سجال بين البيت الأبيض والقضاة قد يثير أزمة دستورية

لم يقتصر تحدي إدارة ترمب للمحاكم على عمليات الترحيل غير القانونية، بل امتد أيضا إلى الإعلام

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب بجانب خريطة تُظهر خليج المكسيك، الذي أعاد تسميته بخليج أميركا، في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، 13 فبراير 2025

سجال بين البيت الأبيض والقضاة قد يثير أزمة دستورية

منذ بداية ولايته الثانية كرئيس للولايات المتحدة، عقد دونالد ترمب العزم على إزاحة أي عقبات تقف في طريق ممارسته للسلطة وتنفيذ برامجه.

ويسيطر ترمب على السلطة التشريعية المتمثلة في الأغلبية الجمهورية بمجلسي الشيوخ والنواب اللذين استكانا وانساقا لطموحاته، مع تحالف مع أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، الذي يبدو أنه بات مطلعا على ملفات كثيرين منهم من خلال سلطته الجديدة كرئيس لما يسمى "وزارة الكفاءة الحكومية".

ولم يبق من عقبة تحول دون اكتمال حلقة السلطة المنشودة لترمب سوى القضاء. وطالما ردد ترمب ومستشاروه بانه يتصرف بتفويض كامل من الناخبين الذين اختاروه لإعادة تشكيل المجتمع الأميركي وبناء الاقتصاد العالمي. ويدفع البيت الأبيض في جميع تصريحاته بأن السلطة القضائية تحاول التعدي على السلطة التنفيذية التي خولها الدستور للرئيس، ويردد أن بعض القضاة يقحمون أنفسهم في أسلوب ممارسة إدارة ترمب لسلطتها في رسم السياسات الخارجية للبلاد أو في إدارة الشؤون الداخلية.

وتحرص السلطتان التنفيذية والقضائية على التبارز الحذر مع تجنب الصدام رغم اقترابهما بشدة من هذه النقطة في الكثير من القضايا. فإدارة ترمب تلتف على القرارات التي لا تروق لها وتماطل من خلال الطعن عليها بمختلف مستويات المحاكم. فعلى سبيل المثال زعم مسؤولون بالبيت الأبيض أن أوامر المحاكم التي طالبت باستعادة السلفادوري كلمار أبريغو غارسيا غير ملزمة لهم. ورغم اعتراف هؤلاء المسؤولين بأنه رحل بالخطأ إلى بلده الأصلي رغم أنه متزوج من أميركية ويحمل بطاقة الإقامة الخضراء، إلا أنهم يصرون على أنهم لن يستعيدوه من السلفادور التي تم إيداعه في أحد معتقلاتها، في تحد حتى لقرار المحكمة العليا التي طالبت الإدارة في قرار أولي بتسهيل عودته من السلفادور.

وقال أحد قضاة محكمة فيدرالية كان قد ألزم الإدارة باستعادته أنه سيبدأ إجراءات التحقيق فيما إذا كان سيوجه لمسؤولي الإدارة اتهامات جنائية بازدراء المحكمة. وتستند إدارة ترمب في تحديها على قانون يسمى "قانون الأعداء الأجانب" الذي صدر أواخر القرن الثامن عشر. ولم يُستدع هذا القانون إلا خلال ثلاث حروب آخرها الحرب العالمية الثانية حينما قرر الرئيس روزفلت اعتقال الأميركيين من أصول يابانية وإيطالية وألمانية فقط بسبب أصولهم.

تسببت القرارات المضطربة التي اتخذها ترمب في إرباك الأسواق، وفقدان الثقة في الاقتصاد الأميركي، وإحداث حالة من الفوضى في جميع المجالات

ويعتبر ترمب أن الولايات المتحدة تتعرض لغزو من قبل المهاجرين غير الشرعيين ومن ثم بات من واجبه استدعاء هذا القانون لتنفيذ عمليات الترحيل دون الحاجة إلى انتظار الإجراءات المعمول بها وفقا لقوانين الهجرة. وبالاتفاق مع حكومة السلفادور، تم ترحيل أكثر من مئتي مهاجر، أغلبهم من فنزويلا، وإيداعهم في معتقلات مولتها إدارة ترمب في السلفادور. وتم رفع الكثير من الدعاوى القضائية ضد تحركات الإدارة.

