لبنان... أزمة النزوح السوري و"وحدة الساحات"

محاولة يائسة لإعادة بناء وطنية لبنانية على أنقاض المجتمع والدولة

أ ف ب
أ ف ب
رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي (وسط) يرحب بالرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس (يسار)، وأورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في السرايا الحكومية في بيروت، 2 مايو 2024

لبنان... أزمة النزوح السوري و"وحدة الساحات"

أظهرت الأزمة السياسية والاجتماعية المستجدة أو المستأنفة في شأن قضية النازحين السوريين في لبنان الحقائق اللبنانية الراهنة بأكثر صورها سلبية وخطرا. لم تكن هذه الحقائق مخفية لمن يريد أن يراقب الأوضاع اللبنانية أو يفكر فيها، لكن الأزمة حول النازحين السوريين، التي تقدمت مجددا إلى الواجهة، أعادت تجميع كل عناصر المأساة والملهاة اللبنانية وعرضتها على الشاشات ووسائل التواصل وفي تصريحات السياسيين وأحاديث التجمعات والسهرات في بداية "الموسم السياحي" الذي تحول هو أيضا صورة من صور الإعوجاج اللبناني، بعدما أضفي عليه طابع "وطني" بل و"قدسي" كأنه خلاصة "المعجزة اللبنانية" وخشبة الخلاص من الانهيار الاقتصادي. لذلك أصبح أداة رئيسة في يد السلطة للتغطية على الأزمة وفي يد الفئات النافذة سياسيا واقتصاديا لاعادة بناء رأسمالها ولو بأكثر الطرق وقاحة وبشاعة، لكي لا نتحدث عن القانون في دولة فقدت وجه الحق.

فعلى سبيل المثل، وبعدما دخلت المياه إلى قسم الطوارئ في أحد المستشفيات في مدينة جونيه بكسروان (شمال بيروت) وغمرت السيارات في مرأب المستشفى الخارجي، خرج أحد أصحاب المجمعات السياحية في أعالي كسروان، وهو متهم بالتعدي على النهر مما تسبب بفيضانه، خرج ليحتمي بهالة "الموسم السياحي" وليغطي على مخالفاته بالحديث عن تقصير الدولة في دعم "الموسم السياحي"، وكأن على الدولة أن تعدل مجرى النهر بما يناسبه لا أن يزيل هو تعدياته عليه. وبعد "المقاومة"، أصبحت "السياحة" ستارا لتغطية ما لا طاقة للدولة على تغطيته، وإلا نفت نفسها بنفسها، وهي كذلك أصلا.

أ ف ب
مهاجرون على متن قارب للشرطة البحرية القبرصية أثناء نقلهم إلى الميناء بعد إنقاذهم من قاربهم الخاص المتوجه من السواحل اللبنانية، قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة في 14 يناير 2020

في حمأة كل هذه الفوضى الهدامة، يحضر ملف النازحين السوريين كنتيجة وتتمة لها قبل أن يكون جزءا منها أو سببا لها، وكمشكلة لا تساهم الحلول المقترحة لها إلا في تعقيدها وتجذرها ومفاقمتها، على نحو يتبدى فيه حل المشكلة مشكلة بذاته وأخطر من المشكلة الأصلية. هكذا جاءت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين إلى بيروت الخميس الماضي يرافقها الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس لتعيد انتاج المأزق اللبناني مع قضية النازحين السوريين عوض أن تولد انطباعا بإمكان الخروج منه قبل البدء بالخروج منه فعليا. إذ أن هذا الملف بالذات أصبح أكثر الملفات اللبنانية عرضة للتأثير النفسي واللعب بالعواطف والعصبيات إلى حد أن معالجته بدأت تتطلب خلق مناخ نفسي واجتماعي وسياسي يتيح بالقدر الممكن وعي هذه الأزمة وعيا "موضوعيا" خارج الأجندات السياسية والعصبيات الاجتماعية والتاريخية، لكن هذا في حد ذاته يبدو بعيد المنال بل ومستحيلا في ظل المشهد اللبناني الراهن. بالتالي، فإن حل الأزمة بيدو أيضا بعيدا بل ومستحيلا في ظل المشهد السوري واللبناني الراهن، لذلك فإن أولى الخطوات للتعامل معها على نحو يقلل أخطارها هو الاعتراف بأنها أزمة من دون حل. وإذا كان انعدام الحل لهذه الأزمة ينذر بأخطار من كل نوع، فإن الاندفاعة المستجدة لحلها بأبشع الطرق وأكثرها عبثية وفوضى هي أخطر بما لا يقاس.

