اقتراب معركة الـ"يوروبوندز" بين لبنان ودائنيه الدوليين

حكاية "العم أديب" نموذج عن مآسي آلاف العائلات الذين خذلتهم الدولة اللبنانية

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

اقتراب معركة الـ"يوروبوندز" بين لبنان ودائنيه الدوليين

يثق اللبنانيون تاريخيا بإثنين: زعيمهم الطائفي، والمصارف. الزعيم يركز على مصلحته الشخصية ومصالح أبناء طائفته ومذهبه وعشيرته ومنطقته، فضيّع البلاد بفساده المقونن، وحوّل أعرق نظام مالي ومصرفي ليبيرالي في الشرق الأوسط، والأكثر حيوية وديناميكية واتصالا بأسواق المال والأعمال في العالم، إلى صحراء جافة من السيولة يعتريها الإفلاس والفوضى وضياع الثقة والتموضع في أسفل جداول التصنيفات والمعايير الدولية. المصارف من جهتها فعلت ما تجيده، وهو تحقيق الأرباح، فتغاضت عن شراهة الحكومات اللبنانية المتعاقبة وتماديها في استلاف مدخرات الناس التي أودعتها المصارف في مصرف لبنان (البنك المركزي)، فطارت الودائع ورؤوس أموال المصارف معا.

ضاعت ودائع اللبنانيين في فجوة بلغ عمقها 72 مليار دولار، ولم يبق إلا الرؤوس الحامية من أمراء الطوائف في الحكم والحكومة اللبنانية، المنتشين بالشعبوية واصطناع أدوار البطولة، وتسبب القرار العشوائي في مارس/آذار 2020 بالتوقف عن تسديد مستحقات سندات الخزينة للدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية، "يوروبوندز"، لحامليها، بحجة تدني احتياط النقد الأجنبي، بتسريع السقوط المالي والإنهيار النقدي، فيما أهدرت السلطة نفسها، بإذعانها لمشيئة قوى الأمر الواقع، ما يزيد على 10 مليارات دولار، على المحروقات والغذاء والدواء ومواد غير ضرورية، في دعمٍ ملتبس الأهداف والوجهة.

"العم أديب"... حكاية ثقة عمياء بدولة خذلته

حكاية "العم أديب" واحدة من مرويات وقصص مؤلمة صنعتها السياسة الفاشلة في لبنان، ولامبالاة المسؤولين بمصالح مواطنيهم على مدى عقود، وتسلط الأحزاب والقوى الطائفية على مقدرات البلاد. العم أديب مواطن سبعيني قرر أن يعيش فترة تقاعده في بيته الريفي، الذي بناه بمجهود عقود من الهجرة في أفريقيا ليكون له ولعائلته مساحة راحة وأمان، بعد عمر مديد من التعب والغربة والتشتت وأربعين عاما من العمل المتواصل بعيدا من العائلة والوطن.

ضاعت ودائع اللبنانيين في فجوة بلغ عمقها 72 مليار دولار، ولم يبق إلا الرؤوس الحامية من أمراء الطوائف في الحكم والحكومة، المنتشين بالشعبوية واصطناع أدوار البطولة

اضافة الى منزله، كان العم أديب يدخر نحو مئة ألف دولار، وقد اجتهد في أن تكون ذخيرة لآخرته، يعتاش من عائداتها وفوائدها بما يقيه إذلال الشيخوخة. حدس هذا السبعيني، وتجاربه وخبراته، أنبأه بعدم الثقة بالمصارف التجارية اللبنانية، فهي عرضة وفق قوله للإفلاس في أي وقت، وكانت ذاكرته تستحضر دائما أزمة "بنك إنترا"، فغلب الشك لديه على ما كان يقال عن قوة ومتانة النظام المصرفي اللبناني.