ولم يقتصر تحدي إدارة ترمب للمحاكم على عمليات الترحيل غير القانونية، بل امتد أيضا إلى الإعلام حيث قضت محكمة فيدرالية ببطلان قرار البيت الأبيض بمنع صحافيي وكالة أنباء "أسوشييتد برس"، أكبر وأقدم وكالات الأنباء الأميركية والعالمية، من تغطية مؤتمرات وأنشطة الرئيس وكبار مسؤولي إدارته.

واتخذت إدارة ترمب هذا القرار بعد إصرار الوكالة على عدم تغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أميركا" الذي وضعه ترمب. وردا على قرار المحكمة، ألغت إدارة ترمب جميع المنصات المخصصة لوكالات الأنباء في تغطية أنشطة البيت الأبيض. ورفع الكثير من هذه الوكالات دعاوى تتهم فيها إدارة ترمب بازدراء المحكمة، وهو الإجراء الذي رفعت ضده الإدارة دعوى مضادة لوقف إجراءات استصدار هذا الحكم.

وللتحايل على القوانين والالتفاف على سلطة الكونغرس، أصدر ترمب أكثر من 120 أمرا رئاسيا خلال الثلاثة أشهر الأولى من ولايته الثانية، مقابل 220 أصدرها على مدى أربعة أعوام من ولايته الأولى.

كما استخدم ترمب سلطات الطوارئ في فرض رسوم جمركية فلكية على الواردات من جميع أنحاء العالم، موجها ضربة قاصمة لنظام العولمة مما أضطر الكثير من الكيانات التجارية، لاسيما في كاليفورنيا، إلى رفع دعاوى قضائية متهمين ترمب بتقويض مبدأ الفصل بين السلطات بسبب تغوله على سلطة الكونغرس في تحديد وفرض الضرائب.

ويدفع الجمهوريون بأن القضاة "غير المنتخبين" هم ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء المنتمون لـ"الحزب الديمقراطي" يعملون بشكل منهجي على تقويض سلطة الرئيس وتقليص صلاحياته. ويحرضون الكونغرس على التدخل لاستعادة التوازن، وهي معادلة مقلوبة في الواقع. فالقضاء هو الذي يتدخل لاستعادة التوازن بين السلطات من خلال تفسير القوانين، وليس تشريعها كما يتهمه الجمهوريون. ويزعمون أن النشطاء والديمقراطيين يرفعون الدعاوى القضائية لدى دوائر معروفة بتعاطفها وانحيازها إلى اليسار، ومن ثم تصدر لصالحهم أحكام تعطل المبادرات الرئاسية حتى قبل أن يتم تطبيقها، مما يشكل تعديا على إرادة الناخبين الذين اختاروا الرئيس من أجل تطبيق هذه السياسات.

أ ف ب
منظر للمحكمة العليا الأميركية في الأول من يوليو 2024، في واشنطن العاصمة

بيد أن جميع استطلاعات الرأي تشير إلى أن الأميركيين اختاروا ترمب من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية، وتقليص التضخم، وإصلاح أنظمة الهجرة، وتعزيز التحالفات الدولية، وليس تفكيكها أو وقف الدعم للمنظمات الإنسانية العالمية، وإبراز وجه البلاد الإنساني، وليس تشويه صورتها. فخلال ثلاثة أيام فقط خسرت أسواق المال الأميركية مايقرب من 7 تريليونات دولار، مما بدد مكاسب ثلاثة أعوام من مدخرات الأميركيين ومعاشاتهم. كما تحول آلاف الموظفين الفيدراليين إلى عاطلين، وارتفعت أسعار السلع، وزادت معدلات التضخم.

