السياسات الاقتصادية السورية نحو مزيد من التقشف والظلم الاجتماعي

فهم الأسد لدور القطاع الخاص ورفع الدعم يترجم بتعزيز سلطة النظام وشبكات المحسوبية التابعة له

السياسات الاقتصادية السورية نحو مزيد من التقشف والظلم الاجتماعي

في نهاية شهر مارس/آذار 2023 المنصرم، عقد اجتماع بين الرئيس السوري بشار الأسد وأساتذة الاقتصاد المنتمين إلى حزب البعث من مختلف الجامعات الحكومية. تناول الأسد في هذا "الحوار" كما وصفته مختلف الصحف في البلاد، عددا من الموضوعات والأهداف. ويُظهر محتوى النقاش والحجج التي قدمها الأسد والاقتصاديون البعثيون مرة أخرى استمرار تعميق التوجه الاقتصادي الليبيرالي الجديد لاقتصاد البلاد وتبرير التدابير التقشفية الجديدة والمستقبلية. ولا شك في أنه سيكون لهذه السياسات عواقب سلبية على المواطنين السوريين.

في الاجتماع، ذكر الأسد بداية أن وضع الحلول لتحديات البلاد ومشاكلها هي عملية تراكمية يؤدي الحوار فيها دورا رئيسا لأنه يوفر الرؤية والسياسات الصحيحة. ثم تناول مختلف القضايا التي تؤثر في المجتمع. وشدد أن "أولى مطالب الفقير هي فرصة العمل"، لأنه في حال تحقّق الدعم وتمّ تثبيت الأسعار من دون وجود عمل فسيبقى فقيراً. وأضاف، إذاً، فالأولوية هي لفرص العمل بالنسبة لأي مواطن فقير، كي يستطيع أن يرفع مستواه المعيشي ويصبح ضمن "الطبقة الوسطى". وقدم الأسد الحجة لصالح سياسات اقتصادية شاملة تشمل كل طبقات المجتمع، من الفقراء إلى الأغنياء، لأن لديهم مصالح مشتركة. وفي هذا الإطار أكد أن فكرة الصراع الطبقي فكرة غير صحيحة.

"الاشتراكية المرنة"

وتابع الأسد حديثه قائلاً: "الاشتراكية بالنسبة لنا هي ليست الاشتراكية بمفهوم كارل ماركس التي هي ملكية وسائل الإنتاج، بل الاشتراكية بالنسبة لنا هي عدالة اجتماعية، وهي منصوص عليها في الدستور بشكل آخر". وعلى نحو مماثل لفكرة المصالح المشتركة بين الطبقات التي ذكرها، أضاف أن "العدالة الاجتماعية هي تكافؤ الفرص بين مختلف الشرائح، الأفقر والأغنى..." وأوضح، أن حزب البعث سيظل مع ذلك "حزبا اشتراكيا"، مع أننا نحدد ما هي السياسات التي تؤدي إلى العدالة الاجتماعية وسنكون "غير مقيدين ومرنين". وعن دور حزب البعث على العموم في المسائل الاقتصادية والاجتماعية في المستقبل، ذكر أنه يجب التعامل مع قضايا مثل الإصلاحات المتعلقة بسياسات الدعم ودور القطاعين العام والخاص في عملية التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى تعزيز الشراكة الفاعلة بين القطاعين.

تعكس ملاحظات بشار الأسد، بالنسبة لأي اقتصادي جاد يتابع التنمية الاقتصادية في سوريا، التوجه الاقتصادي الليبيرالي المستمر للاقتصاد السوري منذ بداية حكمه في سنة 2000

تعكس ملاحظات بشار الأسد، بالنسبة لأي اقتصادي جاد يتابع التنمية الاقتصادية في سوريا لعقود مضت، التوجه الاقتصادي الليبيرالي الجديد المستمر للاقتصاد السوري منذ بداية حكمه في سنة 2000. ففي سنة 2005، اعتمد استراتيجيا "اقتصاد السوق الاجتماعية" الاقتصادية الجديدة في المؤتمر الإقليمي العاشر لحزب البعث، وهي تنص، بشكل رئيس، على أن القطاع الخاص وليس الدولة، سيصبح شريكا وقائدا في عملية التنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل. وكان الهدف تشجيع تراكم رأس المال الخاص من خلال تسويق الاقتصاد بصورة رئيسة، بينما انسحبت الدولة من مجالات رئيسة لتقديم الرعاية الاجتماعية، مما أدى إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل.

