"مطار القليعات" خارج قبضة "حزب الله"... هل ينجو من مصيدة الطائفية؟

فرصة اقتصادية واعدة تنعش شمال لبنان وتربطه بشبكة النقل الإقليمية

نواب خلال زيارة مطار رينيه معوض-القليعات

"مطار القليعات" خارج قبضة "حزب الله"... هل ينجو من مصيدة الطائفية؟

لعل أهم ما جسده "مطار رينيه معوض-القليعات" في شمال لبنان، قبل تعرضه للقصف الاسرائيلي خلال حرب تموز/يوليو 2006، حيث كان يستخدمه الجيش اللبناني ولا يزال، كان ذلك المنعطف التاريخي، حين حطت طائرة "بوينغ 707" في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، وعلى متنها نواب البرلمان الذين توجهوا إلى إحدى قاعات المطار، حيث أعيد انتخاب حسين الحسيني رئيسا لمجلس النواب، وأُقرت وثيقة اتفاق "الطائف" التي شكلت ملامح الحقبة السياسية اللاحقة، وانتخِب رينيه معوض رئيسا للجمهورية، وما لبث أن اغتيل بعد 17 يوما، فسمّي المطار باسمه، تكريما له.

ويبدو أن المنعطف الثاني قد دقت ساعته الآن. فبعد موت المطار السريري منذ 35 عاما، وتكريس جهود متواصلة لخبراء ومشرعين وهيئات اقتصادية ومدنية، يتبلور قرار إعادة تشغيل "مطار رينيه معوض - القليعات"، بعد إدراج المشروع ضمن "البيان الوزاري" للحكومة اللبنانية.

وفي خطوة رمزية، أقلت طوافة عسكرية رئيس الحكومة نواف سلام إلى مطار القليعات خلال زيارته الأخيرة لمحافظة الشمال، حيث جدد تأكيد البدء بالمشروع، وأعلن تكليف شركة "دار الهندسة" إعداد دراسة مجانية لتشغيل المطار، على أن يُقدَّم تصوّر أولي لمخطط توجيهي لانطلاق آلية العمل، خلال ثلاثة أشهر.

من المعروف أن الثنائي الشيعي ("حزب الله" و"حركة أمل") كان يسيطرعلى مطار بيروت، كما هو الحال مع غيره من المعابر والمرافق العامة في البلاد، وجعل الطريق اليه مسرحا لقطع الطرق والرسائل السياسية

يوفر هذا المرفق بوابة لنمو اقتصادي متنوع وزيادة تدفق الرحلات المدنية، حيث يعدّ لبنان من الدول القليلة التي تستخدم مطارا مدنيا واحدا، هو "مطار رفيق الحريري الدولي" في بيروت. والمعروف أن الثنائي الشيعي ("حزب الله" و"حركة أمل") كان يسيطر على مطار بيروت، كما هو الحال مع غيره من المعابر والمرافق في البلاد، وجعل الطريق اليه لجهة الضاحية الجنوبية لبيروت مسرحا لقطع الطرق والرسائل السياسية، وذلك قبل بداية انحسار هذه الهيمنة في مطار نفسه، عندما مُنع هبوط الطائرة الإيرانية المشتبه بمحمولاتها، ثم صدر قرار حظر الطيران الإيراني إلى بيروت.

بوابة اقتصادية واستثمارية مهمة

يفيد التذكير بمطالب شعبية ورسمية لتشغيل مطار القليعات خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ليكون بديلا للمسافرين في حال تكرار سيناريو حرب تموز 2006 وضرب مطار بيروت، فضلا عن إشباع القدرة الاستيعابية للأخير، لا سيما خلال مواسم الذروة في الأعياد والاصطياف. وتجمع دراسات من جهات رسمية وتخصصية على أن مطار القليعات هو الأنسب ليكون قاعدة جوية مدنية ثانية، ويحتاج فقط إلى الصيانة والتجهيز والتمويل.

رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام خلال زيارته إلى مطار القليعات الشهر الماضي

وعلى الرغم من البوادر الإيجابية، وانحسار العقبات السياسية السابقة، يخشى متابعون من عرقلة المشروع أو بنائه بطريقة التراضي تلبية للمحاصصات الطائفية. فهذا عرف لبناني مكرس، لا يستثني أي مشروع أو تعيين، وقد يستعصي على التقلبات في المشهد السياسي الجديد.

رسا لبنان على مسار تمويل المشروع من خلال نظام البناء والتشغيل ونقل الملكية (B.O.T.)، الذي بموجبه يتحمل المستثمر تكاليف تأهيل مطار القليعات وتشغيله، في مقابل استردادها على مدى عدد محدد من السنوات.

يتطلب استقطاب المستثمرين دراسة شاملة للمواصفات الفنية والجدوى الاقتصادية، إلى جانب التنسيق مع الجهات المعنية لضمان تحقيق أعلى معايير السلامة والخدمات

وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني فايز رسامني

وقال وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني فايز رسامني لـ"المجلة" إن "استقطاب المستثمرين يتطلب دراسة شاملة للمواصفات الفنية والجدوى الاقتصادية، إلى جانب التنسيق مع الجهات المعنية لضمان تحقيق أعلى معايير السلامة والخدمات. والوزارة في طور استكمال الدراسات والإجراءات المطلوبة لتوفير بيئة استثمارية جاذبة وشفافة، ومن ثم إطلاق المناقصات وفقا للأصول القانونية. أما بالنسبة لانطلاق أول رحلة جوية، فإن ذلك يعتمد على استكمال مراحل العمل بما يضمن التشغيل الأمثل وفق أعلى معايير الطيران المدني، وهو ما تلتزمه الوزارة في إطار خطتها الاستراتيجية لتطوير قطاع النقل الجوي في لبنان".

.أ.ف.ب
طائرات تابعة لطيران الشرق الأوسط، في مطار رفيق الحريري الدولي بيروت 19 مارس 2020

ملف "مطار القليعات" أعاد إلى الواجهة، المطالبة بوجود هيئة رسمية تتولى تأهيل المطارات في لبنان والإشراف عليها، حيث ينص القانون 481/2002 على تشكيل "الهيئة العامة للطيران المدني"، ويمنحها هيكلية واضحة واستقلاليّة ماليّة وإدارية. وعلى الرغم من تحديد مهام الهيئة في المرسوم الاشتراعي 12632 عام 2004، لم تُنفّذ هذه الخطوة، فأسنِد الدور إلى المديرية العامة للطيران المدني، وهو يتخطى مهامها الأصيلة ومواردها. وقد ساهم هذا الترقيع الإداري منذ أكثر من عقدين في تردي أوضاع المطارات في لبنان، وبالتالي، لا ضمان لتشغيل مطار القليعات على قواعد سليمة وشفافة.

أجاب الوزير عن هذه المفارقة بالقول "إن وزارة الأشغال العامّة والنقل تولي قطاع الطيران المدني أهمية كبرى، وتعمل على تنفيذ القوانين النافذة بما يتماشى مع المصلحة الوطنية ومتطلبات السلامة والمعايير الدولية. في هذا الإطار، فإن تشكيل الهيئة العامة للطيران المدني هو أحد الملفات التي تتابعها الوزارة بجدية".

مشروع إقتصادي وإنمائي

مطار القليعات هو واحد من مجموعة مطارات رديفة في لبنان، تشمل مطار حامات في قضاء البترون شمالا، المؤهل لاستقبال الطائرات المروحية والصغيرة، ومطار رياق في وادي البقاع، ويعد أول قاعدة جوية لبنانية، ومعظم طائراته خارجة عن الخدمة. وهناك مطار الخيام في جنوب لبنان الذي استخدم في حروب إقليمية وانهارت مرائبه من دون الاهتمام بتأهيلها، ومطار بعذران في منطقة الشوف الذي شيّده الزعيم كمال جنبلاط لدواعٍ حربية ثم تحول إلى موقع سياحي.