لقد أعلنت فون ديرلاين في نهاية زيارتها بيروت مساعدات بقيمة مليار يورو على أربع سنوات، لـ"دعم استقرار لبنان، والتعاون الجيد من أجل مكافحة عمليات تهريب اللاجئين انطلاقا من السواحل اللبنانية". بالتالي لم تقل فون ديرلاين أمرا غير متوقع باعتبار أن كلامها ينسجم تماما مع هاجس الهجرة غير الشرعية الذي يقض مضاجع الأوروبيين، خصوصا أن ملف الهجرة يتحول إلى العنوان السياسي الأبرز في أوروبا في ظل الصعود المضطرد لليمين بأنواعه المختلفة، والذي تشكل الهجرة العمود الفقري لخطابه وسياساته. وهذا يُفترض أن يحرج أصحاب نظرية المؤامرة في بيروت الذين يصورون "خطة" الاتحاد الأوروبي للتعامل مع النازحين السوريين في لبنان وكأنها استهداف للبنان بالذات ومؤامرة سوداء عليه، وليست جزءا من سياسات أوروبية عامة.

لم تقل فون ديرلاين أمرا غير متوقع باعتبار أن كلامها ينسجم تماما مع هاجس الهجرة غير الشرعية الذي يقض مضاجع الأوروبيين

لكن من العبث توقع غير ذلك في لبنان في ظل ما يشهده البلد من انحطاط سياسي واجتماعي وثقافي غير مسبوق في تاريخه حتى في أعتى أيام الحرب الأهلية، وإن كان يصعب الاعتقاد أن هذا الانحطاط لكثافته ومأسويته هو انتاج لبناني صرف بل هو نتاج تداخل عوامل محلية وعالمية، وهذا ما يصعب احتواءه والتعامل معه، بوصفه جزءا من "العصر".
بيد أن الأهم والأقرب إلى التناول الآن، هو التعامل مع الغضب السياسي والاجتماعي العارم الذي انفجر بعد مغادرة السيدة الأوروبية مطار بيروت الدولي على قاعدة أن الأوروبيين يريدون إحلال السوريين محل اللبنانيين على الأراضي اللبنانية، باعتبار أن "الخطة" الأوروبية، كما عبر عنها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تقتضي في مقابل توفير حوافز مالية للدولة اللبنانية لمكافحة هروب النازحين وتهريبهم عبر البحر، إتاحة هجرة موسمية للبنانيين للعمل في أوروبا.
لكن تجاوزا لهذه الجزئية من "الخطة" الأوروبية التي لا تُعرف بعد مآلاتها وإمكاناتها في وقت بدأ لبنانيون يهتمون فعلا بمعرفة المزيد عنها رغبة فيها (!)، فإن البلبلة التي أثارتها زيارة فون دير لاين ومداولاتها كشفت كم أن المؤسسات الدستورية في لبنان معطوبة ومشلولة. فلو سلمنا جدالا بأن "خطة" السيدة الأوروبية خطيرة على لبنان، فإن خطورتها تلك لا تتأتى من مضمونها وحسب بل من كونها "مفاجأة". أي أنها سقطت فجأة على اللبنانيين، ولم يعلن أو يسرب أي شيء عنها قبل إعلانها، وكأن أحدا لم يكن يعلم بها حتى ميقاتي نفسه. بالتالي فإن "المفاجأة" التي حملتها فون دير لاين تدل كم أن القرار اللبناني يدور ويصنع خارج المؤسسات، في القنوات السرية والزواريب الخلفية لتلك المؤسسات. والحال فإن العلم الأكيد والمسبق لميقاتي بمضمون زيارة الوفد الأوروبي يعني حكما علم "حزب الله" به، إن لم يكن من طريق رئيس الحكومة شخصيا - وهذا مستبعد - فمن طريق رئيس البرلمان نبيه بري الذي احتفى بالسيدة الأوروبية والرئيس القبرصي، وهذا في محصلته دليل إلى عدم رفض "حزب الله" للاقتراح أو أنه أراد أن يتركه فريسة للآخرين وأولهم حليفه القديم رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، في وقت ينهمك الحزب في مواجهات الجنوب مع إسرائيل. بالتالي فإن أول ما كان يجب أن يثير غضب باسيل وتساؤلاته وحرجه واستيحاءه، هو أنه علم بالاقتراح الأوروبي مثله مثل أي مواطن لبناني بينما هو جزء من تركيبة السلطة حكوميا وبرلمانيا. وهذا يشمل أيضا "النواب التغييريين" الذين يصورون على أنهم الجهة التي يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتواصل معها في إطار مقاربته "الإصلاحية" للبنان، فإذا مجموعة منهم تصدر بيانا شاجبا لاقتراح فون دير لاين بعد إعلانه وكأنها آخر من يعلم به.

