"دولة حزب الله"... "اقتصاد الكاش" و"القرض الحسن"

سلوك اللبنانيين ينبئ بمستقبل اقتصادي قاتم

.أ.ب
.أ.ب
مقاتلو "حزب الله" خلال جنازة أحد قادتهم وسام الطويل، الذي قتل في غارة جوية إسرائيلية في جنوب لبنان، 9 يناير 2024.

"دولة حزب الله"... "اقتصاد الكاش" و"القرض الحسن"

شاع ويشيع في لبنان اليوم أن مؤسسة "حزب الله" المالية أو المصرفية المعروفة بـ"جمعية القرض الحسن"، العاملة منذ تسعينات القرن العشرين خارج النظامين المصرفي والمالي اللبنانيين، أنقذت المتعاملين معها من خسارة مدّخراتهم أو حجزها في المصارف جراء الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت لبنان منذ العام 2019. ومنذ ذلك العام تنمو "القرض الحسن"، تتوسع وتتضاعف أعداد زبائنها من مودعين ومقترضين.

الباحث اللبناني - السوري الأصل أو المولد والنشأة الأولى، والأميركي ومدرس الاجتماعيات في جامعة شيكاغو - زهير غزال، يتابع منذ سنتين في بيروت ظواهر التعاملات المالية والحياة الميكرو إقتصادية المستجدة في البلدين المأزومين سياسيا واقتصاديا، لبنان وسوريا. وهو يسعى في الكشف عن صلة الأزمة المالية والاقتصادية بالقيم والعلاقات والموروثات الاجتماعية والثقافية السائدة في البلدين الجارين، للخروج عن العادة المتبعة والسائدة في الأبحاث والمقاربات التي تحصر عالمي المال والاقتصاد بالأرقام والإحصاءات المجرّدة والمعزولة عن التاريخ الاجتماعي والثقافي ونظام القيم الذي يلابسهما.

وكان غزال قد نشر كتابا في النظام القانوني والقضائي في سوريا، يندرج في هذه الوجهة: الكشف عن الصلة بين الجرائم الجنائية والزمن ونظام القيم الاجتماعيين. ونُشر الكتاب في "المعهد الفرنسي للأبحاث المشرقية" في بيروت سنة 2015، وفي عنوان "جريمة الكتابة - روايات جنائية أيام البعث السوري". أما ما يتابعه غزال اليوم في بيروت فيندرج في اجتماعيات التعاملات المالية والنقدية والاقتصادية السائدة في لبنان في خضم أزمته المستمرة. وهو يجمع مادة ميدانية ووثائقية عن ظواهر ثلاث: شيوع اقتصاد العملات السائلة (الكاش) في التعاملات المالية والاقتصادية اللبنانية، وأثره على الحياة الاجتماعية، وحضور مؤسسة "حزب الله" المالية، "القرض الحسن"، في هذه التعاملات، وكيفية تعامل اللبنانيين مع قانون الإيجارات الجديد وأشكال تطبيقه الفوضوية إداريا وقضائيا جرّاء الأزمة المالية الراهنة.

إن التغيير والثورات يبدآن في عالم المال وتداول العملات، وليس في الاقتصاد ولا في المجتمع

مارسيل موس، باحث إنثروبولوجي فرنسي (1872- 1950)