يمتد مطار القليعات على مساحة 5,5 ملايين متر مربع على الساحل الشمالي للبنان في سهل عكار، ويبعد 7 كيلومترات عن الحدود السورية-اللبنانية، و25 كيلومترا عن طرابلس و105 كيلومترات عن بيروت

يمتد مطار القليعات على مساحة 5,5 ملايين متر مربع على الساحل الشمالي للبنان في سهل عكار، ويبعد 7 كيلومترات عن الحدود السورية-اللبنانية، و25 كيلومترا عن طرابلس و105 كيلومترات عن بيروت، ويتصل بشبكة طرق دولية ساحلية وداخلية، وبالتالي، سيشكل تشغيله خطوة أولى في التخلي عن مركزية التنقل المحصورة في بيروت، وانتعاشا في العجلة الاقتصادية تترقبه طرابلس وعكار بحماسة كبيرة.

موقع مميز وفرص عمل

وكان المدير العام الأسبق للطيران المدني اللبناني الدكتور حمدي شوق قد أعد دراسة لتأهيل مطار القليعات وتوسعته، واستعرض لـ"المجلة" أبرز نقاط القوة والفرص التي يقدمها المشروع:

- توفير رحلات للركاب والشحن الداخلي والدولي من خلال شركات طيران منخفضة الأسعار، ولشبكة مطارات ثانوية وأساسية لرحلات جوية قصيرة.

- مسارات الطيران الدولية تمر فوق المطار بشكل مباشر مما يساعد في خفض التكاليف على الطائرات التي تنطلق من  القليعات واليه.

- يوفر المطار 5000 فرصة عمل في مجالات مختلفة.

- إمكان زيادة مساحة المطار إلى 10,452 ملايين متر مربع، وتوسيع مدرج المطار من 3200 إلى 4000 متر، واحتضان منطقة للتجارة الحرة بمساحة 2,243 مليون متر مربع.

- بفضل موقعه الجغرافي في لبنان ومحاذاته لسوريا، يستطيع المطار أن يخدم شمال لبنان والساحل السوري، كما أن مدرجه يتناسب مع حركة الرياح في 90 في المئة من أيام السنة.

- ربط المطار بمحيطه القريب ومن خلال النقل المتعدد الوسائط بما فيها السكة الحديد المتصلة بسوريا والخليج، وربطه بدول الخليج وبالموانئ الحرة في جدة وجبل علي في الإمارات وغيرها، وبالتالي ربط البحر المتوسط بالخليج العربي نحو آسيا.

-في حال توسيع المطار، ستحقق المنطقة الحرة ومستودعات البضائع نموا اقتصاديا من خلال استيعابها نحو 173 ألف طن من البضائع وقد ترتفع إلى نصف مليون طن إذا أدرج المطار في برنامج إعادة إعمار سوريا.

يمثل مشروع مطار القليعات فرصة إنمائية واقتصادية لشمال لبنان بشكل خاص وللبنان عموما، ويضاعف الفوائد الإنمائية المحلية من خلال السياحة التي تساهم بمعدل 7 مليارات دولار سنويا في خزينة الدولة

رئيس لجنة متابعة مطار القليعات، حامد زكريا

وقال شوق إن المرافق والتجهيزات تستدعي إعادة بناء ما عدا المدرج الذي يحتاج إلى ترميم متوسط. كما يحتاج المطار إلى مبنى للركاب ومبنى للشحن والخدمات وتخليص البضائع والصيانة وغيرها بشكل لائق وملائم للأنظمة الدولية والمعايير العالمية للمطارات.

من جهته، أكد رئيس لجنة متابعة مطار القليعات، حامد زكريا، في حديثه لـ"المجلة"، أن المشروع يعدّ فرصة إنمائية واقتصادية لشمال لبنان بشكل خاص وللبنان عموما، لافتا إلى الفوائد الإنمائية المحلية من خلال السياحة التي تساهم بمعدل 7 مليارات دولار سنويا في خزينة الدولة.

الوكالة الوطنية للإعلام

وأضاف أن "أصحاب المشاريع السياحية والمطاعم في عكار وجوارها جاهزون لمواكبة إعادة تنشيط هذا المرفق، كما سيساهم المشروع في جذب الاستثمارات في السياحة البيئية، خصوصا أن المناطق المحيطة تتمتع بتنوع بيولوجي ومحميات ومواقع طبيعية خلّبة، لكنها بقيت مغمورة. ولطالما شكل بعدها الجغرافي عن بيروت واحدا من العوامل التي أبقت هذه المنطقة بعيدة عن الأنظار وعن برامج السياحة الداخلية والخارجية".