ترافقت تدابير التحرير هذه بالفعل مع خفض الدعم، ووقف التوسع في وظائف القطاع العام، وتقليص دور الدولة في الاستثمار المحلي. وشهد الإنفاق على الضمان الاجتماعي تراجعا كبيرا بسبب الخفوضات التي طرأت على نظام التقاعد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لم يرتفع الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم بما يتناسب مع النمو السكاني. في هذا الإطار، شرعت الحكومة في التخصيصية التدريجية للمدارس، وخصوصا الجامعات والكليات، والرعاية الصحية. وترافقت هذه العملية مع انخفاض الخدمات الصحية العامة كمّا ونوعا، مما أجبر السوريين على اللجوء إلى القطاع الخاص للتمتع بالخدمات الأساسية. على نحو مماثل، شجعت الحكومة على تخصيص النظام الصحي، ولا سيما بمحاولة تحويل الوحدات الطبية إلى وحدات اقتصادية مستقلة تعتمد على مواردها الخاصة بتقاضي رسوم في مقابل الخدمات. أتاح ذلك للمستشفيات العامة مثلا تخصيص جزء من أسرّتها للقطاع الخاص والتمتع بالمرونة في فرض الرسوم.

.أ.ف.ب
افتتاح مؤتمر حزب البعث السوري في يونيو 2005، يومها تعهد الرئيس بشار الأسد بتعزيز الإصلاح ومحاربة الفساد.

جاءت هذه السياسات على حساب الغالبية العظمى من الطبقات الشعبية في سوريا، التي تأثرت بالتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. تجلى ذلك أيضا في قانون العمل رقم 17 الذي أصدرته الحكومة في سنة 2010 لتنظيم العلاقات بين العمال وأصحاب العمل في القطاعين الخاص والعام والتعاونية. يميل هذا القانون بشكل واضح لصالح أصحاب العمل على حساب العمال، إذ يمنحهم بشكل ملحوظ الحق في إنهاء خدمة عمالهم من دون أي مبرر ومنحهم تعويضا محدودا فقط بموجب المادة 64 من القانون.

استراتيجيا محل استراتيجيا...

لم يوقف اندلاع الانتفاضة في سنة 2011 هذه القوى المحركة التي تفضل تراكم رأس المال الخاص وتقلل المسؤوليات الاجتماعية للدولة، بل على العكس. في فبراير/شباط 2016، أعلنت الحكومة السورية استراتيجيتها الجديدة للاقتصاد السياسي تحت مسمى "الشراكة الوطنية"، التي حلت محل استراتيجيا "اقتصاد السوق الاجتماعية" السابقة. ومن الجوانب المركزية للإستراتيجيا الجديدة، قانون "التشاركية بين القطاعين العام والخاص" الذي صدر في يناير/كانون الثاني 2016، بعد ست سنوات من صياغته، وهو يخول القطاع الخاص إدارة أصول الدولة في جميع قطاعات الاقتصاد وتطويرها بوصفه مساهم غالبية/ مالكا، باستثناء قطاع استخراج النفط. وصرح وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السابق همام الجزائري بأن القانون يشكل "إطارا قانونيا ينظم العلاقة بين القطاعين العام والخاص ويلبي الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية المتنامية التي تشهدها سوريا، خاصة في ترميم وإعادة تأهيل وتطوير وتوسيع البنى التحتية"، كما أنه يتيح الفرصة للقطاع الخاص "بالإسهام في عملية التنمية الاقتصادية كشريك أساس وفاعل، وكذلك تعزيز تطوير القطاع العام من خلال الشراكة مع القطاع الخاص التي ستأخذ علاقة تعاقدية لمدة زمنية محددة".

