إيتالو كالفينو كاتبا للسيناريو

خمس تجارب بين السينما والتلفزيون

AlMajalla
AlMajalla

إيتالو كالفينو كاتبا للسيناريو

انفتح الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو على السينما والتلفزيون منذ بداية ستينات القرن الماضي، ككاتب للسيناريو، إما كمشارك أساس في عمل جماعي، أو مستقلا في عمل فردي، ولم تتجاوز مغامراته في هذا الإنجاز الخمس تجارب، بدءا بجزء من الفيلم الرباعي "بوكاتشيو70"، وانتهاء بسلسلة "فانتاغيرو".

وإن كانت كتابات إيتالو كالفينو القصصية والروائية، أو مجمل حكاياته الفانتازية، قائمة على لغة بصرية ذات نزوع مركب سينمائيا، فلم تكن علاقته بالكتابة الفعلية للسينما إلا محتشمة، ظلية، صامتة ومقوضة، الى درجة أن الكثير ممن يعرفونه كروائي مدهش لا يمكن القفز على اسمه اللامع في مكتبة القرن العشرين الروائية، يجهلون حقيقة كتابته للسيناريو في مناسبات نادرة، لم تحظ بالتقدير الجليل القمين بأثرها الفني.

"بوكاتشيو 70" (رينزو ولوسيانا)

في طليعة الأفلام التي شارك إيتالو كالفينو بكتابة سيناريو أحد أجزائه الرئيسة، فيلم "بوكاتشيو 70" الذي يتكون من أربع حلقات، في ما يشبه متوالية، من إخراج أربعة مخرجين إيطاليين، كل على حدة ينفرد بحلقة سينمائية من الرباعية الفنية، هم بالتعاقب: فيتوريو دي سيكا، لوتشيانو فيسكونتي، فيديريكو فيلليني، وماريو مونيتشيلي.

صدر فيلم "بوكاتشيو 70" عام 1962، بمنحى كوميدي أسود، يعالج موضوعات متعددة، المشترك بينها تقلبات القيم الاجتماعية في الأزمنة الحديثة، عبر حكايات تتقاطع مصائرها وفق خيوط مفتولة من الدعابة والغرابة في آن. السلسة ككل، اقترحها كفكرة تشيزاري زافاتيني، ملتفتا إلى الكاتب جيوفاني بوكاتشيو في تحفته الموسومة بالديكاميرون، كيما تضيء نزعتها التراثية الساخرة رمادية الحياة الانسانية المعاصرة للقرن العشرين.

اختص إيتالو كالفينو بكتابة جزء "رينزو ولوسيانا" إلى جانب جيوفاني أربينو وسوسو تشيتشي داميكو وماريو مونتشيلي، هذا الأخير الذي قام بإخراجه، مع أن السيناريو مؤسس على قصة قصيرة لكالفينو بعنوان "مغامرة الزوجين 1958"، وقد أدرج النقاد الفيلم بوصفه كوميديا إيطالية، وإن كانت واقعيته الاجتماعية دامغة فضلا عن دنوه الصريح من الدراما التلفزيونية السائدة لحظتئذ، مع تصاعد حوادث البلدات الصناعية الجديدة المنتشرة بشكل لافت.

المفارقة أن يكون الفيلم هو الأكثر واقعية مع خط توثيقي درامي من بين الأجزاء الثلاثة التي سبقته، ومع ذلك يصنف عملا كوميديا، والغريب أن يطاوله المنع دون الأجزاء الثلاثة الآنفة

موجز القصة يدور بين رينزو ولوسيانا اللذين يعملان في مصنع يفصل بين العمال والعاملات بذريعة التصدي لانخفاض وتيرة الانتاج، فيضطر الثنائي للتستر على حقيقة ارتباطهما مع انتقال لوسيانا إلى شقة أسرة رينزو، تحت طائل رفض والده، مخافة أن يفقد وظيفته. أكثر من ذلك تكتشف لوسيانا حملها الطارئ، فيما يراقبها رئيس مجموعة الطباعة في العمل بدقة مخططا للنيل منها دون أن يعرف بأمر زواجها، وهذا ما يغنمه حينما يضبطهما يتبادلان القبل، ويعترف رينزو بزواجه منها فيطرد حتما، بينما تستقيل هي، ويضطران للانفصال، هو إلى فرصة عمل جديدة، وهي مستقلة الحافلة من روما إلى المجهول.