أودع الدولة اللبنانية جنى عمره، واشترى بالمئة ألف دولار التي أدخرها سندات "يوروبوندز"، فالدولة لا تفلس وفق ما تربى عليه، و"قرش الدولة لا يموت"، وهي ثقافة يؤمن بها أبناء جيله، ولمَ لا؟ أليس هم من عايشوا وعرفوا عزها وملاءتها أيام كان لبنان يقرض دولة مثل الهند، وليرته متداول بها على كونتوارات المصارف والصيارفة في أوروبا؟

رويترز
ضابط متقاعد في الجيش اللبناني يحمل ورقة الألف ليرة لبنانية، التي لم يعد لها أي قيمة، خلال تظاهرة احتجاجا على الانهيار النقدي والمصرفي وضياع جنى العمر، 20 مارس 2023

عاش العم أديب بعض الأعوام عزيزا، مطمئنا الى كهولته وعجزه، فماله في عهدة الدولة التي لم تمتنع مرة عن تسديد ما عليها، وسمعتها "مثل المسك"، وتاريخها مع الوفاء بديونها ومستحقات مدينيها مصادق عليه محليا ودوليا. بيد أن ما لم يعرفه العم أديب هو أن لبنان تغير، ورجال الدولة الذين يسكنون ذاكرته رحلوا، وسكن مكاتبهم وجلس على كراسيهم آخرون، لا يفقهون غير لغة المصالح الشخصية والحزبية، والحروب العبثية، وتقاسم الدولة ومنافعها، ولا ضير إن سقطت أو انهارت عملتها، فجميعهم أمنوا أموالهم في ملاذات مالية آمنة ومصارف دولية خارج لبنان، وتركوا العم أديب وأمثاله الى مصيرهم القاتم، يتحكم بهم الجوع والضيق والإفلاس.

إقرأ أيضا: "دولة حزب الله"... "اقتصاد الكاش" و"القرض الحسن"

سقطت مالية الدولة في فخ  الديون والتضخم، وفقدت السيولة من المصارف، وانهار سعر صرف الليرة، وأقفلت في وجه العم أديب أبواب الإفادة من سنداته، فتحول بين ليلة وضحاها، جنى عمره وبوليصة آخرته وأمانه التقاعدي، مجرد ورقة تثبت أنه يملك، لكن لا يستفيد، ولديه، لكن ليس "لدينا" لنعطيه.

تتجاهل السلطات اللبنانية منذ 4 سنين موضوع الـ"يوروبوندز" وإعادة هيكلة الدين العام. وهذا تقصير غير مسبوق في التعامل مع الدائنين، وأخطر من التعثر

عادل أفيوني، خبير مصرفي ووزير دولة سابق لشؤون تكنولوجيا المعلومات

لكي تكتمل المشاهد الدرامية في الحكاية، وفي سابقة لم يقدم عليها لبنان مرة واحدة، حتى في اسوأ ظروف الحرب الأهلية ومحطاتها، وتفكك أوصال الدولة، والاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، أعلنت الحكومة اللبنانية التوقف كليا عن دفع مستحقات سندات الـ"يوروبوندز"، بحجة الحفاظ على الإحتياطات بالعملات الأجنبية، وبات على حاملي الـ"يوروبوندز" التكيف مع الإفلاس وانتظار الفرج، ومعاناة مصاريف تأمين الأدوية والاستشفاء وقوت يومهم وتسديد فواتير الطاقة وغيرها، مثلهم مثل العم أديب، الذي تشبه قصته قصص ألوف العائلات اللبنانية، فيما لا يزال كثير منهم يؤمنون بمقولة أن "الدولة لا تفلس"، ويأملون باستعادة أمالهم ذات يوم. فما الذي حدث؟

عواقب سياسة تجاهل الدائنين

يجمع الكثير من الخبراء، بينهم الخبير المصرفي ووزير الدولة السابق لشؤون تكنولوجيا المعلومات عادل أفيوني، أن السلطات اللبنانية تتجاهل منذ أربع سنين موضوع الـ"يوروبوندز" مع أهمية إعادة هيكلة الدين العام. وهذا تقصير غير مسبوق في التعامل مع الدائنين، وأخطر من التعثر. إذ إن تعثر الديون السيادية يحصل في عدد من الدول، ولكن أن تمتنع هذه الدول عن تقديم خطة للإصلاح المالي ولإعادة هيكلة هذه الديون والتفاوض مع الدائنين منذ أكثر من 4 سنوات، فهذه سابقة خطيرة ولها تداعيات مالية وقضائية.

رويترز
متظاهر يحمل العلم اللبناني فوق حاجز، تحول الى حائط مبكى أمام مبنى البنك المركزي في بيروت، 30 مارس 2023

الاتفاق مع الدائنين من مؤسسات استثمارية دولية محترفة، يتطلب من السلطات اللبنانية صدقية في تقديم خطة مالية علمية شفافة، ويتطلب جدية في تنفيذ إصلاحات جريئة وبرنامج دعم مالي من صندوق النقد الدولي والدول المانحة، وهذه من شروط أي اتفاق على إعادة هيكلة الديون الخارجية. لكن السلطات اللبنانية أثبتت للأسف أنها غير قادرة وغير جدية على تنفيذ أي من هذه الشروط، ولذلك تجنبت وتجاهلت حتى اليوم مباشرة مفاوضات جدية مع الدائنين من حاملي الـ"يوروبوندز".