التقت "المجلة" الباحث زهير غزال، فاطلعت منه على متابعاته أوضاع "القرض الحسن" وصلتها بالمتعاملين معها، ثم حاورته في ما يتعلق بنظرته إلى ما يسميه "اقتصاد الكاش" ومجتمعه السائد في لبنان اليوم. وهو استهل حديثه باستعادته مقولة الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي مارسيل موس (1872- 1950) ابن شقيقة مؤسسة علم الاجتماع التطبيقي، الفرنسي الشهير إميل دوركهايم (1858- 1917). ولخص غزال مقولة موس التي تعود إلى عشايا الحرب العالمية الأولى (2014- 2018)، والقائلة إن التغيير والثورات يبدآن في عالم المال وتداول العملات، وليس في الاقتصاد ولا في المجتمع. وحين تحدث عن "جمعية مؤسسة القرض الحسن"، أشار إلى أنها لم تنشأ كمؤسسة مالية ولا بناءً على قانون النقد والتسليف اللبناني الذي وضع سنة 1961 مع إنشاء مصرف لبنان، بل هي نشأت بصفتها جمعية اجتماعية تعاضدية، على ما ردد زعيم "حزب الله" حسن نصر الله قائلاً إنها "تأسست سنة 1982، عقب الاجتياح الإسرائيلي لبنان، لتكون رافدا من روافد المقاومة، ولتعزيز روح التضامن والتكافل والتعاون" في إطار "العمل المقاوم".

حزب ومؤسسات بمفعول رجعي

ذكر غزال أن الجمعية هذه نشأت وحازت ترخيصها القانوني والإداري بناءً على قانون الأحزاب والجمعيات في لبنان، الذي وضع في نهايات الزمن العثماني الذي استقى روحه من الحداثة الأوروبية في زمن الإصلاحات العثمانية المعروفة بـ"التنظيمات" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وتأكيدا لمقولة موس، لاحظ كاتب سيرة كمال أتاتورك، الباحث المصري مدحت عبدالرازق ("أتاتورك وما خفي..!" في طبعة ثانية، 2023، "الرواق للنشر والتوزيع"، القاهرة)؛ أن "الاهتمام بوسائل ووسائط المواصلات والاتصالات وبالخدمات البريدية الحديثة وبخطوط السكك الحديد في السلطنة العثمانية، فرضه الانفتاح الاستثماري على أوروبا، بالتزامن مع ظهور البنوك سنة 1856، وافتتاح البنك العثماني الذي أصبح أهم مؤسسة مصرفية في الدولة العثمانية، برأسمال بريطاني - فرنسي مشترك، أدى إلى سيطرة بنوك أوروبية على الاقتصاد العثماني سيطرة كاملة".

الموقع الإلكتروني لـلجمعية
"من الناس للناس" شعارات لـ "جمعية مؤسسة القرض الحسن" تذكر بشعارات المصارف اللبنانية المفلسة

يعيد "حزب الله" نشأة "قرضه الحسن" إلى سنة 1982. ويربطها باجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان صيف تلك السنة. وكاقتباسه اسمه، اقتبس تلك التسمية من القرآن الكريم: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم" (سورة الحديد، الآية رقم 11).

لكن زهير غزال ذكر أن نشأة "القرض الحسن" غير موثقة في العام 1982. والأرجح أن "حزب الله" - وهو لم يكن قد ولد في ذاك العام، بل كان لا يزال جنينا في رحم ذاك الحدث الكبير والمدمر: اجتياح إسرائل لبنان واحتلالها بيروت - رغب إن يؤرخ بأثر رجعي لتأسيسه الرسمي المعلن سنة 1985، كي يربطه عضويا بذلك الحدث التاريخي الكبير السابق لولادته، والذي جعله "حزب المقاومة" أو "الحزب المقاوم".

كان "حزب الله"، جنين الثورة الإيرانية الخمينية، بكرها ودرتها اللبنانية لاحقا، مجموعات إرهابية تعد إنتحاريين وتعمل في السر والخفاء. أما مؤسساته الاجتماعية، المنسوخة بأسمائها وعملها وتنظيمها عن إيران الخمينية، فلم تكن قد ولدت بعد

وبين التاريخين (1982 – 1985) كان"حزب الله"، جنين الثورة الإيرانية الخمينية، بكرها ودرتها اللبنانية لاحقا، مجموعات ارهابية تُعِدُّ انتحاريين وتعمل في السرّ والخفاء. أما مؤسساته الاجتماعية، المنسوخة بأسمائها وعملها وتنظيمها عن إيران الخمينية، فلم تكن قد ولدت بعد. ومنها درّتها "جهاد البناء" وسائر المؤسسات الأخرى التي تدور تسمياتها ونشاطاتها حول "الشهداء".

