات المتحدة، تُضعضع أركان النظام في إيران، وقد تؤدي إلى إسقاطه أو إضعافه في أحسن الأحوال، وهو السيناريو الذي يتجنبه منذ عملية 7 أكتوبر/تشرين الاول.
فضلا عن حيرة السلطات في طهران مع الانتقام، لا بد من القول إن غارة دمشق كشفت أمرين، أولا: أن إيران تبرع في الهروب من معاركها الوجودية إلى الضجيج الإعلامي والخطاب الدعائي، وأن إسرائيل تغامر في المنطقة استنادا إلى نقطتين هامتين: التفوق العسكري والدعم الأميركي غير المحدود.
ثانيا أن استهداف إسرائيل قادة أمنيين إيرانيين في مكان دبلوماسي، له معنى يتجاوز الاغتيال، إلى كونه كشف اللثام عن حرب متواصلة وغير معلنة تشنها إسرائيل على إيران منذ سنوات، وهي لا ترد، وهكذا تكون قد حشرتها في زاوية ضيقة، كل الخيارات فيها مُرة، فإذا لم تتمكن من توجيه ضربة عسكرية علنية وعلى المستوى نفسه ضدها، فسوف تنهار صورة "دام رعبه" التي عملت على تسويقها على مدى 40 عاما، بمواجهة الشعب الإيراني وشعوب المنطقة، وإذا اختارت الرد المباشر، فسيفتح شهية إسرائيل وحلفائها، وخاصة الولايات المتحدة، على البدء في حرب إقليمية مدمرة، بغض النظر عن كل عواقبها، ستكون هي المهزومة الوحيدة فيها.
وفي المحصلة، تعلم إيران أن الرد عبر الوكلاء سيستدعي مزيدا من الاعتداءات الإسرائيلية، عدا العداءات مع شعوب المنطقة، وفي الوقت نفسه، تدرك مدى خطورة فتح جبهة خارجية، ذلك أنها لا تملك جبهة داخلية آمنة، لوجود صراع عنيف ودموي ومستمر بين السلطات والشعب منذ عقود، خصوصا في السنوات الأخيرة التي شهدت ثلاث انتفاضات شعبية متتالية، وفي مثل هذا الوضع، عندما تكون السلطة معتدية على شعبها، فإن أقل ما يفعله الشعب هو أن ينقلب عليها، حتى لو كان هناك خطر خارجي يهدد البلاد، وفي الحقيقة تشكل هذه النقطة مصدر الحيرة القاتلة للسلطة في طهران، أكثر من كل الغارات الإسرائيلية في سوريا، ومن تحدي الرد المباشر وغير المباشر ومن اختيار نوع الانتقام.

font change

مقالات ذات صلة