رشيد الخيّون لـ"المجلة": الإسلام السياسي لا يبني دولة

بعد فوزه بجائزة الشيخ زايد للكتاب عن تحقيق "أخبار النساء"

رشيد الخيّون

رشيد الخيّون لـ"المجلة": الإسلام السياسي لا يبني دولة

يركز الباحث والكاتب العراقي الدكتور رشيد الخيّون على قضايا التراث الثقافي والفلسفي العربي الإسلامي، في أفقه الرحيب، بعيدا من التعصب والتقديس، ويتناوله تناول الناقد، رابطا بينه وبين الحاضر.

الخيّون، الحاصل على دكتوراه في الفلسفة العربية الإسلاميَّة، مارس التدريس والإشراف الأكاديمي، ونال جائزة الملك عبد العزيز في الدراسات التاريخية عن كتابه "أثر السود في الحضارة الإسلامية" عام 2017. صدر له نحو ثلاثين كتابا، منها "صرعى العقائد المقتولون بسبب ديني" و"العقاب والغلو في الفقه والتراث الإسلامي" و"جدل التنزيل" و"مذهب المعتزلة من الكلام إلى الفلسفة" و"100 عام من الإسلام السياسي بالعراق (جزآن)" وغيرها.

حصل عن تحقيق مخطوط "أخبار النساء" لأسامة بن منقذ على جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الـ 19 عن فرع تحقيق المخطوطات، التي أعلنت أخيرا، ومن هناك جاءت بداية حديثه الى "المجلة".

حصلت على جائزة الشيخ زايد للكتاب لتحقيقك كتاب "أخبار النساء" بتكليف من مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، الجهة المالكة لهذا المخطوط الفريد. ماذا تخبرنا عن هذه التجربة؟

كان مخطوط "أخبار النساء" من المفقودات، وقد نوهت في مقدمة التحقيق، أن المصادفة هي التي انتشلت الكتاب مِن الضياع، ووصل إلى خزانة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات بالرياض بفضل شخص أفغاني جمع مجموعة كبيرة من الأوراق، وهو لا يعرف عنها غير أنها قديمة، حملها في كيس وعرضها للبيع، فاشتراها الباحث والمحقق الباكستاني أحمد خان، الذي توفى أخيرا، وهو الآخر لا يدري أنها كتاب أُسامة بن منقذ "أخبار النساء"، وبعد تصفحه لها، وجدها خاصة بالنساء كاملة، وظهر أنها مخطوط كتاب "أخبار النساء" للأمير الأديب والفارس أسامة بن منقذ، الذي عاش بين القرنين الخامس والسادس الهجريين.

كل تحقيق أطروحة أكاديمية تجدد في الباحث المعرفة، وتضيف له القدرات، ويعرف ما كان يجهله

فتح لي كتاب كان مفقودا، وإلا كاد يباع على البقالين، لاستخدامه في بيع البهارات أو الحبوب، أو يستخدم للتدفئة مثلا، مظان الكتابة عن النساء قديما وحديثا، وكل تحقيق أطروحة أكاديمية يجدد في الباحث المعرفة، ويضيف له القدرات، ويعرف ما كان يجهله، إضافة إلى التدرب على الصبر، فالتحقيق يحتاج إلى قدرة عالية على الصبر والجَلد، ربما فاقت ما يحتاج إليه التأليف.

غلاف "أخبار النساء"

يستعرض الكتاب أوصاف النساء وفضائلهن وحكاياتهن النادرة، ما أكثر ما ميز نساء تلك المرحلة من التاريخ العربي؟

عني الكتاب بفئات النساء، ليس على أساس اجتماعي طبقي، كأسياد وعبيد، أو الخاصة والعامة، إنما جرى التصنيف على أساس الدور الذي تلعبه المرأة أمّا وأختا وبنتا وزوجة، فبدأ المصنف بالأمهات، ثم الأخوات، فالبنات والزوجات، وعلاقة كل منهن بالرجال، أبناء، وإخوانا، وآباء، وأزواجا، وضمن الحديث عن نماذج منهنّ، أرخ لأدبهن وشعرهنَّ ومواقفهنَّ، من دون إغفال أوصاف النساء، وما قيل فيهن من شعر، ثم يختم بمختصر فقهي عن معاملتهن.

