قلّما ما يكشف الكتّاب في يومياتهم ومحاوراتهم عن مسودّة العناوين البكر التي سبقت اختيارهم لعناوين رئيسة حسموا بها ختم أعمالهم بصيغة نهائية، كي تكون دمغة الاسم الجدير بشهادة ازدياد مؤلفاتهم على نحو رسمي وذائع.
تتراجع العناوين الأخرى المفكر فيها إلى الظل مع صدور العمل، بل تُنسى كأنها لم تكن، ومصيرها هو قمامة العدم.
ما المعنى في إعادة نبش رماد هذه القوائم الخاصة بالعناوين التي كانت مرشحة لتتقلد صدور هذه الأعمال الإبداعية، قاب قوسين أو أدنى من أن يكون أحدها هو وَسْمُ وجهِ هذا الكتاب وذاك، لولا أن قُدّر لآخر أن يظفر بهذه الفضيلة في آخر المعترك؟
ما الذي يضيفه معرفة هذا الجانب المظلم من معركة حسم العناوين الشبيهة بسباق ماراثون، وماذا عساه يضيء، يزيد أو ينقص؟
ربما لا شيء سوى دافع الفضول، زد عليه مسألة الطرافة التي ينطوي عليها، فضلا عن مسار التوتر الذي احتشدت في نفقه احتدامات الأسماء وهي تتماوج في ذهن الكاتب، مؤرقة إياه حدّ الجنون، قبل أن يفوز أحدها بلقب الخروج إلى النور.
رواية "مائة عام من العزلة" كانت مسودتها تحمل عنوان "البيت"، وقبلها رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، كانت تحمل عنوان "كل شيء على ما يرام"
في الرواية مثلا لا حصرا، نلفي بعض الأمثلة لنصوص سردية عالمية، عانى أصحابها ثقل حمل أكثر من بيضة في سلة العناوين المنذورة لأعمالهم التخييلية، وظلّ المنتقى منها ملازما لمخاض الكتابة حتى اللحظة الأخيرة من عملية التفقيس قبل الدفع بالرواية إلى النشر:
فرواية غارسيا ماركيز ذائعة الشهرة "مائة عام من العزلة" كانت مسودتها تحمل عنوان "البيت"، بل روايته الأسبق "في ساعة نحس" هي الأخرى كانت مسودتها تحمل عنوان "هذه المدينة القذرة".
وقبلها رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، كانت مسودتها تحمل عنوان "كل شيء على ما يرام إذا انتهى على ما يرام".
ونلفي بعدئذ نموذج"الصخب والعنف" لوليم فوكنر وكانت مسودتها في الأصل تحمل عنوان "الشفق"، ورواية ثانية له هي "ضوء في أغسطس" كانت مسودتها أيضا تحمل عنوانا آخر هو "البيت المظلم".
أما رواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فتيزجيرالد فكانت مسودتها تحمل أكثر من عنوان منها: غاتسبي- بين أكوام الرماد وأصحاب الملايين- تريمالشيو- تريمالشيو في ويست إيغ- على الطريق إلى ويست إيغ- تحت الأحمر والأبيض والأزرق- غاتسبي ذو القبعة الذهبية- العاشق ذو القفزة العالية.
وحالة فيتزجيرالد تذكرنا بحالة ديكنز فيما يخص تعدد العناوين المقترحة في المسودة، إذ بلغ عدد ما خمّنه واحتمله الأربع عشرة عنوانا لروايته "الأوقات الصعبة" ومنها: بحسب كوكر- إثبات ذلك- الأشياء العنيدة- حقيقة السيد غرادغريند- حجر الرحى- اثنان واثنان يساويان أربعة- شيء ملموس- صديقنا العنيد- الصدأ والغبار- عملية حسابية بسيطة- مسألة أرقام- فلسفة غرادغريند.
وفي المنحى ذاته كانت رواية "الشمس تشرق أيضا" لهمنغواي تحمل مسودتها عنوان "فييستا".
وإذا ما تقصّينا كلاسيكيات الرواية العالمية سنجد أنّعملا تخييليا موجها للفتيان مثل "جزيرة الكنز" لروبرت لويس ستيفنسون كانت مسودته تحمل عنوان "طباخ البحر"، ومثله رواية "فرانكنشتاين" لماري شيلي كانت مسودتها تحمل عنوان "بروميثيوس بلا قيود".
