"أكْل العشب"... إشكالية العقوبات وتداعياتها

تستطيع الدول أو المنظمات التي فرضتها أن تظهر نفسها بمظهر الفاعل

ناش ويراسيكارا
ناش ويراسيكارا

"أكْل العشب"... إشكالية العقوبات وتداعياتها

أظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال مؤتمر صحافي عقده في الصين عام 2017، بشكل صارخ تصميم النظام الكوري الشمالي على الحفاظ على برنامجه النووي رغم المعارضة والعقوبات العالمية. وأشار إلى أن الكوريين الشماليين "سيأكلون العشب" قبل أن يتخلوا عن طموحاتهم النووية. وأوضح بوتين أن إرادة النظام الكوري الشمالي في أن يتحمل شعبه المعاناة تفوق الضغوط التي يمكن أن يمارسها الغرباء، بما فيها العقوبات الاقتصادية.

ورغم أن عبارة "يأكلون العشب" التي تلفظ بها بوتين قد حظيت بتغطية إعلامية واسعة النطاق في ذلك الوقت، إلا أن أسباب هذا التعليق وتأثيراته المحتملة على فعالية العقوبات عموما لم تحظ إلا بقليل من الاهتمام.

لقد سبق لسياسي كبير آخر، وهو ذو الفقار علي بوتو، وزير خارجية باكستان الأسبق أن استخدم هذه العبارة، عندما قال لصحيفة "مانشستر غارديان" عام 1965: "إذا صنعت الهند قنبلة ذرية، فسوف ننتج نحن أيضا قنبلة ذرية، حتى لو كان علينا أن نأكل العشب وأوراق الشجر أو اضطررنا إلى أن نعاني من المجاعة، لأنه لن يكون لنا عندها أي بديل آخر". وفي عام 1998، فجرت باكستان أول سلاح نووي لها.

أ ف ب
عراقية تنتحب قرب سيارة تقل جثمان طفل عراقي اثناء جنازة جماعية في بغداد لثلاثة وثلاثين طفلا قضوا جراء العقوبات الدولية في 2 مارس 1998

لم يُشر بوتو صراحة إلى العقوبات، إنما إلى تصميم بلاده على التغلب على أي عقبة تحول بينها وبين تحقيق هدفها الوجودي. غير أن هذا الشعور على صلة بتأثير العقوبات، سواء كان في الماضي أم في الحاضر، الذي تظهر فيه العقوبات الآن في كل مكان في الأخبار. ويدور الحديث عن زيادة العقوبات على إيران بسبب هجومها الأخير على إسرائيل. وفي المقابل، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات، ليس على الحكومة الإسرائيلية التي تشن حملة عسكرية متواصلة في غزة أدت إلى مقتل آلاف المدنيين، وإنما على عدد من المستوطنين الإسرائيليين البارزين بسبب ما يمارسونه من عنف على الفلسطينيين في الضفة الغربية.

ومعروف بالطبع أن عقوبات واسعة النطاق فُرضت على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا عام 2022.

يدور الحديث عن زيادة العقوبات على إيران بسبب هجومها الأخير على إسرائيل. وفي المقابل، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على عدد من المستوطنين الإسرائيليين، وليس على الحكومة الإسرائيلية