استثمار في الحرب وأوهام السلام

ولاحظ غزال أن نحو 4,5 مليارات من الدولارات دخلت إلى المصارف اللبنانية ما بين العامين 1982- 1984، معللا ذلك بأن كثيرين من المهاجرين اللبنانيين في الخارج، أسوة بمستثمرين عرب، ظنوا أن اجتياح الجيش الإسرائيلي لبنان وترحيل مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية منه، يضعان خاتمة للحروب اللبنانية والملبننة.

الموقع الإلكتروني للجمعية
"عنا فيك تفتح حساب" نموذج عن ترويج "القرض الحسن" في وقت لا تفتح المصارف اللبنانية حسابات جديدة للعملاء

لكن استئناف تلك الحروب طوال الثمانينات، أذن بتهاوي قيمة العملة اللبنانية. في الوقت نفسه شهدت الليرة السورية أيضا انهيارا في قيمتها لأسباب مختلفة، ربما بسبب ارتباط النظام السوري بالنظام السوفياتي (وما أشبه الأمس باليوم).

أما التسجيل الرسمي لـ"جمعية القرض الحسن" في وزارة الداخلية اللبنانية بصفتها جمعية تعاضد اجتماعي، فحدث سنة 1992. وهي بدأت بقبول إيداعات مالية فيها، بلا تقاضي المودعين أية فائدة! ومن ثم راحت تمنح قروضا لا تتجاوز قيمة القرض الواحد منها 10 آلاف دولار، وقيمة معظمها ما بين 5-6 آلاف دولار، في مقابل رهن أو إيداع المقترضين لدى المؤسسة مجوهرات خاصة تتجاوز قيمتها النقدية قيمة القرض.

المحطتان الأساسيتان في توسع نشاطات مؤسسات "حزب الله": انسحاب الجيش الإسرائيلي من شريط جنوب لبنان الحدودي سنة 2000، وحرب تموز/ يوليو 2006

ومع تطور مؤسسات "حزب الله" وتوسع نشاطها، جراء تزايد قوة الحزب إياه الأمنية والعسكرية، الاجتماعية والسياسية، وحصده "الانتصار" تلو "الانتصار" في "مقاومته" في ضاحية بيروت الجنوبية وفي جنوب لبنان، وتوظيفها شقاقا في المجتمع اللبناني؛ مع ذلك توسعت نشاطات "جمعية القرض الحسن" المالية. وقد تكون المحطتان الأساسيتان في انتصارات مؤسِسِها وتوسع نشاطاتها: انسحاب الجيش الإسرائيلي من شريط جنوب لبنان الحدودي سنة 2000، وحرب تموز/ يوليو 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل.

الاستنزاف و"اقتصاد الكاش"

ويرى غزال أن الاقتصاد اللبناني، قبل بداية انهياره سنة 2019، كانت نسبة كبيرة من تعاملاته المالية تستخدم العملات السائلة أو المحمولة (الكاش). وذلك مقارنة بالتعاملات السائدة في الدول المتقدمة التي تستخدم البطاقات والتحويلات المصرفية. وتشير الإحصاءات إلى أن من كانوا يملكون حسابات مصرفية قبل العام 2019، لا تتجاوز نسبتهم 40 في المئة من اللبنانيين. وربع هؤلاء مقيمون خارج لبنان وغير لبنانيين، فضلوا إيداع أموالهم في المصارف اللبنانية التي كان يبلغ عدد ودائعها 209 ملايين وديعة.