لسياسة تجاهل الدائنين عواقب. لدى المؤسسات الاستثمارية الدولية طرقها في التعامل مع الدول المتعثرة وتحصيل ديونها منها، ومهلة الخمس سنوات لمقاضاة الدولة اللبنانية قد قاربت الإنتهاء

ولكن لسياسة تجاهل الدائنين، عواقب. إذ إن هذه المؤسسات الاستثمارية الدولية محترفة في التعامل مع الدول المتعثرة ولديها الإمكانات والخبرة ووسائل الضغط للوصول إلى نتيجة ترضيها ولا يجوز الاستهانة بها. وهي، وإن تريثت حتى الآن، فإن مهلة الخمس سنوات التي لديها لمقاضاة الدولة اللبنانية قد قاربت الإنتهاء، ولذلك لا مفر من أن تطلق السلطات اللبنانية مفاوضات إعادة هيكلة الـ"يوروبوندز" هذه السنة، والا فستواجه دعاوى قضائية في محاكم نيويورك وغيرها لا تحمد عقباها. فموقف الدولة اللبنانية المتقاعس ضعيف وسوء نيتها واضح والقضاء الدولي لن يتسامح مع هذا النهج.

أسعار الـ"يوروبوندز" في الحضيض

انخفضت أسعار سندات الـ"يوروبوندز" بشكل حاد منذ صيف 2019 وبلغ معدل هذه الأسعار في أكتوبر/تشرين الأول 2019 نحو 75 سنتا، ثم بلغ هذا المعدل آخر السنة 50 سنتا، وهي أسعار تعكس انهيار التصنيف الائتماني للدولة اللبنانية وانهيار ثقة الأسواق بقدرتها على تسديد التزاماتها. واستمر هذا الانخفاض الحاد في مطلع 2020 حيث بلغ معدل الأسعار قبل التعثر نحو 30 سنتا. فقد حكمت الأسواق بتعثر الدولة قبل التوقف الفعلي عن الدفع واستمر انخفاض أسعار السندات بعد التعثر، حتى بلغ اليوم نحو 7 سنتات فقط. والسعر اليوم، لا يعكس التعثر فقط، بل أيضا انهيار الثقة بأي قدرة أو نية للدولة اللبنانية لإعادة هيكلة السندات في المدى المنظور، وهذا حكم مبرم من الأسواق، وفق ما يقول أفيوني. 

ومن المعلوم أن المصرف المركزي يملك 5 مليارات دولار من الـ"يوروبوندز"، أما المصارف اللبنانية فكانت تملك نحو 15 مليار دولار منها عند اندلاع الأزمة، لكنها باعت معظم ما تملك من هذه السندات إلى مؤسسات عالمية أو إلى أفراد لبنانيين عبر مصارف أجنبية. وتشير التقديرات إلى أن المؤسسات الأجنبية باتت تملك نحو 15 مليارا من هذه السندات، والبنك المركزي 5 مليارات دولار، والمصارف المحلية أقل من 3 مليارات دولار، فيما يملك الأفراد اللبنانيون الباقي عبر مصارف.

السؤال ماذا يمكن لحَملة السندات أن يحجزوا من ممتلكات الدولة أو أصولها؟ هل في استطاعتهم الحجز على احتياط الذهب، أو طائرات شركة طيران الشرق الأوسط

ولكن ماذا يمكن لحَمَلة السندات أن يحجزوا من ممتلكات الدولة أو أصولها؟ هل في استطاعتهم الحجز على احتياط الذهب للبلاد، أو طائرات شركة طيران الشرق الأوسط، "ميدل إيست" مثلا، أو تحويلات الدولة إلى الخارج لدفع مستحقاتها؟

الخطر الأكبر

في رأي الوزير السابق أفيوني، فإن حَمَلة سندات الدولة اللبنانية أقرضوا الدولة اللبنانية، لا مصرف لبنان، وهما من الناحية الائتمانية، مؤسستان مختلفتان. إذا قانونا، لا يحق لحملة السندات الحجز على البنك المركزي ولا يحق لهم المطالبة بأصول البنك المركزي. أما ممتلكات الدولة اللبنانية في الخارج فهي محدودة وتتمتع بالحصانة السيادية في كل الأحوال، وهي بمنأى من الحجز، بيد أن إيرادات الدولة من موارد خارجية، عرضة للحجز من حملة الـ"يوروبوندز"، ولكنها كذلك محدودة في الوقت الحالي.