غرائب لبنانية

هذا غيض من فيض الغرائب اللبنانية التي تبدو لوهلة وكأنها نتاج فوضى راسخهة وكأنها مضحكة ومسلية، لكنها في الواقع تعبّر عن حجم المأساة التي يغرق فيها لبنان وعن حقيقة أن ما يكشف عنه ويعلن في البلد في إطار المؤسسات الرسمية ودوائر السياسة المتصلة بها، ليس سوى ستار لما يدور في الكواليس مع القوة الحاكمة فعلا من خارج أي قواعد للحكم أو للدولة، وهي "حزب الله". ذلك أنه، وبالمعنى السياسي، لا يمكن فصل "خطة" فون دير لاين عن الوساطات والاتصالات الأوروبية مع "حزب الله" لمحاولة التوصل إلى ترتيبات أمنية على جانبي الحدود جنوب لبنان. فبغض النظر عن فحوى هذه الاتصالات وجدواها ونتائجها، فهي تتجاوز في مفاعيلها ملف المواجهات جنوب لبنان، إذ تدل إلى أي حد يحتكر "حزب الله" لبنان سياسيا، أي أنه الجهة الوحيدة أو الرئيسة التي يخاطبها الغرب - وغالبا عبر نبيه بري - عندما يريد "ترتيب" ملف معين في لبنان، ومن ذلك ملف النازحين السوريين، تماما كما أنه الجهة الوحيدة الممسكة بقرار الحرب والسلم، وليس خافيا ما بين هذين الاحتكار والإمساك، من علاقة سببية وتداخل، فالأمران مترابطان ولا يستقيم واحد دون الآخر. 

"المفاجأة" التي حملتها فون دير لاين تدل كم أن القرار اللبناني يدور ويصنع خارج المؤسسات، في القنوات السرية والزواريب الخلفية لتلك المؤسسات