زوال الدعاية السياسية وليس مطارا بديلا

بحسب مجلة "الجيش اللبناني" في عدد مايو/أيار 2011، أنشأ الحلفاء مطار القليعات في العام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية. ثم استخدمته شركة نفط العراق (IPC) خلال تشغيلها مصفاتها للنفط في شمال لبنان، لتسيير رحلات الطائرات الصغيرة التابعة للشركة في أعمالها ولسفر الموظفين. وفي العام 1966 تسلمه الجيش اللبناني وحوله إلى قاعدة عسكرية وحظائر لطائرات "ميراج" الفرنسية التي اشتراها من فرنسا.

طوال سنوات روجت الدعاية السياسية لـ"حزب الله" لفكرة أن مطار القليعات سيكون بوابة تهريب سلاح داعم لأميركا من شمال لبنان، وأنه سيكون بديلا من مطار بيروت الدولي

وخلال الحرب اللبنانية، وخطورة الطرق بين طرابلس وبيروت بسبب حواجز ميلشياوية، وبضغط من رئيس الوزراء الراحل رشيد كرامي، استخدِم المطار للرحلات الداخلية، وقامت شركة "ميدل إيست" خلال عامي 1988-1990 بتسيير رحلات من بيروت إليه.

.أ.ف.ب
أنصار حزب "الله" يقطعون طريق مطار بيروت في 7 فبراير 2025

ومع تفاعل ملف المطار أخيرا، صدته فورة من التعبئة الجماهيرية المناصرة لـ"حزب الله"، حيث روّجت لفكرة أن مطار القليعات سيكون بوابة تهريب سلاح داعم لأميركا من شمال لبنان، وأنه سيكون بديلا من مطار بيروت الدولي، الأمر الذي نفاه وزير الأشغال العامة والنقل بالقول: "لن يكون مطارا بديلا وإنما مطار ثان، علما أننا سنطور مطار بيروت ونوسعه"، كما انحسرت فرضية خطورة الأجواء السورية المحاذية للمطار.

أهمية إنشاء "شركة إدارة المطارات" في لبنان

في هذا السياق علق زكريا أنه "منذ تأسيس لجنة متابعة مطار القليعات في عام 2011، تلقينا وعودا حكومية بإعادة تشغيل المطار لكنها لم تسلك مسار التنفيذ. علما أنه، ومنذ توقفه عن العمل من دون مبرر عام 1990، كان يصطدم بعراقيل دائمة تحول دون إعادة تشغيله، وذلك بسبب الهيمنة السورية على لبنان (1990-2005)، تلاها الثنائي الشيعي (2005-2025). وعليه، فإن نجاح هذا المشروع يقضي اليوم بتحصينه ضد المشاحنات السياسية والتراضي الطائفي، والتعاطي معه من زاوية المكاسب الاقتصادية والانمائية".

وختم زكريا بمطالبة الحكومة اللبنانية بـ"أن تنجز فورا تعيين أعضاء الهيئة العامة للطيران المدني وتفعيلها بعيدا من المحاصصة الطائفية وسمسرات السياسيين، وتطبيق القانون 481 المعطل، وإنشاء 'شركة إدارة المطارات' وفق الأصول الدولية، وهي بدورها تصدر دفتر الشروط لبناء مطار دولي في القليعات، وتاليا لا حاجة لتكليف أي مكتب هندسي لإعداد مخطط توجيهي، لأن الشركات الدولية المتخصصة ببناء المطار والمتحالفة مع المصارف لن تستثمر بدون وجود قانون يحمي استثمارها، وهي بدورها ستقوم بإعداد الدراسات الإقتصادية والفنية، وهذا هو المدخل الصحيح لتشغيل مطار رينيه معوض وتطوير مطار بيروت وقطاع الطيران بشكل عام".

font change