أ.ف.ب.
صراخ المودعين في المصارف اللبنانية لم يهدأ منذ أكثر من أربع سنين

ويبدو أن هذا التدفق المالي إلى المصارف اللبنانية، كان أصحابه يعلِّقون أمالا كبارا على السلام اللبناني والإقليمي والدولي الواعد في التسعينات السعيدة في العالم كله. لكن، فيما كان أصحاب تلك الأموال يستثمرون في السلام، سرعان ما تكشّف السلام عن وهم. ربما بفضل ما سُمى معسكر الممانعة (على رأسه "حزب الله" في لبنان) الذي راح يستثمر في حروب استنزاف مديدة تكشفت أخيرا عن ذاك الإفلاس اللبناني الكبير في العام 2019.

غير أن أقل من ربع أصحاب تلك الودائع في زمن السلم الواعد والساهي عن الاستنزاف المتواصل، كانوا يجيدون استعمال ودائعهم بطلاقة أو على نحو عملي. ذلك لأن استخدام الودائع المصرفية بطلاقة يحتاج إلى دراية وثقافة في عالم المال والأعمال والعلاقات العامة والاستثمار والاستهلاك. ومقارنة بتركيا وإسرائيل وبلدان أوروبا، حيث 95 في المئة من السكان لديهم حسابات مصرفية، يبدو لبنان ضعيفا في هذا المجال، وإن كان متقدما مقارنة بالبلدان العربية المجاورة.

ففي سوى التعاملات الكبرى وشراء العقارات وبيعها، كان لبنان يعتمد على العملات النقدية (الكاش) في حياته الاقتصادية. وهذا ما كرسه على نحو واسع وكبير وشامل تقريبا الانهيار المالي والاقتصادي الذي ضرب البلاد في العام 2019، وأصاب القطاع المصرفي وخزينة الدولة إصابة قاتلة، أخرجهما من الاقتصاد العالمي وتعاملاته المالية والمصرفية.

تحجز كل المصارف مدخرات اللبنانيين وودائعهم بالدولار منذ 2019، ولا تسمح لهم سوى بسحب 400 دولار في الشهر، بالكاد تكفي لمصاريفهم الضرورية

يعني مجتمع "اقتصاد الكاش" أولًا انعدام الثقة بالتعاملات المصرفية، وتخزين الناس مدّخراتهم بالدولار وسواه من العملات الصعبة في بيوتهم، وإقلاعهم عن استثمارها في أي من مجالات الأعمال والاقتصاد. ويعني ثانيا انكماشا كبيرا في الاستهلاك، واقتصار تعاملاتهم وشراء حاجاتهم اليومية على العملة السائلة. ويعني ثالثا تحويل المصارف إلى شركات مالية محلية ضعيفة الصلة بالعالم الخارجي. وإذا أضفنا إلى هذا كله الانهيار الكبير لقيمة العملة الوطنية اللبنانية التي أقلع الناس عن ادخارها وقصروا تعاملهم بها على الضرورات القصوى والمفروضة عليهم في مجالات محددة، نرى أن الحياة المالية والاقتصادية في لبنان قد تحولت في معظمها إلى التعامل النقدي الورقي.

مظاهر مجتمع "اقتصاد الكاش"

وهذا يفسر مشاهد حمل جماعات واسعة من اللبنانيين كميات كبيرة من أوراق النقد اللبناني في أكياس أو في حقائب سفر صغيرة، لتسديد الرسوم العقارية والضريبية في المؤسسات الرسمية، فيما تحجز المصارف مدخراتهم وودائعهم بالدولار منذ العام 2019، ولا تسمح لهم سوى بسحب 400 دولار كل شهر، بالكاد تكفي لمصاريفهم الشهرية الضرورية. فرسوم انتقال إرث عقاري، تستلزم مثلا حمل مئات ملايين من الليرات اللبنانية، والوقوف في صف طويل من الناس أمام الدوائر العقارية والمالية الرسمية، التي تعتمد في إدارتها دفاتر قيد قديمة متآكلة، فيما يُضرِب موظفو هذه الدوائر عن العمل طوال أشهر، لأسباب معيشية، فلا يعمل فيها بالمداورة اليومية سوى عدد ضئيل من الموظفين المفقرين واليائسين.