من هذا المنطلق، يفترض فهم تصريحات جبران باسيل وسواه في ما يتعلق بملف النازحين السوريين. إذ في ظل غياب الدولة واضمحلالها أمام "حزب الله"، لا يعود مستغربا أن يخرج باسيل، في اقتراحاته لحل أزمة النازحين، عن منطق الدولة، كأن يدعو الجيش اللبناني إلى "أن يغلق الحدود البرية مع سوريا وأن يفتح الحدود البحرية في اتجاه أوروبا"، كما دعا الحكومة والمسؤولين إلى "أن يضربوا على الطاولة، وسوف ترون كيف تنصاع لنا أوروبا". بينما كان وزير المهجرين أكثر "عقلانية" منه إذ طالب الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية بـ"دعمنا وإرسال سفن شرعية آمنة لترحيل آلاف النازحين إلى دول المعمورة ولا سيما الدول بمنظمة حقوق الإنسان"، مع أن مقدمة الدستور اللبناني تؤكد أن لبنان ملتزم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا إذا كان الوزير المذكور الذي قال قبلا إن هناك 20 ألف مسلح في مخيمات النازحين السوريين من دون أن يحرك ذلك ساكنا في الدولة، إما لجهة تأكيد ذلك ومعالجته أو نفيه، لديه تفسير آخر لـ"منظمة حقوق الإنسان"، وهذه هي العقلانية السوداء بعينها.
كلّ ذلك لا يؤكد وحسب أن أزمة النازحين السوريين هي أزمة من دون حل، أقله في الأمد المنظور وما دامت الأوضاع في سوريا على حالها، بل يؤكد أن الأزمة اللبنانية هي أيضا بلا حل قريب، والأرجح أنها أصبحت أزمة متجذرة ومستعصية، وبالتالي احتمالات انفجارها تزيد مع ما قد يرتب هذا الانفجار من تأثيرات إقليمية. لكن اللافت للانتباه هنا أنّ السفارة السورية في بيروت ظلّت تقريبا صامتة في ما يخص أزمة النازحين السوريين في لبنان طيلة الفترة الماضية، بيد أنها استنفرت أخيرا وعقدت مؤتمرا للدفاع عن النازحين في اللحظة التي بدا فيها احتمال احتكاك الجهات المسيحية مع النازحين السوريين في أقصى درجات ارتفاعه في أعقاب عملية خطف وقتل المسؤول في "القوات اللبنانية" باسكال سليمان الذي اتهم أفراد سوريون بتنفيذها لكن من دون أن تعرف طبعا خلفياتهم وما إذا كانت العملية اغتيالا سياسيا أو عملا جرميا.

أ ف ب
رئيس مجلس النواب نبيه بري (في الوسط) وفون دير لاين وخريستودوليدس في مقر رئيس البرلمان في عين التينة ببيروت، 2 مايو 2024

بالتالي ليس خافيا حجم التوظيف السياسي الذي يحيط بملف النازحين السوريين، الإنساني في الأصل، والذي لا شك أنه يرتب أعباء من كل نوع على لبنان الذي يقف على شفير إعلانه دولة فاشلة بأتم معنى الكلمة. لكن الخطورة تكمن هنا في استخدام أزمة النازحين لتغطية الأزمة اللبنانية ككل والمتمثلة بتفكك الدولة وانهيار "المجتمع السياسي" ككل، وكأنها الأزمة الأصل بينما هي فرع منها ونتيجة لها، والأدهى تلك المحاولات البائسة لإعادة انتاج وطنية لبنانية بدفع من أزمة النزوح السوري، وعلى أنقاض الدولة والمجتمع. لكنها وطنية صادرة في المحصلة عن منطق "وحدة الساحات"، كبديل "تاريخي" من منطق "الوحدة العربية". فإذا كانت "الوحدة العربية" قد ارتكزت على "الدولة الوطنية" بغض النظر عن مضمونها، فإن منطق "وحدة الساحات" يرتكز على استحواذ الميليشيا على الدولة وتحويل "الدولة الوطنية" إلى "ميليشيا وطنية". ويمكن هنا الاستدلال على الفارق بين هاتين الوحدتين من استعادة صورة اللقاء بين الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب على الحدود بين لبنان وسوريا في 8 فبراير/شباط 1959، في إطار "تنظيم" العلاقة بين الجمهورية اللبنانية و"الجمهورية العربية المتحدة" (بين مصر وسوريا). أي أنه وبغض النظر عن مآلات هذه الوحدة وموروثاتها، إلا أنها أقامت حدا أدنى ولو شكليا في الغالب من الحدود السيادية مع لبنان، أما الآن فإن هذه الحدود قد سقطت نهائيا بعد تحولها إلى محطة في "ممر المقاومة" بين طهران وبيروت، فعن أي حدود يتحدث جبران باسيل؟

font change

مقالات ذات صلة