جاءت هذه السياسات على حساب الغالبية العظمى من الطبقات الشعبية في سوريا، التي تأثرت بالتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة

إن استعداد الحكومة للمزيد من الخصخصة في الاقتصاد، يشمل القطاعات الاجتماعية الرئيسة أيضا، مثل نظام الصحة والتعليم. ففي منتصف مارس/ آذار 2024، عُقدت ندوة حوارية في جامعة دمشق تحت عنوان "الاستثمار في القطاع الصحي - الإمكانات والأهداف"، بمشاركة وزير الصحة الدكتور حسن الغباش، والمسؤولين الحكوميين، وممثلين عن قطاعي الأدوية والتأمين، وأعضاء نقابة الأطباء ونقابة الصيادلة. وصرح وزير الصحة ومعاونه بأن الوزارة بدأت العمل على تحويل جميع المستشفيات إلى هيئات عامة ومستقلة لها خصوصيتها الإدارية والمالية، بالإضافة إلى إجراءات لدراسة نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص لإدارة المرافق الطبية. وثمة قوى محركة مماثلة تستهدف قطاع التعليم أيضا. فبعد أسبوعين من الندوة الحوارية المذكورة أعلاه، عقدت جامعة دمشق ندوة بعنوان "الاستثمار في التعليم"، في حضور مسؤولين من وزارة التربية، ورئيس الاتحاد الوطني لطلبة سوريا وممثلين عن القطاع.

.أ.ف.ب

كما اتخذت خطوات مماثلة للمزيد من الخصخصة في قطاع الطاقة. على سبيل المثل، القانون رقم 41 لعام 2022، الذي أدخل تعديلا على بعض أحكام قانون الكهرباء رقم 32 لعام 2010، بتعديل المواد 9 و14 و30، يمنح مزيدا من السلطة التعاقدية لشركات الكهرباء الحكومية في المحافظات ويسهل شروط بيع الكهرباء التي ينتجها القطاع الخاص للمستهلكين - وهما إجراءان يشجعان الاستثمار الخاص في هذا القطاع. وفي إطار هذا القانون، منحت الحكومة شركة سورية، من دون الكشف عن اسمها أو تفاصيل العقد الأخرى، إدارة محطة دير علي لتوليد الطاقة الكهربائية بموجب قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

الكهرباء ونظام "الأمبير"

وهذه المحطة، التي تقع بالقرب من دمشق، هي واحدة من أحدث وأكبر محطات توليد الكهرباء في البلاد، إذ تنتج 930 ميغاواط من إجمالي إنتاج البلاد المعلن البالغ 2000 ميغاواط. مع ذلك، فإن استخدام نظام "الأمبير" هو الذي توسع حاليا في جميع أنحاء البلاد، متجاوزا مدينة حلب التي ظهر فيها للمرة الاولى نتيجة الدمار الواسع في البنى التحتية لمحطات توليد الطاقة الكهربائية، وعدم قدرة الحكومة على تأمين الكهرباء. ومع أن الحكومة السورية نفت في البداية في أكثر من مناسبة منح تراخيص رسمية للعمل بهذا النظام، فإنها اعترفت في مايو/ أيار 2023 بأن استخدام نظام الأمبير أصبح "أمرا واقعا" وفقا لمصدر في وزارة الكهرباء تحدث إلى جريدة "الوطن". على سبيل المثل، في صيف سنة 2023، سلّمت محافظة دمشق رسميا قواعد الترخيص لمزودي الكهرباء.

في هذا الإطار، وتعزيزا لهذه القوى المحركة، لم يكن من المستغرب أن يشمل موضوع الدعم والسياسات الداعمة، المناقشات بين الأسد والاقتصاديين البعثيين في الاجتماع الذي عقد في نهاية مارس/ آذار. كانت أهم المسائل التي تناولها الاجتماع، تتعلق بسياسة الدعم ومساعدة السكان.

"انحياز الأسد الى الفقراء" برفع الدعم

وردا على سؤال بأن حزب البعث تبنى "سياسات اقتصادية واجتماعية عبر عقود لمصلحة الطبقات الشعبية"، تساءل الأسد عما إذا كان تبني مثل هذه السياسات لم يأت على حساب هوية وبنى الاقتصاد السوري. وأضاف "المفروض أن ينحاز أي حزب أو حكومة اشتراكية أو غير اشتراكية، الى الفقراء باعتبار أنهم الطبقة التي تحتاج إلى الدعم... وهم الطبقة الأكثر هشاشة". لكنه ذكر بعد ذلك أن السياسات والإجراءات المطبقة "لمصلحة الفقير تنعكس عليه سلباً". وأكد الأسد أن النقاش ليس حول مبدأ الدعم، فالدعم يجب أن يبقى، بل النقاش هو حول الأشكال التي يتخذها الدعم ليكون مفيدا للفقراء وداعماً لهم. لكنه رأى أن الحال ليست كذلك مع شكل الدعم الحالي، والأهم من ذلك أنه أفضى إلى الفساد والبيئة الفاسدة. وقال إن مكافحة الفساد مسألة أساسية لتحسين معيشة المواطنين وتوزيع الدعم.

