"مُوطأ" مالك ومسألة تدوين السنة النبوية

استغرق تنقيحه 40 عاما

"مُوطأ" مالك ومسألة تدوين السنة النبوية

من أكثر القضايا الجدلية الشائعة في الأوساط العلمية والثقافية هي مسألة تدوين السنّة النبوية، حيث تشيع نظرية مفادها أن كتابة الحديث النبوي قد مرت بمرحلة انقطاع زمني تصل إلى قرنين من الزمان بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الأحاديث النبوية في تلك الفترة قد اقتصر حفظها وانتقالها بين الأجيال على الطريقة الشفوية، والحفظ المتداول في الصدور، مما يفتح المجال للتساؤل والبحث حول قضية التحقق من صحة وضبط النصوص المروية شفويا عبر هذه السنين الطويلة، ولهذا أصبحت هذه المسألة من أكثر المسائل التي يثار حولها النقاش والجدال في أوساط المثقفين والباحثين والكتّاب المعنيين بشؤون التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية.

يواجه الباحث التاريخي قدرا من الغموض وشح المصادر والمعلومات حين يريد بحث بدايات التدوين العلمي عند العرب وتطوره خلال القرنين الأول والثاني للهجرة، وقد بدأت الدراسات الحديثة في هذا الموضوع منذ أكثر من مئة عام، ولا تزال الآراء فيها مختلفة متضاربة، لكن مما يلاحظ أن هذه الدراسات الموجودة لدينا – ما عدا استثناءات طفيفة – تصر على مفهوم واحد هو أن الرواية لم تكن "إلا شفوية"، في حين تغيب الدراسات العلمية والشواهد الكثيرة التي تدل على بدء تدوين الحديث بشكل مبكر في عصر النبي محمد.

إسقاط الخرافة

قام المستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر بإسقاط الخرافة القائلة إن الحديث كان يتداول أساسا بالرواية الشفوية، وتبعه في ذلك المستشرق غولدتسيهر الذي "اعتبر أن كتابة الحديث في صحف أو أجزاء هو حقيقة واقعة في العقود الأولى للإسلام". فكتب المسانيد، والصحاح، والسنن، لم تظهر هكذا فجأة، بل كانت ضمن سلسلة مستمرة من مراحل تطور تدوين الحديث النبوي الذي مر بأطوار مختلفة حتى استقر على أسس علمية من الكتابة المنهجية التي تعارف عليها المصنفون والمحدثون، حيث مر تطور كُتب الحديث بثلاث مراحل، هي:

يواجه الباحث التاريخي قدرا من الغموض وشح المصادر والمعلومات حين يريد بحث بدايات التدوين العلمي عند العرب وتطوره خلال القرنين الأول والثاني للهجرة

* أولا: مرحلة كتابة الحديث: وقد سجلت الأحاديث في عصر الصحابة وأوائل التابعين في كراريس صغيرة، أطلق على الواحد منها "صحيفة" أو "جزء". مما يدل على ذلك قول جعفر بن برقان: "سمعت الزهري يقول: لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس".

* ثانيا: مرحلة تدوين الحديث: حيث جمعت الكتابات الحديثية المتفرقة في نهاية القرن الأول الهجري، ومطلع الثاني.

* ثالثا: مرحلة تصنيف الحديث، وقد رتبت الأحاديث في هذه المرحلة وفق موضوعها في أبواب منذ منتصف القرن الأول تقريبا، ثم ظهرت طريقة أخرى لترتيب الأحاديث وفق أسماء الصحابة في كتب المساند، وفي القرن الثالث الهجري نُقحت الكتب المنهجية المبكرة وأعدت كتب جامعة سميت عند الباحثين والمحدثين باسم "المجموعات الصحيحة"، وفي هذه المرحلة اكتسب تدوين الحديث الأساس المنهجي العلمي، واستقر في مصنفات لها سماتها وشروطها المحددة.

المستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر

من المعروف أن خلفاء بني أمية قد حثوا على جمع الأحاديث النبوية، ومن بينهم عمر بن عبد العزيز، الذي اهتم بجمع السنّة، فكلف أبا بكر محمد بن حزم، المتوفى (120ه) بهذه المهمة، وقال له: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة ماضية، فاكتبه، فإني خشيت دروس العلم وذهاب أهله". لكن شهرة أبي بكر بن حزم، لم تكن مثل شهرة معاصره الإمام ابن شهاب الزهري الذي يعد أول من دوّن الحديث، حيث يروي ابن عبد البر، أن الزهري كان يقول: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا".