الفلسفة والسياسة

درست الفلسفة في الأساس، فكيف قادتك هذه الدراسة إلى دراسة التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري؟

كان تخصصي الفلسفة الإسلامة، والدقيق منه "المعتزلة" كفرقة كلامية فتحت الطريق إلى فلسفة إسلامية، ولا يمكن دراسة الفلسفة الإسلامية، والبحث فيها من دون دراسة التاريخ، فقبل الشروع في دراسة تاريخ الفلسفة، لا بد من الشروع في قراءة التاريخ العام، ومن هذه القراءة تعلقتُ مهتما في التاريخ السياسي والاجتماعي الإسلامي القديم والوسيط، أما في تاريخ الفكر فعلم الكلام والفلسفة يشكل التاريخ الفكري تماما.

ما واجهته العلمانية من اتهام بالإلحاد كان من أباطيل الإسلام السياسي، لأنهم يريدون جعل السياسة عبادة كالصلاة

ما الذي دفعك للبحث في أصل العلمانية في الإسلام، وهل لاقت أفكارك الصدى الذي توخيته؟

هناك سببان، الأول أن دراسة التاريخ تؤكد أن السلطة سياسية اجتماعية لا دينية، والدين قد يكون عاملا فيها، والسبب الثاني مفاده ما تعرضت له العلمانية من تشويه ووصم بالإلحاد، بينما يكفي النظر في "صحيفة يثرب" أو "صحيفة "المدينة"، ليظهر أن الأمر سياسي اجتماعي وليس دينيا، بل هو علماني أو مدني.

غلاف "جدل التنزيل"

فما واجهته العلمانية من اتهام بالإلحاد والكفر كان من أباطيل الإسلام السياسي، لأنهم يريدون جعل السياسة عبادة كالصلاة، ولكي يواجهوا دعوة فصل الدين عن الدولة، من ناحية إدارة السلطة السياسية، جعلوا منها دعوة إلى إلحاد، فهذا أسهل الأسلحة وأمضاها عندهم.

تصاعد الإسلام السياسي، بعد الثورة الإيرانية، وحرب أفغانستان، وحادثة جهيمان، وكلها حدثت في 1979، وكانت سنة خطيرة، فيها تفاقم أمر الصحوة الدينية، فصار لا بد من البحث في تاريخ الإسلام، وإظهار المحجوب منه، فإذا كان الإسلام السياسي متسلحا بالنصوص والروايات، فهناك ما يسند وجود الدولة المدنية في نصوص وروايات أخرى.

البحث عن التنوير

بحثت في الإسلام السياسي في العراق، هل يمكن أن تنشأ دولة في العصر الحديث مبنية على المزج بين الدين والسياسة؟

ما أكدته التجارب، في إيران والسودان والعراق واليمن، وتاريخ الإخوان المسلمين نفسه خصوصا، والإسلام السياسي عموما، يوضح أن هذه الجماعات لا تريد دولة وطنية، بل تعتبرها دولة مارقة على الخلافة ودعوتها هدم الدولة الوطنية، لأن الحدود عندهم دينية ومذهبية، لا حدود جغرافية، إنما جغرافية الدين والمذهب، عابرة للأوطان، من هذا المنطلق لا يمكن الإسلام السياسي أن يبني دولة وطنية، والتجارب كثيرة.

الدولة لا تصوم ولا تصلي، إنما الناس هم الذين يصلون ويصومون، ومهمة الدولة إدارة العمران الداخلي والسياسة الخارجية

أما عن مزج السياسة بالدين، فالدين موجود، في التشريعات والقوانين، بما ينسجم مع العصر، غير أن إدارة سياسة الدولة شيء آخر، فالدولة لا تصوم ولا تصلي، إنما الناس هم الذين يصلون ويصومون، ومهمة الدولة إدارة العمران الداخلي والسياسة الخارجية، بمعزل عن الدين.

ذكرت مرة أن العرب ما زالوا يمتلكون "عقلا تاريخيا" فكيف يمكنهم الخروج من سجن الماضي؟

ليس بالضرورة أن يكون الماضي سجنا، فالأمم كافة تعتز بماضيها، لكنه يكون سجنا إذا صار كابحا للتقدم وظل الناس يعيشونه حذافيره، بحجة الحفاظ على التقاليد والتمسك بها. ينسب إلى معاوية بن أبي سفيان، المتوفى السنة 60 من الهجرة، قول يغني عن المقال، رواه المؤرخ أحمد بن يحى البلاذري، المتوفى 289 من الهجرة، في "جمل من أنساب الأشراف" وآخرون نقلوه أيضا، يقول فيه: "معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان قد بقي"، أو قد أتى.