تروج المؤسسات المالية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، لهذا النوع من الإصلاحات المزعومة المتعلقة بإحلال التحويلات النقدية محل الدعم، وهذا النقاش ليس جديدا في سوريا وهو منذ عقود

وأوضح الأسد واقتصاديون أن الدعم يجب أن يوجه للأفراد وليس للسلع، بعبارة أخرى، الأجدى تقديم الدعم نقدا بدلاً من دعم سلع مثل الخبز. من هذا المنظور، أوضح اقتصادي شارك في هذه المناقشة أن مسألة تلقي الدعم النقدي عبر البطاقة الإلكترونية سمح بتفكيك جزء من نظام الفساد القائم في دعم السلع.

ومن المثير للاهتمام أنه في منتصف يوليو/تموز 2023، نظمت حلقة نقاش في جامعة دمشق، بمشاركة رئيس الجامعة ونوابه وعدد من أصحاب المصلحة، بما في ذلك الأمانة السورية للتنمية، حول مسألة "إلغاء الدعم الحكومي وتحويله إلى دعم نقدي".

تروج المؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، منذ عقود، لهذا النوع من الإصلاحات المزعومة المتعلقة بإحلال التحويلات النقدية محل الدعم. وهذا النقاش ليس جديدا في سوريا في الواقع، وكذلك حجج إلغاء الدعم عن السلع الأساسية. ففي أعقاب وصول بشار الأسد إلى السلطة في سنة 2000 والسياسة التي تدعو إلى تحرير الاقتصاد، بدأت أسعار المشتقات النفطية مثلا في الارتفاع. وفي سنة 2006، أوصى تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي السلطات السورية بشدة "إصلاح دعم أسعار المنتجات النفطية" وتحديداً إلغاء الدعم في حلول سنة 2010. 

كانت الحجج المضادة للدعم التي استخدمها كل من الحكومة وصندوق النقد الدولي في ذلك الوقت مشابهة تماما لتلك المستخدمة حاليا، ولا سيما الإشارة إلى العبء المفرط الذي تتحمله موازنة الدولة، ورأت أن الفئات الأكثر حرمانا في المجتمع لم تستفد منها. وعلى نحو مماثل اليوم، جرى اقتراح تقديم تعويضات مالية في مقابل خفض الدعم ونفّذ الاقتراح في بعض الأحيان، مثل الإعانات النقدية المباشرة للمزارعين وزيادة الرواتب. في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعلن مسؤولون سوريون في مناسبات عديدة أن معظم منتجات الطاقة، وخاصة المشتقات النفطية، ستباع بسعر السوق بحلول سنة 2015. وقد أدت الانتفاضة في سنة 2011 إلى إبطاء هذه العملية لمدة وجيزة، لكن خفض دعم مختلف السلع تضاعف في السنوات القليلة الماضية. ودأب الوزراء والمسؤولون الحكوميون بشكل متزايد على تبرير ارتفاع الأسعار وتقنين الحصص المخصصة للأفراد والقطاعات الاقتصادية (الحكومية والخاصة) وعزوها إلى ظروف الحرب ونقص إمدادات النفط.

أدى ارتفاع أسعار المشتقات النفطية إلى إلحاق الضرر بالمشاريع الزراعية والصناعية من خلال رفع تكاليف الإنتاج، ودفع المزارعين والصناعيين إلى وقف أعمالهم

أحدث الأمثلة على إجراءات التقشف هذه ظهرت في فبراير/شباط 2024. فقد رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك (مرة أخرى) سعر رغيف الخبز المدعوم بما يصل إلى 100 في المئة وسعر الديزل المخصص للأفران بأكثر من 165 في المئة. وبعد هذه الزيادات الجديدة، وصل سعر ربطة الخبز زنة 1000 غرام إلى 400 ليرة سورية، في حين قفز سعر ليتر الديزل المدعوم للأفران من 700 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية.

