قلق غربي من تنامي قوة الاقتصاد الروسي

تبدو روسيا اليوم وكأنها الاتحاد السوفياتي في التباين بين مستويات الإنتاج والاستهلاك

قلق غربي من تنامي قوة الاقتصاد الروسي

"إذا نظرت إلى روسيا اليوم، وجدت أن الإنتاج العسكري يرتفع، ​​والاستهلاك ينخفض. وذلك ما كان يبدو عليه الاتحاد السوفياتي إلى حد كبير - مستويات إنتاج مرتفعة ومستويات استهلاك منخفضة. وأعتقد في الواقع أن الاقتصاد الروسي يواجه أوقاتا عصيبة للغاية". هذا ما قالته كريستالينا جورجييفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، في فبراير/شباط 2024، عندما رفعت الهيئة المالية التي تقودها توقعات نمو إجمالي الناتج المحلي الروسي إلى 2.6 في المئة، مقارنة بتوقعاتها في أكتوبر/تشرين الأول 2023، التي كانت 1.1 في المئة فحسب.

وقد رفع صندوق النقد الدولي أخيرا هذا الرقم مرة أخرى، حيث يشير التوقع الجديد إلى نمو الاقتصاد الروسي بنسبة 3.2 في المئة في سنة 2024، وتلك وتيرة أسرع من جميع الاقتصادات المتقدمة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. فأين كانت "الأوقات الصعبة للغاية" المتوقعة وما الذي يحدث خلف الكواليس؟

أخطاء التوقعات

أول ما يجب النظر فيه هو مقدار صعوبة توقع أرقام النمو الاقتصادي في ظل خلفية غير متوقعة مثل الحرب الروسية في أوكرانيا. في أواخر سنة 2022، توقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الروسي في سنة 2023 بنسبة 0.7 في المئة فقط، وتوقع البنك الدولي أن ينكمش بنسبة 0.2 في المئة. وبالانتقال بسرعة إلى أوائل سنة 2024، أصبح من الواضح أن أداء روسيا فاق تلك التوقعات وارتفع بنسبة 3.6 في المئة في ذلك العام.

هوارد جيه شاتز، كبير الاقتصاديين في مؤسسة راند، فسر ذلك بأنه يرجع إلى الإنفاق الهائل للكرملين. وقال شاتز في فبراير/شباط 2024، مستعرضا سنة 2023: "تشهد روسيا تحفيزا ماليا ضخما، وذلك هو السبب الرئيس وراء النمو الروسي الذي نشاهده".

 يتوقع أن ينمو الاقتصاد الروسي في سنة 2023 بنسبة 0.7 في المئة فقط. وبالانتقال بسرعة إلى أوائل سنة 2024، تبين أن أداء روسيا فاق تلك التوقعات وارتفع بنسبة 3.6 في المئة

صندوق النقد الدولي

رأى اقتصاديون بارزون منذ مدة طويلة أن الارتفاع في إجمالي الناتج المحلي ليس أفضل مقياس لمعرفة إذا كان أداء البلد جيدا. وكما قال جوزيف إي ستيغليتز في سنة 2020، "لا يقيس هذا الرقم الصحة أو التعليم أو تكافؤ الفرص أو حالة البيئة أو العديد من المؤشرات الأخرى الى جودة الحياة. بل إنه لا يقيس جوانب حاسمة للاقتصاد مثل استدامته: هل يتجه نحو انهيار أم لا".

يعرّف صندوق النقد الدولي إجمالي الناتج المحلي بأنه "يقيس القيمة النقدية للسلع والخدمات النهائية - أي تلك التي يشتريها المستخدمون النهائيون - المنتجة في بلد خلال مدة معينة (مثل ربع سنة أو سنة). ويحسب كل المخرجات الناتجة داخل حدود البلد". لذا من الواضح أن الإنفاق الحكومي، بما في ذلك المبالغ الهائلة المخصصة للصناعة العسكرية، تظل عاملا رئيسا في هذا الاندفاع، كما ذكر شاتز في وقت سابق من هذا العام.