عرب اليوم

ما الذي تريد الوصول إليه من البحث المعمق في التاريخ، وهل ثمة رسالة من وراء ذلك لعرب اليوم الذين تشغلهم الانقسامات والحروب؟

ما كتبتُ هو البحث عن التنوير، وتكريسه، فالهجمة الظلاميّة شهرت أسلحتها من التاريخ من دون أخذ الزمن في الاعتبار، كذلك أحاول بما أستطيعه، مع المؤمنين بالتنوير والتقدم، أن نبعد شبح الطائفية، الذي صار له عقود وهو يجول بين البلدان والشعوب، وقد تُرجم إلى مقاتل ودماء، وهنا لا نطلب من الإنسان ألا يكون على دين أو مذهب، فهذا حقّ ليس لأحد إنكاره، لكن ما نحاوله أن يعيش صاحب الدين أو المذهب بقبول مع الآخرين، فالأوطان تجمع اختلاف الناس، أما الطائفي فهو الذي لا يرى حق الحياة إلا لطائفته.

غلاف "مذهب المعتزلة"

أما أن يكون العرب على رسالة ورأي واحد، فهذا حلم رومانسي، وهو أمر طبيعي أن تظهر بين العرب الخلافات، لأنهم بشر وأنظمة توجه سياساتهم المصالح، لا يُطلب منهم أن يكونوا مثلما هم في اللغة أو الدين، يتحدثون العربية ويدينون بدين واحد. فما حصل من حروب وانقسامات، لا تنتهي بالوصايا أو النصائح، إنما الواقع السياسي العالمي والإقليمي يحدد ذلك، انتهت أحلام الوحدة العربية، لأفي ها غير واقعية من الأساس، فهذه أوروبا توحدت على أساس الاقتصاد، وعندما وجدت بريطانيا ذلك ليس بصالحها، على المدى البعيد، انسحبت، بالمفاوضات، ولم تقم عداوة ولا نشبت حرب.

أي نظام يمد يده في الخارج ويقصرها في الداخل لا يجد له ظهيرا شعبيا، إنما يظل طائرا في الشعارات

تناولت بالبحث في أحد مؤلفاتك البعثين السوري والعراقي، ما أبرز ما خلصت إليه من تلك الدراسة؟

لم أقدم دراسة لأن هذا خارج تخصصي واهتمامي، وهو تاريخ سياسي حديث، لكن ما حصل في العراق وسوريا دفعني إلى التعبير بمقالات، أشرت فيها إلى أن الحلم بالوحدة العربية في سوريا والعراق، كان للاستهلاك، وجذب الجمهور، وأن شعار البعث، السوري والعراقي، وهما من أصل واحد: وحدة وحرية واشتراكية، وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، لم يخرج من غرف اجتماعات الحزب، فقد وصل الحال بين النظامين إلى نزاع دام أكثر من خمسين عاما، قُطعت العلاقات خلالها بينهما، فكم من عراقي أعدم بتهمة التخابر مع النظام السوري، وكم من سوري انتهى بتهمة التخابر مع النظام العراقي. فالحزبان انشغلا بالخارج أكثر من الداخل، وأي نظام يمد يده في الخارج ويقصرها في الداخل لا يجد له ظهيرا شعبيا، إنما يظل طائرا في الشعارات لا أكثر.

يعيش العالم العربي اليوم صدوعا وتمزقات كبرى، ما السبيل للخروج من هذا الواقع؟

ليس عندي ما أنصح به، في ترقيع ما تمزق، فهذا أكبر مني، سوى القول أن تهتم الأنظمة بالأوطان والشعوب التي تحكمها، فالمواطن لا يأكل الشعارات ولا يشربها، بالنسبة إليه إعمار الطرقات، وتشييد المدارس والمستشفيات، وتقديم الخدمات هو الأولى، ومعلوم الوطن مَن أشبع من جوع ومَن آمن خوفا، وما حصل من تمزقات مردها النزوع إلى تصدير الأفكار والشعارات، وبالتالي الثورات. نعم، الصدوع والنزاعات والاختلاف أمور واقعية، لا يوجد عالم من دونها، لكن الأهم كيفية إدارتها.

font change

مقالات ذات صلة