أكراد سوريا يؤطرون مطالبهم... والسلطة تراها تجاوزا لـ"الخطوط الحمراء"

صلاح مسلم لـ"المجلة": كل شيء يمكن تحقيقه عبر الحوار

رويترز
رويترز
مشاركون خلال انعقاد مؤتمر "وحدة الموقف والصف الكردي"، في القامشلي، سوريا، 26 أبريل

أكراد سوريا يؤطرون مطالبهم... والسلطة تراها تجاوزا لـ"الخطوط الحمراء"

بعد شهور من المفاوضات والوساطات الدولية، عقدت الأحزاب الكردية السورية مؤتمرا عاما في مدينة القامشلي، حددوا فيه ملامح ما يعتبرونه "حل القضية الكردية"، تضمنت مطالب سياسية/جغرافية، وأخرى ثقافية ودستورية وحقوقية واقتصادية، مُشيدة على لامركزية إدارية ومناطقية وسياسية. كما أعلنوا تشكيل وفد للتفاوض مع حكومة دمشق، التي ردت برفض تلك المطالب، وحذرت من مغبة تأثيره على الاتفاقات السابقة بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي، ما قد يعكس المسار "التوافقي" الذي كان جاريا طوال الأسابيع الماضية، ويهدد بإمكانية التصعيد، وإمكانية حدوث تدخلات إقليمية، تحديدا من جانب تركيا.

الأكراد جبهة موحدة

طوال سنوات كثيرة ماضية، كانت القوى السياسية الكردية/السورية متشظية إلى عدة تيارات، مختلفة سياسيا ومتناقضة أيديولوجياً ومتزاحمة تنظيميا فيما بينها، لها روابط وعلاقات إقليمية/كردية متصارعة. لكن تيارين رئيسين كانا يغالبان الفضاء السياسي الكردي/السوري: أحزاب المجلس الوطني الكردي السوري، التي تشكلت في ربيع عام 2012 كتحالف بين الأحزاب الكردية السورية "التقليدية"، المقربة أيديولوجياً من "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وللزعيم السياسي الكردي العراقي مسعود بارزاني مكانة خاصة في أوساطهم. وقبالتهم أحزاب الوحدة الوطنية الكردية، المتمركزة حول "حزب الاتحاد الديمقراطي"، المقرب أيديولوجياً من "حزب العمال الكردستاني"، سياسيا وثقافيا ورمزيا.

السلطة الجديدة في سوريا، والكثير من الأحزاب والتيارات السورية، ومعهما تركيا، صارت تتهم "حزب الاتحاد الديمقراطي"، و"قوات سوريا الديمقراطية"، بعدم تمثيل أكراد سوريا سياسيا أو التعبير عن تطلعاتهم "الحقيقية"

طوال سنوات الثورة السورية، كانت أحزاب "المجلس الوطني" تتهم "حزب الاتحاد الديمقراطي" بتنفيذ ترتيبات سياسية وعسكرية تتجاوز طاقة وتطلعات الأكراد السوريين، سواء عبر الانخراط في جهد عسكري يتجاوز حدود المناطق ذات الأغلبية الكردية، أو مناهضة ومعاداة تركيا سياسيا، عبر الاحتفاء برموز "العمال الكردستاني". كما أن "الاتحاد الديمقراطي" الذي شكل المظلة السياسية لـ"قوات سوريا الديمقراطي" كان يعتبر الجهد العسكري فعلا دفاعيا في مواجهة الإرهاب الذي أحاط بالمناطق التي انسحب منها النظام السوري، ويتهم تركيا بخوض حرب صفرية مفتوحة على الأكراد، أيا كانت هويتهم السياسية، متهما المجلس الوطني بمساعدة تركيا واستطالاتها داخل سوريا بفعل ذلك.

لقد خاض الطرفان صراعا سياسيا وإعلاميا محتدما، انقسم الشارع الكردي السوري بسببه، وحدثت تدخلات ووساطات إقليمية/كردية، وحتى دولية، أميركية وأوروبية، بحكم وجودها العسكري في شمال شرقي سوريا، ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. ومع ذلك لم تتوصل الأطراف المتنازعة إلى أية نتيجة، على الرغم من كثير من الأوراق السياسية المشتركة التي تفاوضت بشأنها.