إقرأ أيضا: "حزب الكاش"

مثل آخر على التعاملات المالية بالعملة اللبنانية السائلة في الدوائر الحكومية، من وزارة المال إلى الدوائر العقارية إلى وزارة الطاقة... إلخ: دفع غرامة سير لا تتجاوز 500 ألف ليرة لبنانية (5 دولارات)، يكاد يستغرق أيام أسبوع كامل من المراجعات سدىً وبلا جدوى مع شركة "ليبان بوست" أو البريد، التي تفتقد فيها الطوابع المالية، إلى دائرة السير في قوى الأمن الداخلي التي ترفض تقاضي قيمة غرامة السير، وتطلب تسديدها في وزارة العدل، حيث يصطف يوميا مئات من الناس لتسديدها. هذا علما أن مخالفات السير في الشوارع لا تخضع لأي نظام مفهوم في فوضى الحياة اليومية واضطرابها. ويبدو أن وزارة الداخلية أمرت عناصر شرطة السير بتسطير مخالفات في الشوارع كيفما اتفق، بغية تحصيل أموال أو إتاوات مالية من أصحاب السيارات، لتوفير بعض المال للخزينة العامة!

ويعيش مجتمع "اقتصاد الكاش" والفوضى العارمة في لبنان حياة يشوبها تذمر يائس مستمر، صار من لزوميات الحياة اليومية العادية. وهو تذمر كثير المسببات والعوامل المختلطة: من ضيق ذات اليد، وتآكل قيمة المرتبات الشهرية في المؤسسات الحكومية، إلى خراب المؤسسات الرسمية وإضرابات موظفيها على نحو دائم، وإلى استنقاع الوقت وضياعه في دورة حياة يومية مضطربة ومرهقة... يخيم عليها اليأس بلا أفق للخروج منه، إلا بالهجرة التي لم تعد متوفرة إلا لقلة من الشبان والشابات.

جمعية تعاضدية بدل المصارف الهالكة

ولتكتمل صورة مجتمع اقتصاد الكاش، برز دور المؤسسة المالية لدولة "حزب الله" اللبنانية، أي "جمعية القرض الحسن"، ويقول أهل المناصب في هذه الدولة، إنها في أحسن حال، وأعمالها توسعت، وهي تروج انها أنقذت مودعيها والمتعاملين معها من المصائب والويلات التي ضربت المتعاملين مع القطاع المصرفي الذي كان درّة الاقتصاد اللبناني النشيط والمزدهر، وانهار إلى حضيض لم يدرك قاعه بعد منذ العام 2019.

منذ 2020 شرعت "القرض الحسن" بتقديم خدمات الصراف الآلي في فروعها التي تكاثرت في التجمعات السكنية الشيعية أولًا، قبل أن تتمدد إلى مناطق أخرى في بيروت وجبل لبنان، حيث التجمعات السنية والمسيحية

وتشير الإحصاءات إلى أن ستة مليارات دولار سُحبت من المصارف اللبنانية قبيل الأزمة المالية سنة 2019 وفي بداياتها، أودع بعضها في "القرض الحسن"، المؤسسة المالية التي راح "حزب الله" يكثف إعلاناته أنها لم تتأثر بالأزمة المالية والمصرفية، وتدعو اللبنانيين إلى إيداع أموالهم فيها لتكون بأمان. وفي العام 2021 أعلن حسن نصر الله أن "القرض الحسن" قدمت منذ تأسيسها 3,7 مليارات دولار قروضا ميسرة لـ 1,8 مليون شخص.