وعلى هذا النحو كانت رواية "كبرياء وتحامل" لجين أوستن التي تحمل مسودتها عنوانا مسبقا هو "الانطباعات الأولى"، الشيء نفسه مع رواية "عن الفئران والرجال" لشتاينبك إذ كانت مسودتها تحمل عنوان "شيء حدث"، وكذلك رواية "أن تقتل طائرا مغنيا" لهابر لي وكانت مسودّتها تحمل عنوان "أتيكوس"، وغير بعيد مارغريت ميتشل أيضا وضعت أكثر من عنوان لروايتها "ذهب مع الريح" وكانت مقترحات مسودتها قبل أن تتغيّر: غدا يوم آخر- ليس في نجومنا- الأبواق تغني الحقيقة. ورواية "سيد الذباب" لوليام غولدينغ كانت مسودتها تحمل عنوان "الغرباء من الداخل". ورواية "القلب صياد وحيد" لكارسون ماكولزر كانت مسودتها تحمل عنوان "الأخرس".
ثمّ نقفز إلى الأزمنة المعاصرة ونصادف رواية 1984 لجورج أورويل وقد كانت مسودتها تحمل عنوان "الرجل الأخير في أوروبا". ورواية "لوليتا" لنابوكوف كانت مسودتها تحمل عنوان "مملكة البحر". ورواية " فهرنايت 451" لراي برادبوري كانت مسودتها موسومة بعنوان "رجل الإطفاء"، ورواية "الفردوس" لتوني موريسون كانت مسودتها تحمل عنوان "الحرب".ورواية "حكاية الخادمة "لماغريت آتوود كانت مسودتها تحمل عنوان "أوفريد"...
هذا ينسحب على الرواية العربية أيضا، غير أن التصريح بحساب العناوين التي كانت قَيْدَ مسودّاتِها قبل أن تتغيّر مع النشر نادرٌ في مكاشفات الكُتّاب العرب، وبخاصة إذا ما كان المحرّر أو النّاشر هو من قام باستبدالها.
العمل الروائي مثله مثل أي عمل أدبي وفني يخضع لسيرورة إبدالات على طول فترات إنجازه الشاق
من الطبيعي أن تتغيّر العناوين المسبقة، أصليّة كانت أو لاحقة أو طارئة، فالعمل الروائي مثله مثل أي عمل أدبي وفني يخضع لسيرورة إبدالات على طول فترات إنجازه الشاق، بما في ذلك حتمية الشطب والحذف خلال عمليات التنقيح والتدقيق وإعادة التركيب أو الكتابة من جديد، بلوغا إلى الصوغ النهائي ومنه ختم العنوان بلا هوادة، إمّا تأكيدا له بقناعة تامّة أو تغييره بجسارة، غير أنّ الأسباب التي تقف خلف تغيير العناوين الأصلية لا تتشابه، فمنها ما يفرضه المحرّر لأسباب تجارية، ومنها ما يطاوله الإبدال بالإكراه لأسباب سياسية بالنظر إلى اللحظة التاريخية المزمنة التي ينتمي إليها الروائي، إذ أن هاجس الاعتقال وربما الاغتيال من العواقب الوخيمة التي تنتظره انطلاقا من شبهة العنوان، ومنها ما هو اجتماعيّ أيضا بالنظر إلى تحاشي الصدمة الأخلاقية التي قد يحدثها العنوان في منظومة اجتماعية محاصرة بسقف التقاليد الواطئ، أو مقيدة بأحكام منظومة دينية ضيقة وغيرها... دون استبعاد ما هو أهم من الأسباب الأخرى وهي جمالية خالصة، وأبلغها عدم اطمئنان الروائي نفسه للعنوان الأصلي، الذي ظل يرافقه على طول فراسخ إبداع العمل الروائي، وتخلى عنه عن مضض في آخر المطاف، بعد أن برق له عنوان بديل فجأة، أبصر في هبة لمعته الخارقة ما يستوعب أغوار الكتاب، ليكون جديرا بتصدر الغلاف وجها وقفا وما بينهما من تضاعيف وتشعبات.