بعد سقوط النظام السوري، تكثفت تلك الوساطات، مع ضغوط شعبية واضحة. فالسلطة الجديدة في سوريا، ومثلها الكثير من الأحزاب والتيارات السورية، ومعها كلها تركيا على الدوام، صارت تتهم "حزب الاتحاد الديمقراطي"، و"قوات سوريا الديمقراطية"، بعدم تمثيل أكراد سوريا سياسيا أو التعبير عن تطلعاتهم "الحقيقية"، كما كانوا يذكرون. فيما بقيت أحزاب "المجلس الوطني السوري" خارج أي فعل سياسي كردي أو سوري عام، بحكم عدم تعاطي السلطة الجديدة معهم سياسيا. وكان ذلك الأمر دافعاً للدخول في مفاوضات أكثر جدية.

رويترز
قائد القوات الكردية السورية، مظلوم عبدي في مؤتمر "وحدة الموقف والصف الكردي"، في القامشلي، سوريا، 26 أبريل

الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت تحولا رئيسا في ذلك السياق، إذ اجتمع الرئيس الأسبق لإقليم كردستان مسعود بارزاني مع قائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي لأول مرة، والتقى الأخير بوزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو في مدينة أربيل، ومع الحدثين كانت رسائل زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان تدعو أكراد سوريا للوحدة سياسيا. وترافق ذلك مع ضغوط أميركية وفرنسية، عبر ممثليهم في مناطق شمال شرقي سوريا، فتوصل الطرفان الكرديان إلى ورقة سياسية مشتركة، وفاوضوا فيما بعد باقي الأحزاب الكردية السورية، إلى أن توصلوا إلى صيغة المطالب السياسية الكردية السورية الموحدة.

الورقة المطلبية المشتركة تضمنت ثلاثة مستويات من الدعوات: على المستوى الوطني العام، دعت إلى بناء دولة ديمقراطية مدنية لامركزية، تتساوى فيها مختلف المكونات، وتخلق توازنا جندريا بين النساء والرجال. وكرديا، دعت الورقة المشتركة إلى تشكيل وحدة جغرافية خاصة بالأكراد في سوريا، ذات طابع إداري وسياسي موحد، مع الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي في سوريا. مع الأمرين، التمست الورقة قبولا بالثقافة واللغة الكردية، عبر التعليم وتشكيل مؤسسات إعلامية تنمي حضورهم في المتن العام، ومثلها إلغاء السياسات التمييزية والعنصرية التي مورست على الأكراد، ومنع تكرارها.

لو أرادت سلطة دمشق التوصل للتوافق وشكل مدني ديمقراطي للبلاد، فإن كل شيء يمكن تحقيقه عبر الحوار

صالح مسلم

آليات التطبيق

الرئيس المشترك لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي" (الكردي)، وأحد الفاعلين الرئيسين في هذا المؤتمر، صالح مسلم، شرح في حديث مطول مع "المجلة" الآليات التي ستعمل عليها اللجنة السياسية المنبثقة عن المؤتمر، وما تتوقعه القوى الكردية من ردود سياسية وميدانية عليها، سواء داخلية أو تركية.

مسلم شرح كيف أن مظلوم عبدي في تفاوضه وورقته التوافقية مع الرئيس الشرع كان يمثل الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا و"قوات سوريا الديمقراطية" و"مجلس سوريا الديمقراطية"، والتوافق بينهما كان يتعلق بإدماج هذه المؤسسات في الكل المركزي السوري، عبر لجنة تفاوضية عليا، ينبثق منها عدد من اللجان الفرعية، موضحا أن هذه اللجان ليس لها علاقات باللجنة المشكلة عبر هذا المؤتمر، وإن كانت متداخلة ومتأثرة من حيث الفضاء الكلي. فاللجنة الأخيرة ستختص بمستويين من العمل: آلية تطبيق ما توصلت إليه القوى الكردية ضمن الإدارة الذاتية، مثل مسألة التعليم، وهي لا تحتاج إلى تفاوض مع سلطة دمشق ولا حتى موافقتها، حسب رأي الرئيس المشترك لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي" (الكردي).

أما المسائل العامة، الخاصة بكل البلاد، سياسيا ودستوريا، فستخوض اللجنة حوارا مطولا مع السلطة الجديدة، وهي مخولة بما تراه مناسبا وقابلا للتطبيق أثناء عملية التفاوض، بما في ذلك إمكانية إعادة بلورة المطالب، بما لا يخرج عن الإطار الكلي للمطالب.