انعكاسات خفض الدعم

الأهداف الحكومية الرئيسة لخفوضات الدعم هذه، وخاصة تقليص دعم المشتقات النفطية، هي أهداف مالية ونقدية: الحفاظ على استقرار الليرة السورية، وزيادة إيرادات الدولة، وخفض الإنفاق الحكومي (على الدعم)، ومراكمة العملات الأجنبية. وللتعويض عن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في السنوات القليلة الماضية، منحت الحكومة علاوات دورية للموظفين الحكوميين والجنود والمتقاعدين، بالإضافة إلى بعض الزيادات النادرة في الرواتب.

.أ.ف.ب
التضخم المفرط حول العملة السورية الى أوراق بلا قيمة

غير أن خفوضات الدعم هذه تؤثر سلباً على الاقتصاد بأكمله، وكذلك على السكان. على سبيل المثل، يؤدي ارتفاع أسعار المشتقات النفطية إلى إلحاق الضرر بالمشاريع الزراعية والصناعية من خلال رفع تكاليف الإنتاج، مما يدفع المزارعين والصناعيين إلى وقف أنشطتهم لعدم قدرتهم على التعامل مع هذه التحديات. ويؤثر ارتفاع أسعار المشتقات النفطية في الواقع على جميع مستويات البنية الإنتاجية، بما في ذلك أجور العمال، ورسوم النقل، والمولدات الكهربائية، إلخ ... على سبيل المثل، القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة في بداية أبريل/نيسان برفع سعر الوقود إلى 400 ألف ليرة سورية للطن، أثار مرة أخرى استياء وانتقادات كبيرة في أوساط الصناعيين. ردا على هذا القرار، طالب عضو في مجلس إدارة غرفة صناعة حلب، الصناعي عبد اللطيف حميدة، الحكومة بمراجعة أسعار الوقود والطاقة الكهربائية على الفور وخفضها بطريقة مناسبة وعادلة لتمكين المصانع من العمل والإنتاج والتصدير، وإلا سيضطر عدد كبير منها لوقف أنشطتها.

إقرأ أيضا: سوريا... هشاشة الوضع الأمني في مناطق النظام

أدى خفض دعم المشتقات النفطية إلى ارتفاع رسوم النقل أيضا، مما أثر على الأفراد الذين يعيشون خارج المراكز الحضرية الرئيسة حيث توجد معظم المؤسسات الحكومية والأنشطة الاقتصادية الرئيسة. مما أدى إلى زيادة التغيب عن العمل لأن تكلفة النقل الشهرية يمكن أن تزيد على نصف الراتب الشهري للفرد. وعلى نحو مماثل، توقف عدد كبير من طلبة الجامعات والمدارس الثانوية الذين يعيشون في مناطق نائية عن الذهاب إلى أماكن الدراسة بسبب ارتفاع رسوم النقل.

يتراوح الحد الأدنى الجديد لصافي رواتب الموظفين الآن ما بين 22,2 و26,6 دولارا أميركيا

يمكن ملاحظة انتقال التكاليف عبر مكونات المجتمع، من دون أن تتخذ الحكومة إجراءات لتخفيف معاناة السكان. في غضون ذلك، يستمر ارتفاع تكاليف المعيشة. وعلى الرغم من أن الحكومة السورية رفعت الرواتب بنسبة 50 في المئة للموظفين الحكوميين المدنيين والعسكريين والمعاشات التقاعدية في فبراير/شباط 2024، إلا أن معظم الموظفين الحكوميين لا يستطيعون تغطية معظم احتياجاتهم الشهرية بالاعتماد على رواتبهم.

ويتراوح الحد الأدنى الجديد لصافي رواتب الموظفين الآن بين 280,890 ليرة سورية و336,348 ليرة سورية (ما يعادل 22,2 و26,6 دولارا أميركيا على التوالي بسعر الصرف الرسمي 12,625 ليرة سورية / دولار أميركي). وذلك لا يكفي لإعالة أسرة، إذ وصلت تكلفة المعيشة، بمقياس سلة الإنفاق الدنيا إلى 2,406,881 ليرة سورية (191 دولارا أميركيا) في ديسمبر/كانون الأول 2023 لأسرة مكونة من خمسة أفراد في البلاد. وقد زادت أكثر من الضعف مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم، وأربعة أضعاف خلال عامين فحسب. وفي الآونة الأخيرة، وفقا لتقديرات صحيفة "قاسيون"، بلغ متوسط تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد في دمشق 12,5 مليون ليرة سورية (الحد الأدنى 7,812,417 ليرة سورية) في نهاية مارس/آذار 2024.