أ.ف.ب.
امرأة تمر أمام مقر البنك المركزي الروسي، في وسط مدينة موسكو في 6 سبتمبر 2023

ولكن على الرغم من عيوب إجمالي الناتج المحلي، فإن إدخال صندوق النقد الدولي تعديلا كبيرا على توقعاته لسنة 2024 في فترات قصيرة – من نمو نسبته 1.1 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 2.6 في المئة في فبراير/شباط 2024 و3.2 في المئة بعد ذلك بشهرين فقط - يعني أن هناك أسسا كافية لمعالجة المشكلة - هل تعمل العقوبات الغربية بنجاح؟

العقوبات والإنفاق

يصعب على المحللين الاتفاق على مقدار فاعلية العقوبات المفروضة على روسيا حتى الآن. ويرجع جزء من سبب ذلك في طبيعة الحال إلى أن الوضع لا يزال متقلبا، وأن ثمة عقوبات جديدة تفرض بانتظام. على سبيل المثل، بعد جولة العقوبات الجديدة التي أعقبت وفاة زعيم المعارضة الروسية ألكسي نافالني في فبراير/شباط 2024، لاحظ مركز ويلسون أن العديد من البنوك الصينية توقفت عن التعامل مع روسيا، مما يشير إلى أن الصين لم تعد قادرة على أن تكون الشريك الموثوق به الذي يحل محل الغرب. وقال الاقتصاديان ويليام إي بوميرانز ودين وايت إن أوائل سنة 2024 كانت فترة تزايد الإنفاق والقمع السياسي في روسيا، بالنظر إلى الانتخابات الرئاسية في مارس/آذار وأإن ذلك لا يمكن أن يدوم على المدى الطويل. واختتما تحليلهما لفاعلية العقوبات بملاحظة إيجابية، "على الرغم من المعارضين، فإن العقوبات المفروضة على روسيا تعمل بنجاح. وسيؤدي الوقت والتطبيق الحازم للضغط إلى تأثير أكبر على الاقتصاد الروسي".

الاقتصاد الروسي شبيه بحيوان كبير وصلب، من الصعب قتله بطلقة واحدة

ألكسندرا بروكوبنكو، مستشارة سابقة للبنك المركزي الروسي

يعترف محللون آخرون مثل بوب دين من معهد كلنغنديل بأن الأمور قد لا تسير وفق الخطة تماما. وتبدو الفرص التي يوفرها الوضع لبعض البلدان سببا كافيا لتجاهل الصورة الكبرى. وتواصل الهند تعزيز نموها بواردات النفط الرخيصة من روسيا، بوصفها أكبر مشترٍ لها من ذلك البلد في سنة 2023. وفي فبراير/شباط 2024، قدر أن النفط الروسي يشكل 32 في المئة من إجمالي واردات الهند. ومن المضحك مقارنة ذلك بأرقام ما قبل حرب أوكرانيا - في سنة 2021، استوردت الهند 1 في المئة فقط من النفط من روسيا. ويمكن قول الأمر نفسه على فرص البيع داخل حدود روسيا - إذ ارتفعت حصة المركبات الثقيلة الصينية الصنع مثل الشاحنات بنسبة 600 في المئة بعد الحرب، عندما انسحب الصناعيون الغربيون من السوق وتحول تركيز المنتجين المحليين إلى الطلبيات العسكرية.

رويترز
شاب يلوح بالعلم الروسي وسط الساحة الحمراء قبيل إنطلاق مسيرة إحياء الذكرى السنوية الأولى لضم روسيا أربع مناطق في أوكرانيا، موسكو، روسيا في 29 سبتمبر 2023

ولم تنجح العقوبات في قطع جميع إمدادات السلع الغربية عن روسيا. فقد عدّ كثيرون أن الاتحاد الاقتصادي للمنطقة الأوروبية الآسيوية - الذي يقيم شراكة تجارية بين دول مثل أرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان مع روسيا – بمثابة "باب خلفي" لمثل هذه السلع التي تدخل الاقتصاد الروسي. على سبيل المثل، ارتفعت التجارة بين الاتحاد الأوروبي وقيرغيزستان بنسبة تزيد على 1000 في المئة بعدما غزت روسيا أوكرانيا. ومن السذاجة الافتراض بأن كل تلك المنتجات كانت مخصصة للسوق القيرغيزية فحسب. ومع أن الاتحاد الأوروبي يحاول استخدام "عقوبات ثانوية" للضغط على الدول التي تتاجر مع روسيا، فإن من غير الواضح دائما ما الذي يعبر الحدود عند حدوث تجارة ثنائية.

وكما قالت ألكسندرا بروكوبنكو، التي كانت تعمل مستشارة للبنك المركزي الروسي قبل غزو أوكرانيا، "الاقتصاد الروسي شبيه بحيوان كبير وصلب، من الصعب قتله بطلقة واحدة. الاقتصاد يعمل جيدا على المدى القصير جداً. ويستند ذلك النمو بالطبع إلى إيرادات الصادرات والإنفاق المرتفع. وقد فاق التغيير التقديري لرصيد الموازنة الذي أقدمت عليه السلطات الروسية في سنتي 2022 و2023 نسبة 10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو أعلى مستوى تاريخي".