استبعد مسلم أن يكون لتركيا رد فعل قوي وعسكري تجاه المناطق التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" جراء ذلك، لأن المناخ الإقليمي والداخلي لا يسمح لها بهذا الفعل، وحتى السلطة المركزية من المفترض أن لا تفعل شيئا من ذلك، لأن ورقة المطالب الكردية هي: "دعوة للحوار وتشكيل دولة حديثة، تملك رؤية لما يجب ومن المفترض أن تكون عليه سوريا مستقبلا، كدولة قادرة على تجاوز الماضي. وهي رؤية لا تستند إلى أي دعم أو رعاية خارجية، فقوى التحالف الدولي شريكة في محاربة الإرهاب فحسب. وإن كانت ميسرة للحوار الثنائي. ولو أرادت سلطة دمشق التوصل للتوافق وشكل مدني ديمقراطي للبلاد، فإن كل شيء يمكن تحقيقه عبر الحوار. وما أنجزناه سابقا بشكل مشترك، مثل اتفاقية حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، يُمكن أن يكون مثالا على إمكانية إيجاد مساحات مشتركة بفعل النقاش الوطني، بطريقة ترضي جميع الفاعلين".

الساسة والمعلقون الأكراد شددوا على أن بيان الرئاسة السورية كان بمثابة "الرد على ما لم يُطرح أساسا"، مشددين على أن التحذير من الانفصال والتقسيم جاء كاتهام وظيفي

خطوط حمراء

الرئاسة السورية رفضت ما جاء في الورقة الكردية المشتركة، وشددت عبر بيان رسمي على رفض ما أسمته "تكريس واقع منفصل على الأرض، يتعارض بشكل صريح مع مضمون الاتفاق وتهدد وحدة البلاد وسلامة ترابها". وحذرت الرئاسة السورية قائلة: "الاتفاق– يقصد اتفاق عبدي/الشرع- كان خطوة بناءة إذا ما نفّذ بروح وطنية جامعة، بعيدا عن المشاريع الخاصة أو الإقصائية. نرفض بشكل واضح أي محاولات لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة تحت تسميات الفيدرالية أو الإدارة الذاتية دون توافق وطني شامل".

الساسة والمعلقون الأكراد شددوا على أن بيان الرئاسة السورية كان بمثابة "الرد على ما لم يُطرح أساسا"، مشددين على أن التحذير من الانفصال والتقسيم جاء كاتهام وظيفي، لإثارة الشارع السوري ضد المطالب الكردية، والامتناع عن الدخول في أية مفاوضات ثنائية، تؤدي إلى تفاهمات سياسية توافقية. فالسلطة الحاكمة راهنا، حسب النشطاء والساسة الأكراد، تريد استئثارا مطلقا بالسلطة، وتمانع مشاركة أي أحد، سواء في المركز أو أطراف البلاد.

رويترز
احتفل السوريون بتوقيع "قسد" اتفاقا مع الحكومة السورية على الاندماج في مؤسسات الدولة السورية الجديدة، وفقا لما أعلنته الرئاسة السورية، القامشلي، سوريا، 10 مارس

آراء المقربين من السلطة أجمعت على أن البندين الأول والثاني مما طرحه المؤتمر على المستوى القومي الكردي: "توحيد المناطق الكردية كوحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية.. والإقرار بالوجود القومي للشعب الكردي في سوريا كشعب أصيل وضمان حقوقه القومية دستوريا وفق العهود والمواثيق الدولية بما فيها حقه في ممارسة حرة ومتساوية لحقوقه السياسية والثقافية والإدارية"، هما البندان الأكثر إثارة للحساسية، لأنهما يؤديان إلى وقائع سياسية على أساس جغرافي، أو يفتحان الباب أمام التدخلات الدولية. وهو ما حذرت منه الرئاسة السورية في بيانها الرسمي: "وحدة سوريا أرضا وشعبا خط أحمر، وأي تجاوز لذلك يُعد خروجا عن الصف الوطني.. نعبر عن بالغ قلقنا من الممارسات التي تشير إلى توجهات خطيرة نحو تغيير ديموغرافي في بعض المناطق، بما يهدد النسيج الاجتماعي السوري ويُضعف فرص الحل الوطني الشامل".

وعقب بيان الرئاسة السورية بساعات قليلة، تداولت وسائل الإعلام أخبارا تفيد بإرسال الحكومة السورية لتعزيزات عسكرية ضخمة إلى منطقة "سد تشرين" على نهر الفرات، والتي كانت طوال الشهور الماضية محل صراع بين "قوات سوريا الديمقراطية" و"الجيش الوطني السوري" الموالي لتركيا. لكن المراقبين قالوا إن تلك القوات لا تستهدف الحرب أو الضغط على "قوات سوريا الديمقراطية"، بل تطبيق التوافقات السابقة بشأن "سد تشرين"، التي تم التوقيع عليها قبل عدة أيام.

font change