دفع هذا الوضع معظم الموظفين المدنيين والجنود والموظفين الآخرين في المؤسسات الحكومية السورية إلى البحث عن وظائف إضافية، وأضعف مناعتهم تجاه الأنشطة الاقتصادية غير القانونية، بما في ذلك الفساد، على المستويات كافة في الحكومة والقطاع العام.

في هذا السياق، أصبحت التحويلات المالية مصدر دعم رئيس لمعيشة شرائح كبيرة من السكان في السنوات القليلة المنصرمة، لا سيما مع الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة. وقد تطورت لتصبح المصدر الرئيس للموارد المالية لعدد متزايد من العائلات في البلاد، ومن ثم تجنبهم الجوع. ونشرت صحف موالية للنظام العديد من المقالات التي تصف كيف أن العديد من العائلات كانت تعتمد على التحويلات المالية لتلبية احتياجاتها اليومية، من استهلاك الطعام إلى شراء ملابس لأطفالهم، التي يمكن أن تصل إلى ما بين 500,000 و700,000 ليرة سورية للطفل الواحد. وتلاحظ الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها السكان على جميع المستويات.

ينبغي ألا تعد خطابات بشار الأسد حول فهمه للاشتراكية وسياسة الدعم مجرد نقاط "تكنوقراطية" أو "نقاط للمناقشة"، بل هي مؤشرات الى توجه الاقتصاد السوري الذي يهدف إلى تعزيز سلطة النظام وشبكات المحسوبية التابعة له

من هذا المنظور، لا يحتاج السوريون فقط إلى فرص العمل التي تفتقر إليها البلاد، وإنما إلى الوظائف التي تسمح للأفراد بالعيش بكرامة وتغطية احتياجاتهم اليومية. وقد فشلت الحكومة باستمرار في معالجة هذه المسألة في السنوات القليلة المنصرمة، بل إن سياساتها أدت إلى تفاقم سوء الأحوال المعيشية للسكان.

ليست تدابير تكنوقراطية...

في هذا الإطار، من المرجح استمرار رفع الدعم التدريجي عن المشتقات النفطية، والسلع الأساسية الأخرى مثل الخبز. غير أن إنهاء الدعم يجب ألا يقتصر على تحقيق وفورات مالية للحكومة أو تحسين ما يسمى بـ"كفاءة" سياسة الدعم، وخاصة في ظل عدم وجود أي تعويض اجتماعي واقتصادي يأخذ في الحسبان العواقب البنيوية على الاقتصاد والمجتمع. فالإجراءات التي ترفع الرواتب بشكل رمزي أو تمنح علاوات في مناسبات محددة، لا تعوض ارتفاع تكاليف المعيشة وفقدان القوة الشرائية.

.أ.ف.ب
سوق في حلب رمم بعدم تضرره خلال الحرب، شمال سوريا، 30 مارس 2024.

وفي الختام، ينبغي ألا تعد خطابات بشار الأسد حول فهمه للاشتراكية وسياسة الدعم مجرد نقاط "تكنوقراطية" أو "نقاط للمناقشة"، بل هي مؤشرات الى توجه الاقتصاد السوري الذي يهدف إلى تعزيز سلطة النظام وشبكات المحسوبية المختلفة التابعة له، مع السماح بأشكال جديدة من تراكم رأس المال، واتباع تدابير تقشفية جديدة تؤدي إلى التخلي عن أي مسؤوليات اجتماعية للدولة.

تجدر الإشارة إلى أنه لم تستفد من هذه السياسات سوى أقلية صغيرة جداً من رجال الأعمال التابعين في معظمهم للقصر الرئاسي. وخلافا لما أوضحه الأسد في شأن السياسات الاقتصادية، فإنهم لا يمتلكون أو يتقاسمون مصالح طبقية مماثلة مع أكثر من 90 في المئة من الشعب السوري الذين يعيشون تحت خط الفقر. ولم تحاول القرارات والمبادرات التي اتخذتها الحكومة في السنوات القليلة المنصرمة تحقيق ما يسمى "العدالة الاجتماعية" أو تحسين أحوال الغالبية العظمى من السوريين. وإنما دفعتهم دائما نحو مزيد من التدهور والمعاناة.

font change

مقالات ذات صلة