رويترز
اجتماعات حكومية ولجان بلا أي نتيجة. رئيس الحكومة نجيب ميقاتي خلال أحد اللقاءات المتكررة مع وزراء ونواب حاكم مصرف لبنان ومستشارين لم تسفر عن أي حل ناجع، 26 يوليو 2023

أما الخطر الأكبر، في رأي أفيوني، فيكمن في الطروحات المنتشرة في لبنان والتي يتم تسويقها باستمرار في استخدام أصول الدولة لتسديد ديون البنك المركزي تجاه المصارف وفي تحميل الدولة اللبنانية ديونا مستحدثة تجاه البنك المركزي. هذه الطروحات، بغض النظر عن الموقف منها، لها انعكاسات خطيرة على مواقف حَمَلة الـ"يوروبوندز"، يجب التذكير بها ولا يجوز الاستخفاف بها:

أولا، لن يقبل حَمَلة "اليوروبوند" أن تعطي الدولة الأولوية لحَمَلة سندات مصرف لبنان، وأي طروحات لاستخدام أصول الدولة في تسديد ديون المصرف، ستفتح شهية حَمَلة الـ"يوروبوندز" على هذه الأصول انطلاقا من إيمانهم بأحقيتهم فيها. فهم ديّنوا الدولة مباشرة، ومركزهم أعلى في تراتبية التسديد.

إقرأ أيضا: "لعبة الحرب" في اقتصاد لبنان: هل يأبه "حزب الله"؟

ثانيا، ان اعتبار البنك المركزي والدولة اللبنانية مكون واحد من الناحية الائتمانية واستخدام أصول الدولة لصالح دائني البنك المركزي، يمكن أن يعطي حَمَلة الـ"يوروبوندز" عذرا قانونيا للمطالبة بحقهم من أصول البنك المركزي، على اعتبار أنه والدولة حال واحد. حينها، يمكن أن يشكل ذلك خطرا على احتياط الذهب وشركة طيران الشرق الأوسط. من هنا، ثمة ضرورة للفصل بشكل واضح بين الدولة ومصرفها المركزي من الناحية الائتمانية، فأي خلط بين الاثنين سيكون له انعكاساته القانونية غير المحمودة.

لا مفر للبنان من الاتفاق مع الدائنين، ولا اتفاق معهم من دون اتفاق مع صندوق النقد للتمويل، ولا اتفاق مع الصندوق من دون خطة مالية صادقة وإصلاحات جدية

ثالثا، إن استحداث ديون جديدة للدولة اللبنانية تجاه البنك المركزي لم تلحظها المستندات القانونية عند إصدار الـ"يوروبوندز"، يعتبر وفقا لقوانين وأصول أسواق المال، تضليلا للمستثمرين وإخفاء لمعلومات أساسية عنهم. وهذا يعطي حَمَلة السندات الحق في مقاضاة السلطة اللبنانية، واتهامها بالإساءة إلى المستثمرين وتضليلهم، وهي تهمة خطيرة أيضا.

أ.ف.ب.
سيدة تتظاهر وتتحسر في وقفة احتجاجية لموظفين وجنود متقاعدين مطالبين بتعديل معاشاتهم التقاعدية بما يتناسب مع التضخم المفرط، أمام مصرف لبنان، بيروت 30 مارس 2023

وإذا لم ينجح هؤلاء في الادعاء على الدولة، أو إذا نجحوا، فأيّ نتيجة، وأي مصير ينتظر لبنان؟ لا مفر للبنان من الاتفاق مع الدائنين، ولا اتفاق مع الدائنين من دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتمويل هذا الاتفاق، ولا اتفاق مع صندوق النقد من دون خطة مالية صادقة وإصلاحات جدية. والا سيبقى لبنان خارج التمويل الخارجي وسيبقى يستنزف احتياطه حتى آخر سنت من الودائع.

هذا التحذير يكرره الخبراء، منذ سنوات، ولكن بلا جدوى للأسف.

font change

مقالات ذات صلة