وتسببت القرارات المضطربة التي اتخذها ترمب لتدارك هذه الكارثة في إرباك الأسواق، وفقدان الثقة في الاقتصاد الأميركي، وإحداث حالة من الفوضى في جميع المجالات. كما أدت العشرات من الدعاوى القضائية التي علقت بعض قرارات ترمب إلى إصابة المسؤولين بالحيرة في ظل مماطلة وتلكؤ الإدارة في تنفيذها واللجوء إلى محاكم أعلى مستوى للطعن عليها. وزادت القرارات الفاترة والفضفاضة لبعض المحاكم، خاصة المحكمة العليا ذات الأغلبية المحافظة، في تفاقم الالتباس، لاسيما فيما يتعلق بترحيل المهاجرين وتسريح الموظفين الفيدراليين.

يبدو أن ترمب اختار مسؤوليه ممن لديهم الاستعداد للتماهي مع نظريته عن السلطة المطلقة للرئيس وهو ما يعني ضمنا تقويض سلطة القضاء

وكان أحدث هذه القرارات ذاك الذي أصدرته المحكمة العليا في التاسع عشر من أبريل/نيسان وأمرت فيه إدارة ترمب بوقف ترحيل المهاجرين الفنزويليين من تكساس حتى صدور أمر منها. ولم ترفض المحكمة، كما لم تقر طلب المدعين وقف هذه الترحيلات حتى يتم الانتهاء من إجراءات الطعن على قرارات ترحيلهم أمام المحاكم المختصة. وتدفع إدارة ترمب بأن هؤلاء الأشخاص ينتمون لعصابات صنفتها واشنطن إرهابية وذلك استنادا إلى قانون "الأعداء الأجانب" الذي لا يتطلب أدلة على التهم. وثمة طعون قانونية أخرى على سلطة ترمب في استدعاء قانون "الأعداء الأجانب" الذي لم يستخدم إلا في زمن الحرب.              

ويهيمن على ترمب هوس السلطة المطلقة وحكم الفرد، وهو ما أكده صراحة للصحافيين إبان حملته الانتخابية حينما قال إن "سلطة الرئيس الأميركي يجب أن تكون مطلقة"، وهو ما ينتهجه حرفيا منذ توليه الرئاسة الثانية. فقد أقدم على فصل مفتشي العموم المكلفين بمراقبة أداء المسؤولين، وجمد المنح والقروض الفيدرالية، وفصل آلاف الموظفين الفيدراليين، وطرد المسؤولين الديمقراطيين المعينين بالهيئات المستقلة، مثل هيئة التجارة الفيدرالية، وهيئة مراقبة المساواة في التوظيف على الرغم من صدور أحكام سابقة من قبل المحكمة العليا تمنع الرئيس من طرد مسؤولين من هذه الهيئات دون سبب.

ويدفع المتحدثون باسم البيت الأبيض بأن خبراء القانون يجب أن يعتريهم القلق بالأحرى إزاء ما يصفونه "باغتصاب القضاء للسلطة التي خولها الدستور للرئيس ومحاولتهم حرمان الأميركيين من الإجراءات التنفيذية التي انتخبوه من أجلها". ويرى هؤلاء أن إدارة ترمب لم تختلق القوانين التي تسمح لها باستخدام سلطاتها وأن هذه القوانين موجودة بالفعل إلا أن الإدارات السابقة تغاضت عن الاستفادة منها. ويؤكد مستشارو ترمب أنه استعرض كل هذه السياسات خلال حملته الانتخابية.  