ليس فرض العقوبات بالأمر الحديث. فمنذ أكثر من 2000 عام فرضت إمبراطورية أثينا عقوبات اقتصادية على دولة مدينة ميغارا المجاورة لها عام 432 قبل الميلاد، بأن منعتها من استخدام الموانئ التي تسيطر عليها أثينا. ولا يزال التأثير الفعلي لهذا الإجراء الذي فرضته أثينا غير واضح، مع أن البعض يرى أنه أشعل فتيل الحرب البيلوبونيزية التي تحالفت فيها ميغارا مع إسبرطة ضد أثينا.
ومع ذلك، كان من الضروري ظهور النظام الدولي الحالي، وما تلاه من إنشاء لمنظمات دولية، مثل عصبة الأمم وخليفتها الأمم المتحدة، كي تتوفر بيئة لفرض العقوبات في العصر الحديث. ففي أعقاب ما خلفته الحرب العالمية الأولى من موت ودمار، أزفت اللحظة التي اتضح فيها للجميع مدى التكلفة الهائلة للحرب على المستوى الصناعي.
وفي مؤتمر باريس للسلام الذي انعقد عام 1919 عند انتهاء الحرب، اقترح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العقوبات كوسيلة لتجنب حرائق الحروب المسلحة في المستقبل: "طبقوا هذا العلاج الاقتصادي السلمي الصامت والمميت، ولن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة. إنه علاج رهيب. لا يكلف حياة أحد خارج الأمة التي فرضت عليها المقاطعة، لكنه يطبق عليها ضغطا لا يسع أي أمة حديثة، في رأيي، أن تقاومه".

وقد اتفق الأعضاء، بموجب المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم، على استخدام العقوبات الاقتصادية في المستقبل كوسيلة أساسية لتجنب ذلك النوع من الحرب الذي كان العالم قد شهده لتوه.
غير أن مشكلتين ثابتتين ومترابطتين غالبا ما تنشآن مع فرض العقوبات: رفض الدول فرض العقوبات، وقدرة البلدان المستهدفة على التحايل عليها. وأظهرت الولايات المتحدة، دولة ويلسون نفسها، التي تتمتع بأكبر اقتصاد في العالم، صعوبة فرض عقوبات فعالة عندما رفضت هي نفسها الانضمام إلى عصبة الأمم التي ساعدت هي في إنشائها عام 1920.
حققت العصبة نجاحات في العشرينات من القرن الماضي عندما تراجعت كل من يوغوسلافيا واليونان عن الاستيلاء على أراضي بعضهما بعضا، استجابة منهما للتهديد بفرض عقوبات عليهما. إلا أن فعالية العقوبات في مواجهة الأزمة الحقيقية لم تكن متسقة على الإطلاق.
وفي منتصف الثلاثينات، غزت إيطاليا، في ظل قيادة بينيتو موسوليني الفاشية، إثيوبيا التي كانت تسمى الحبشة آنذاك. وفي استعراض العصبة للقضايا المستقبلية المتعلقة بالعقوبات، لم ترتقِ خطتها لمعاقبة إيطاليا إلى مستوى الواقع. وفرضت تلك العقوبات بطريقة محدودة كي تتجنب الدول التي فرضتها كلفتها الاقتصادية خلال فترة الكساد العالمي، وخوفا من رد فعل إيطاليا العنيف. واستقطبت فكرة أن تُمنع إيطاليا من الوصول إلى النفط تركيز الأعضاء، لكنها رفضت في النهاية لأن العصبة لم يكن لديها أي طريقة تمنع بها الولايات المتحدة، وهي منتج رئيس للنفط وخارج العصبة، من بيعه لموسوليني.

أ ف ب
جنود اسرائيليون من كتية "نيتسح يهودا" اليهودية المتشددة يؤدون صلاة الصباح أثناء مشاركتهم في التدريبات السنوية في الجولان السوري المحتل في 19 مايو 2014