ويرى زهير غزال أن هذه المؤسسة المالية تتلاعب بالألفاظ: تسمي نفسها جمعية تعاضدية، وهي مصرف من نوع خاص. كما أنها تطلق كلمة "مساهمين" على من يودعون أموالهم فيها وعلى من يقترضون منها مبالغ مالية. وغداة الأزمة المالية أطلقت برامج جديدة لتلبية من يشاؤون البدء بمشاريع زراعية وصناعية وحرفية. وهذا فيما كان نصر الله يدعو إلى ما سماه "الجهاد الزراعي" إبان كثرة الكلام على أن الأزمة اللبنانية ستؤدي إلى فقر مدقع يبلغ حدّ الجوع.

ومنذ العام 2020 شرعت "القرض الحسن" بتقديم خدمات الصراف الآلي في فروعها التي بدأت تتكاثر في التجمعات السكنية الشيعية أولا، قبل أن تتمدد إلى مناطق أخرى في بيروت وجبل لبنان، حيث التجمعات السنية والمسيحية، فارتفع عدد فروعها إلى أكثر من 30 فرعا، وتجاوز عدد موظفيها 500 موظف. وراح موقع الجمعية الإلكتروني يعلن أن "القرض الحسن" قدمت مئات ملايين من الدولارات قروضا "لتلبية حاجات الناس الملحة، ووفق آليات لا تباطؤ فيها، ولا تشبه إطلاقا ما يجري في عالم المصارف". وفي تقرير نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" قبل أقل من شهرين، ورد أن مؤسسات "حزب الله"، شرعت في صرف نحو 20 مليون دولار شهريا للمتضررين في الحرب التي يخوضها الحزب منذ 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

قروض ومجوهرات وولاءات

لكن كيف تعمل مؤسسة "القرض الحسن"؟ لا بد من الإشارة أولًا إلى أن هذه المؤسسة هي واحدة من مؤسسات ما أطلق عليه وضاح شرارة "الدولة الملّيّة الحديثة" في كتابه "طوق العمامة" عن إيران الخمينية التي يسيطر حرسها الثوري على 65 في المئة من اقتصادها، وربما على نسبة أعلى من ذلك بكثير من قرارها السياسي والأمني. أما "حزب الله" فيبدو أنه أنجز الكثير على طريق صيرورته "حرس لبنان الثوري". و"القرض الحسن" هي بديله عن القطاع المصرفي، على ما تقول إعلاناتها.

الموقع الإلكتروني لـلجمعية
ترويج "القرض الحسن" في مقابل إيداع المصوغات الذهبية للناس و"قيمتك أغلى"

تقول المؤسسة إنها تقدم قروضا مالية بالدولار "الكاش" طبعا بلا أية فوائد. وغالبا ما لا تتجاوز قيمة القرض الواحد 10 آلاف دولار، ومعظمها يتراوح ما بين 3- 7 آلاف دولار. وذلك لقاء إيداع كل مقترض مجوهرات ثمينة خاصة لدى المؤسسة، تتجاوز قيمتها المبلغ الذي يقترضه منها، على أن يُسدَّد القرضُ شهريا على مدى 30 شهر غالبا، وتكون المجوهرات في أثنائها مرهونة ويستعيدها صاحبها من المؤسسة عندما يسدّد المبلغ الشهري الأخير من قرضه.

لكن هذه القروض التي تقول "القرض الحسن" إنها بلا فوائد، من شروطها أن يدفع المقترض 3 دولارات شهريًا تسميها المؤسسة التعاضدية "تكاليف إدارية"، إضافة إلى دفعه 12 دولارا شهريا تسمى "رسم تخزين المجوهرات" المرهونة التي تتجاوز قيمتها قيمة القرض المالي.