وقبل أن تشتعل جذوة التحدي لدى ترمب، قضت المحكمة العليا بحصانة الرئيس من أي تبعات تترتب على قراراته وأفعاله خلال ولايته وذلك في معرض الرد على دعوى تتهمه بمحاولة عرقلة إعلان نتائج انتخابات عام 2020.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستقبل رئيس السلفادور نجيب بوكيلي في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 14 أبريل 2025

ويبدو أن ترمب قد اختار مسؤوليه ممن لديهم الاستعداد للتماهي مع نظريته عن السلطة المطلقة للرئيس وهو ما يعني ضمنا تقويض سلطة القضاء. وفي هذا السياق حث ترمب الكونغرس على التحقيق مع أحد القضاة بغية إقالته بعد أن حكم الأخير بتعليق مؤقت لعمليات ترحيل المهاجرين بناء على قانون "الأعداء الأجانب". وتبريرا لأوامره التنفيذية التي يواجه الكثير منها طعونا قضائية، نشر ترمب على منصتي "تروث سوشيال" و"إكس" عبارة منسوبة إلى الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت تقول "من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قانون".

لا تعدم المحاكم الفيدرالية مخالب الردع. فلديها الولاية الكاملة التي تمكنها من إدانة إدارة الرئيس بازدراء المحكمة إذا لم تذعن لأحكامها أو ماطلت في تنفيذها

ولأول مرة يستدعي تصعيد ترمب ضد أحد القضاة ومطالبته بالتحقيق معه لإقالته، تدخل رئيس المحكمة العليا جون روبرتس الذي قال إن الاعتراض على حكم من أحكام القضاء يجب أن يكون لدى محاكم الاستئناف. وإذا تم الاعتراض عليه، فهناك الطعن عليه لدى المحكمة العليا. وإذا رأى الرئيس أن المحكمة أخطأت فلديه الكونغرس لكي يطالبه بتغيير الدستور، لكن لا يليق المطالبة بالتحقيق مع قاض لمجرد عدم الرضا على حكمه. وثمة رسالة انطوى عليها تدخل رئيس المحكمة العليا في سابقة نادرة تتمثل في أنه يقف في ظهر القضاة وأيضا كحامي حمى الدستور.

ولا تعدم المحاكم الفيدرالية مخالب الردع. فلديها الولاية الكاملة التي تمكنها من إدانة الإدارة بازدراء المحكمة إذا لم تذعن لأحكامها أو ماطلت في تنفيذها. ويبدأ هذا الإجراء بطلب من المحكمة بأن تتقدم الإدارة بالأسباب التي حالت دون انصياعها للأمر القضائي.

وحسب خبراء القانون، هناك نوعان من الإجراءات المتبعة في هذه الحالة، أحدها مدني والآخر جنائي. فالمدني يجبر الجاني على الانصياع للأمر، ويتضمن إجراءات تصعيدية من فرض غرامات إلى تجميد أصول وصولا إلى أوامر بالاعتقال ويخرج عن نطاق العفو الرئاسي. أما الجنائي فيتضمن فرض عقوبة من قبل المحكمة لكنه يقع داخل نطاق العفو الرئاسي.

وإذا تمادت الإدارة في عنادها وتقاعسها عن تنفيذ الأحكام القضائية، عندئذ يمكن أن تصدر أوامر قضائية بالقبض على مسؤولين بالإدارة من قبل ضباط تابعين لوزارة العدل، وهم تحت سلطة ترمب التي تمكنه من منعهم من تنفيذ الأمر. وعندئذ يكون الرئيس في حالة مخالفة سافرة للقانون ومن ثم قد تنشأ أزمة دستورية غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

بيد أن الخبراء لا يجدون الكثير من السوابق على اتهام الرئيس بازدراء المحكمة، وهو اتهام لو حدث قد لا يؤدي إلى القبض عليه ولكنه يظل كوصمة عار في سجله مثلما ظلت محاولتا التحقيق معه في الكونغرس بغية إقالته، وإدانته قضائيا في 34 تهمة بتزوير سجلات تجارية.

font change

مقالات ذات صلة