أ.ف.ب.
أشخاص يعبرون شارعا أمام لوحة إعلانية لدعم الجيش الروسي بحرف "Z" ومكتوب أسفله عبارة "لا تتخل عن شعبنا"، في مدينة سانت بطرسبيرغ في 7 مارس 2022

هل هناك أسباب للتفاؤل؟

ما الذي يمكن أن يتوقعه العالم من أداء الاقتصاد الروسي؟ تختلف الإجابة تماما عند تحويل التركيز من منظور قصير أو متوسط إلى منظور طويل الأمد.

الطفرة في التجارة بين روسيا والصين أخبار رائعة للكرملين على المدى القصير، لكنها تطرح مشكلة كبيرة عندما ينظر في أن الحرب في أوكرانيا يجب أن تنتهي عاجلا أم آجلا. وهكذا قالت ألكسندرا بروكوبنكو في مقابلة مع "دويتشه فيلا" في أبريل/نيسان 2024: "عندما ركز منتجو المركبات الروس مثل "أورال" و "كاماتز" على الاستعاضة عن الواردات وتلبية طلبات الجيش والدولة، استحوذت الصناعة الصينية على السوق وسيكون من الصعب جدا إخراجها إذا انتهت الحرب، وعندما تنتهي".

يعد الإنفاق العسكري الروسي عاملا رئيسا في استمرار النمو الاقتصادي للبلاد. فقد حددت موازنة سنة 2024 التي أقرها مجلس الدوما الروسي قبل بضعة أشهر زيادة بمقدار 20 في المئة في الإنفاق الحكومي

وكما صرح العديد من المحللين، يعد الإنفاق العسكري الروسي عاملا رئيسا في استمرار النمو الاقتصادي للبلاد. فقد حددت موازنة سنة 2024 التي أقرها مجلس الدوما الروسي قبل بضعة أشهر زيادة بمقدار 20 في المئة في الإنفاق الحكومي، وشكل الإنفاق العسكري ثلث الموازنة بأكملها. وكان من المنتظر أن تصل موازنة الجيش إلى 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي الروسي، وهي النسبة العليا على الإطلاق منذ الاتحاد السوفياتي.

لكن هل يمكن الحفاظ على هذا الإنفاق ومن أين ستأتي تلك الأموال؟ يدرس فلاديمير بوتين إدخال تغييرات على النظام الضريبي للسماح للدولة بجني مزيد من الأموال من المواطنين والشركات. ضريبة الدخل الشخصي التي يدفعها معظم الروس اليوم تبلغ 13 في المئة فقط، لذا هناك مجال للزيادة، لا سيما في أوساط المواطنين ذوي الدخل المرتفع، من دون أن يثير ذلك كثيرا من الغضب. وتبلغ الضريبة الحالية على أرباح الشركات 20 في المئة، وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أخيرا أن الكرملين يخطط لرفعها إلى 25 في المئة. كما أن الموازنة الروسية لا تزال تعتمد على أسعار النفط، لذلك ربما تخضع هذه الأرقام للتعديل إذا تعرضت هذه السوق للاضطرابات. ولا يزال رد فعل المواطنين على المدى الطويل تجاه الضرائب غير معروف. 

من العوامل الأخرى التي تجب مراعاتها على المدى الطويل أن روسيا ربما تخسر حرب التكنولوجيا. وتقول بروكوبنكو: "فقدت روسيا ادعاءاتها بالريادة في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا البيولوجية الطبية. وتواجه الصناعات الروسية صعوبة في الحصول على الأجهزة والبرمجيات، لذا فإنها تنتقل من الشركات الغربية إلى الحلول الصينية".

عندما توقعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كرستالينا جورجييفا، تلك "الأوقات الصعبة للغاية" للاقتصاد الروسي، أوضحت أن ذلك "يرجع إلى تدفق الناس إلى الخارج وتراجع فرص الوصول إلى التكنولوجيا الناتج من العقوبات". وأضافت بثقة: "على الرغم من أن هذا الرقم يبدو جيدا، فإن هناك قصة أكبر وراءه وهي ليست قصة جيدة جدا". سيكشف الوقت هل سيكون ذلك صحيحا. وقد يكون الوقت في الواقع العامل الحاسم بين قصة تنتهي بخاتمة سعيدة للاقتصاد الروسي أو بمأساة للكرملين.

font change

مقالات ذات صلة