صوفيا لورين في فيلم Boccaccio '70

المفارقة أن يكون الفيلم هو الأكثر واقعية مع خط توثيقي درامي من بين الأجزاء الثلاثة التي سبقته، ومع ذلك يصنف عملا كوميديا، والغريب أن يطاوله المنع دون الأجزاء الثلاثة الآنفة، مع أنه يشترك معها في النظرة المتحولة للأجيال الإيطالية تجاه المرأة بالاستناد إلى ديكاميرون كمنطلق استيهامي، والصورة في المجمل هي المرأة كضحية لمنظومة رجعية.

عرض هذا الجزء مرة واحدة في التلفزيون الايطالي بينما حذف من الرباعية، وتضامنا مع مخرجه مونيتشيلي، لم يحضر المخرجون الثلاثة الآخرون "مهرجان كان السينمائي" لعرض الفيلم.

GettyImages
الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو في منزله في باريس، 5 ديسمبر 1974

"الحب الصعب"

يعيد كالفينو مغامرة كتابة السيناريو في فيلم ثان من إخراج مشترك بين ألبرتو بونوتشي ولوتشيانو لوتشينياني ونينو مانفريدي وسيرجيو سوليما، ويحمل عنوان "الحب الصعب" الصادر عام 1962، وهو مأخوذ من قصة "مغامرة الجندي" 1949، وجدير بالإشارة إلى أن الفيلم ذاته معروف بعنوانين بديلين: "الحب المتقلب" أو "قد يكون الجنس صعبا".

موجزه عودة جندي في القطار إبان إجازة، ملاقيا امرأة على متن الرحلة، يتضح أنها أرملة، والطرافة ألا يجمعهما حوار صريح، إذ لا ينبس أحدهما للآخر بكسرة كلمة يتيمة، غير أن لغة الإيماءات كانت كفيلة بنقل توتر المشهد بملء انفعالاته، وتلك هي لذوعية الاشارة السينمائية الأبلغ من العبارة، الى درجة اعتبرته صاحبة كتاب "الخوف من الطيران"، إيريكا يونغ، حالة نادرة وفصيحة للانفجار الجنسي المحتدم.

"الحب الصعب"

يمثل الفيلم أول تجربة إخراجية للمؤلفين الأربعة، الذين كانوا جميعا من ذوي الخبرة في مجالات أخرى في صناعة السينما -مانفريدي وبونوتشي كممثلين، ولوسينياني وسوليما ككاتبين- وتستند الحلقات الأربع إلى قصص قصيرة لروائيين إيطاليين مشهورين، ماريو سولداتي، ألبرتو مورافيا، إيتالو كالفينو، وإركول باتي، تتشارك جميعا موضوعات الحب والخيانة.

"تيكو والقرش" وماركوفالدو

لا تقف مغامرة كالفينو في كتابة السيناريو عند هذا الحد ويواصل غواية العمل السينمائي، في تجربة فيلم "تيكو والقرش" من إخراج فولكو كيليتشي عام 1962، وهو مقتبس من رواية "تي-كويو وقرشه" للكاتب كليمنت ريتشر، وكما يعلن عنوانه فالحكاية غرائبية حول صداقة مدهشة بين صياد وسمك قرش تبدأ منذ طفولتهما.

دينيس بويرا في فيلم Tiko and the Shark

يرجع كالفينو إلى قصصه الأثيرة مرة أخرى ويكيف حكايات ماركوفالدو الشهيرة لصالح التلفزيون وفق سلسلة مختصرة من ست حلقات بدل العشرين قصة قصيرة كما هي في متن الكتاب الأصل، أخرجها جوزيبي بيناتي بالاشتراك مع مانليو سكاربيلي وساندرو كونتينينزا، عام 1970.