"اقتصاد الكاش" المتفشي يخنق الحياة الاقتصادية، و"القرض الحسن" التي تنشئ روابط متينة بين المتعاملين معها، يتحكم بها حزب ملّي قطع شوطا واسعا على طريق القبض على مصير الدولة والاقتصاد

المقترضون في معظمهم من أصحاب الحاجات الملحة: ربعهم يقترض لسداد ديون، و6 في المئة منهم لسداد بدلات سكن. وأكثر منهم لتركيب تجهيزات الطاقة الشمسية بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وهناك قروض للاستشفاء، وأخرى لسداد تكاليف دراسة الأبناء. وهذا يعني أن كثرة من المقترضين قد لا يستطيعون سداد قروضهم، ما دامت غير استثمارية، بل لحاجات ضرورية وملحة عاجزون أصلا عن تأمينها. وفي هذه الحال يفقد المقترض المجوهرات المرهونة والمخزنة في المؤسسة التي تمتلك حرية التصرف بها، ما دام هذا المقترض أو ذاك عجز عن سداد قرضه.

أنواع القروض

وهناك ثلاثة أنواع أخرى من القروض: مقابل ضمان أو كفالة من أثرياء على صلة بـ"القرض الحسن" أو بـ"حزب الله". ومثل هذه الضمانات أو الكفالات تعني أن المقترض صار مشدودا برباطٍ مادي ومعنوي إلى كفيله الثري. النوع الآخر من القروض ضمانها أن يشتري المقترض سلعا وخدمات من مؤسسات وشركات أبرمت عقودا مع "جمعية القرض الحسن". والنوع الثالث هي قروض جماعية لموظفين وعاملين في مؤسسات وشركات مقربة من "حزب الله"، أو تدور في فضائه الاجتماعي والمالي، وترتفع قيمة هذه القروض الجماعية إلى نحو 30 ألف دولار، يرهن الحاصلون عليها مجوهرات لدى المؤسسة، وغالبا ما يستعملون قروضهم الجماعية في أعمال استثمارية تدور في فضاء "حزب الله" الاجتماعي.

مجوهرات حميمة واقتصاد حرب

ينشغل الباحث غزال في جمع مادة بحثية عن اجتماعيات "اقتصاد الكاش" وعمل جمعية "القرض الحسن". وهو يرى أن هذين الاقتصاد ومؤسسة "حزب الله" المالية يساهمان - مع انسحاب المصارف من الحياة الاقتصادية، وخواء الحياة السياسية والقوى الاجتماعية في لبنان - مساهمة أساسية في احتضار الدولة اللبنانية وموتها. فاقتصاد الكاش المتفشي على نطاق واسع، يضيّق الحياة الاقتصادية، يبطِّئها ويخنقها ويقصرها على تلبية حاجات ضرورية آنية. وهذا ما تفعله "القرض الحسن" التي تنشئ روابط عضوية قوية بين المتعاملين معها، المنكفئين إلى علاقات داخلية تضامنية يتحكم بها حزب ملّي قطع شوطا واسعا على طريق القبض على مصير الدولة اللبنانية، وتحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد أسود شبه حربي.

الموقع الإلكتروني للجمعية

ما يحاول غزال دراسته هو السلوك الاقتصادي والمالي والذهني للبنانيين في ظل هذه الظروف. أي ماذا يعني مثلا أن يحصل شخص ما على قرض مالي بالدولار لتلبية حاجات ضرورية، لقاء إيداعه مقتنيات خاصة، بل شديدة الخصوصية وحميمة (مجوهرات عائلية ترتبط بحياته العائلية والزوجية لدى مؤسسة مالية حزبية يديرها حزب وظيفته الأساسية المعلنة هي ضلوعه بحرب داخلية ملّية، وأخرى إقليمية، تديرهما دولة خارجية ملّية بدورها)؟!

إقرأ أيضا: لبنان الانفصام والانقسام

أما في ما يتعلق بتفشي "اقتصاد الكاش"، فتنصب الدراسة أيضا على فهم ما ينشئه هذا الاقتصاد من روابط وذهنيات وتبادلات ضيّقة ومنكفئة، في مجتمع تتداخل فيه أزمات منفلتة لم تعد قابلة للسيطرة عليها، في ظل موات سياسي عام وتصدّع مؤسسات الحكم والدولة وخرابها.

font change

مقالات ذات صلة