ومن المفارقات الساخرة أن الولايات المتحدة نفسها اعتمدت عام 1940، فرض الحظر على النفط كسلاح رئيس لها في مواجهة اليابان التي كانت تغزو الصين وتهدد بالتوسع في أماكن أخرى في شرق آسيا. وبعد أن استولت اليابان على المستعمرات الفرنسية في الهند الصينية في أعقاب استسلام فرنسا لألمانيا النازية عام 1940، أثبت الحظر على مبيعات النفط أهميته البالغة. ومع ذلك، لم يتجل تأثير العقوبات على اليابان بتخفيض عدوانها العسكري، بل في تصعيد الحرب. إذ سعت اليابان عبر القتال إلى الوصول للموارد التي كانت في أمسّ الحاجة إليها، وحاولت توجيه ضربة قاضية للولايات المتحدة، بدأتها بالهجوم على القاعدة البحرية الأميركية في بيرل هاربور يوم 7 ديسمبر/كانون الأول عام 1941.
منذ الحرب العالمية الثانية، ومع إنشاء الأمم المتحدة، بذلت جهود عديدة رفيعة المستوى لفرض عقوبات على عدد من الدول بهدف تغيير سلوكها غير المرغوب. ومن الواضح أن تأثيراتها في تحقيق النتيجة المرجوة كانت متباينة.
كانت دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا هدفا ثابتا للعقوبات الدولية بدءا من الستينات. ومع تصاعد الضغوط على بريتوريا أواخر الثمانينات حينما شاركت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في العقوبات، في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، انتهى الفصل العنصري فيها عام 1991. ويعود سبب ذلك جزئيا على الأقل إلى عقود من التدابير الاقتصادية التي فرضت على جنوب أفريقيا.
كما فرضت الأمم المتحدة عقوبات واسعة النطاق على العراق في عهد صدام حسين في التسعينات بعد غزوه الكويت. وحتى بعد أن طردت حملة عسكرية العراقيين من الكويت، بقيت هذه القيود قائمة إلى أن أطيح بصدام حسين عام 2003. أما مدى فعالية هذه القيود فلا تزال موضع نقاش، لكن ما من شك في أن العراقيين العاديين تأثروا بها، إنما ليس من كانوا ممسكين بالسلطة في بغداد آنذاك.

 

وبطبيعة الحال، فإن العقوبات حاضرة في الجهود المبذولة لمنع كوريا الشمالية من الحصول على سلاح نووي. إلا أن حكومة كوريا الشمالية أثبتت براعتها في التهرب من القيود، بمساعدة "أبو البرنامج النووي الباكستاني"، عبد القدير خان وشبكته. وفي عام 2006، فجرت البلاد أول سلاح نووي لها، مما أدى إلى فرض عقوبات واسعة النطاق عليها، ولكن لم تظهر أي علامة على استعدادها للتخلي عن هذا البرنامج، كما أشار بوتين.
هناك عنصر مسرحي في العقوبات. إذ تستطيع الدول أو المنظمات التي فرضتها أن تظهر نفسها بمظهر الفاعل، حتى لو كانت الإجراءات المفروضة أقل تأثيرا مما هو مطلوب. إلا أن العقوبات المفروضة يمكن لها أن تلفت الانتباه الدولي إلى المشاكل والتهديدات القائمة، وقد يكون لها تأثير، ولو أنه نادرا ما يكون حاسما.

بذلت جهود عديدة رفيعة المستوى لفرض عقوبات على عدد من الدول بهدف تغيير سلوكها غير المرغوب. ومن الواضح أن تأثيراتها في تحقيق النتيجة المرجوة كانت متباينة

ولكن في عالم يزداد استقطابا بصعود الصين كقوة اقتصادية عظمى، تضاءلت قدرة الدول الغربية على التأثير على سلوك الدول المتمردة باستخدامها العقوبات. والمثال الروسي أفضل دليل على ذلك. فعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب، وجدت حكومة بوتين أسواقا جديدة لبضائعها، بما في ذلك زيادة مبيعات النفط إلى الهند، واستفادتها من علاقاتها مع الصين وإيران للحصول على الأسلحة التي تشتد حاجتها إليها.
ونظرا لتاريخ إيران الطويل مع العقوبات، فمن الصعب أن نتصور أن إضافة مزيد من العقوبات قد تفعل الكثير لردعها عن برنامجها النووي أو عن أنشطتها الواسعة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. 
لا يعني كل ذلك أن الأيام التي كان فيها المجتمع الدولي أو دول معينة تستطيع فرض إرادتها عبر العقوبات قد ولّت؛ فهي لم تكن موجودة أساسا منذ البداية.

font change

مقالات ذات صلة