انتهت تجربة كالفينو في كتابة السيناريو، مع أحد أجزاء مسلسل "فانتاغيرو" الشهير باسم "كهف الوردة الذهبية" الذي يتكون من خمسة أجزاء

بدءا بالحلقة الأولى نكتشف إيطاليا ما بعد الحرب، عبر شخصية ماركوفالدو الموظف في شركة في تورينو، الذي يعيش مع أسرته في الطابق السفلي، زوجة وثلاثة أطفال، إذ يجد صعوبة في الوصول إلى العمل في الوقت المناسب عبر دراجته الهوائية مما يعرض راتبه للاقتطاع، وانتهاء بالحلقة السادسة مع دنو الشتاء، وحمى أعياد الميلاد، فيما يشعر ماركوفالدو وأسرته بقسوة البرد مع الافتقار لمال يخوله الحصول على رزنامة حطب للتدفئة، وكبديل يجازف باحتطاب خشب الحديقة العامة، غير أن الشرطي يعترضه، وحينما يعود الى البيت يتفاجأ بالموقد مشتعلا، والسبب هو مجازفة طفليه بسرقة أضلاع من اللوحات الإعلانية التي جعلوها مصدرا للتدفئة، اقتداء بما فعلاه يبادر ماركوفالدو إلى اقتطاع لوحة إعلانية هو الآخر، ويعترضه الشرطي مرة أخرى، ثم يشتغل بقدرة قادر في ما بعد كعامل لإزالة الثلوج، ولحظة كان يزيل الثلج أمام الشركة التي يعمل بها يراه رئيس العمل ويوكله لوظيفة مؤقتة هي توصيل هدايا عيد الميلاد إلى موظفي الشركة ذاتها، مرتديا زي بابا نويل، وبينما يوصل ماركوفالدو بمعية ابنه فيليبيتو هدية لمنزل رئيس الشركة يلفيان ابن هذا الأخير وهو بعمر فيليبيتو، ويطلب ابن رئيس الشركة من فيليبيتو البقاء معه ليعدا الهدايا المتراكمة، وعندما يؤوب ماركوفالدو مساء ليصحب معه ابنه من بيت الرئيس يتفاجأ بالدخان مستشريا في المنزل، لأن ابن الرئيس أشعل النار في كومة الهدايا، ويلوذ ماركوفالدو مع ابنه بالفرار إلى بيتهما، ويهتز باب البيت إثر الطرقات المتواصلة، ويلم الرعب بقلب ماركوفالدو خشية أن تكون الشرطة من تعقبته، والمصير سيكون فادحا، غير أنه يتفاجأ بالرئيس ذاته، يقدم الامتنان له، لأنه ألهمه بفكرة خطيرة تتعلق بالهدايا التدميرية، وفي هذا النزوع ما يشجع الأطفال على تدمير الأشياء حتى تستبدل وهذا ما سيترتب عنه زيادة متفاقمة في المبيعات وهكذا دواليك من المواقف العبثية، تتوقد برؤى كالفينو الساخرة من المجتمع الصناعي الحديث، وفق شخصيته الكاريكاتورية ماركوفالدو المشحوذة في حياة معاصرة تصخب بالمفارقات، يتقزم فيها الانسان لصالح آلية الإنتاج الشرهة، وتتقوض إثرها الطبيعة بوتيرة تخريب عميم.

غلاف الطبعة الأولى، من إصدار دار Giulio Einaudi

انتهت تجربة كالفينو في كتابة السيناريو، مع أحد أجزاء مسلسل "فانتاغيرو" الشهير باسم "كهف الوردة الذهبية" الذي يتكون من خمسة أجزاء، من إخراج جياني رومولي ولامبرتو بافا عام 1991 (بعد ست سنوات من وفاة كالفينو)، وهذه المغامرة ذات النزوع الرومانسي تقوم على إعادة كتابة جزء من حكايات شعبية إيطالية من تأليف كالفينو نفسه، وقد ناهزت في كتابه 200 حكاية بدءا من "جون الصغير الشجاع"، وانتهاء بـ"القفز إلى حقيبتي".

font change