ولما غابت شمس الدولة الأموية عام 132هـ، وبدأت صفحة الدولة العباسية في التاريخ، كانت الكراريس والأجزاء الحديثية قد انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، وأصبح عامة الناس يرجعون إليها لمعرفة شؤون دينهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم، حينها بدأت تظهر حالة مرهقة بالنسبة الى الدولة المركزية العباسية آنذاك، وهي تعدد مصادر الفتيا، واختلاف الأقضية بين الناس، فكل فئة وناحية من البلاد لديها فقهاؤها، وصحائفها، ومدوناتها من الأحاديث النبوية التي ترجع إليها للحكم في أي مسألة شرعية، قضائية، أو تعبدية.

فقه وحديث

تنبّه الخليفة أبو جعفر المنصور لهذه المشكلة، فاستدعى مالك بن أنس وهو بمكة، فقال له: "اجعل العلم يا أبا عبدالله علما واحدا". وفي رواية: "ضع للناس كتابا أحملهم عليه". فردّ عليه مالك: "يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في البلاد، فأفتى كل في مصر بما رآه، إن لأهل هذه البلاد قولا، ولأهل المدينة قولا، ولأهل العراق قولا تعدوا فيه طورهم". وفي رواية أخرى أن المنصور قال لمالك: "يا أبا عبدالله، ضع هذا العلم ودوّن كتبا، وجنب فيه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة".

كلمة "العلم" التي ترد في الرواية هنا تعبّر عن مضمون الكتاب، والمقصود به العلم النقلي الديني من الأحاديث النبوية وفق الصحابة والتابعين، حيث صنّف مالك "الموطأ" على الطابع الفقهي، ووضعه وفق أبواب الفقه في العبادات والمعاملات، في حين أن جل مادته هي من الحديث النبوي وآثار الصحابة والتابعين من قول أو فعل أو تقرير.

يرجع نجاح "المُوطأ" إلى أن الإمام مالك كان يسلك الطريق الوسط، ويأخذ بوجهة النظر الوسط حول النقاط موضع الخلاف

ويرى محمد أبو زهرة أن "المُوطأ" هو أقدم كتاب في التراث الإسلامي متداول بين الناس، فلم يحفظ التاريخ مدونا مأثورا في الحديث والفقه يقرأه الناس إلى اليوم أقدم من "المُوطأ"، فهو يعد الأول في التأليف في الفقه والحديث معا. ويضيف أبو زهرة قائلا: "إن الخليفة العباسي ما كان يقصد من الجمع الخوف على ذهاب العلم بذهاب العلماء، وإنما كان له مطلب آخر، وهو توحيد الأقضية في كل الأمصار إذ أن ذلك كان من الأمور التي كثر التفكير فيها في عصر أبي جعفر لأن الخلاف بين الفقهاء قد اتسعت آفاقه، ولا منجاة من آثار ذلك الاختلاف إلا بجمع السنّة واختيار سبيل وسط من أقوال الفقهاء يكون مذهب القضاة، يقضون به".

وقد اعتنى الإمام مالك بـ "المُوطأ" عناية فائقة حتى قالوا: إنه مكث فيه أربعين سنة ينقحه ويهذبه، ويرجح أنه انتهى من تأليفه سنة ١٥٨هـ. وروي عنه أنه قال: عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهـا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته "المُوطأ"، فقيل لهذا سمي "المُوطأ"، وقيل إنه سمي "المُوطأ" لأن المنصور قال له: "وطّئه للناس أي اجعله سهل التناول".

وقد روى "المُوطأ" عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل، وضرب الناس فيه أكباد الإبل من أقاصي البلاد، منهم الأئمة المبرزون، ومنهم الفقهاء المجتهدون، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد وابنيه.

المستشرق غولدتسيهر

وتشير دائرة المعارف الإسلامية أن كتاب الموطأ يعد مصدرا مبكرا لفهم نظام العدالة وشعائر الدين وممارستها حسب إجماع المسلمين في المدينة، وكان الكتاب يسعى إلى إيجاد معيار تنظيري للأمور التي لم تحسم من وجهة نظر الإجماع والسنّة. فهو بمثابة مشروع عملي يعنى بتحديد "طريق ممهد" (أي موطأ) بين الخلافات البعيدة الأثر في الرأي حتى حول أبسط المسائل الأولية. فهو يمثل التحول من الفقه البسيط في العصر الأسبق إلى العلم الخالص للحديث في العصر الأخير.

ولم يكن مالك وحده من بين معاصريه في تأليف الموطأ إذ أن العديد من علماء المدينة في الفترة نفسها قد سجلوا أعمالا على نمط الموطأ، لكن هذه الأعمال ضاعت ولم يبق منها شيء. يرجع نجاح الموطأ إلى أن الإمام مالك كان يسلك الطريق الوسط، ويأخذ بوجهة النظر الوسط حول النقاط موضع الخلاف.

font change

مقالات ذات صلة