ترمب والخطأ الاستراتيجي الأكبر منذ حرب العراق؟

ربما تتمكن الأسواق والتحالفات العالمية من التكيف

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُحاول التقاط قبعة "لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، يوم إلقاء كلمته حول الرسوم الجمركية في حديقة الورود بالبيت الأبيض بواشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 2 أبريل 2025

ترمب والخطأ الاستراتيجي الأكبر منذ حرب العراق؟

لم يمض بعد سوى بضعة أشهر على عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، غير أن تأثيره على السياسة الدولية كان تأثيرا هائلا. فالنهج الذي اتبعه في معالجة حرب أوكرانيا وأوروبا وغزة، وكذلك إعلانه عن الرسوم الجمركية الاستثنائية، وما تلاها من تراجع جزئي عنها، قد هز بشدة صورة الولايات المتحدة لدى الحلفاء والمنافسين والمستثمرين. وفيما ترى إدارة ترمب وأنصارها في هذه الإجراءات تعزيزا لمكانة الولايات المتحدة العالمية، يؤكد منتقدوها أن العكس هو الصحيح. وعلى الرغم من أن رئاسة ترمب الثانية لا تزال في بدايتها، فإن سؤالا حادا حول ما إذا كانت تغفل فعلا عن أخطاء استراتيجية جيوسياسية ضخمة، ستضعف الولايات المتحدة على الأمد البعيد؟

في لعبة التنس وغيرها من الألعاب الرياضية، هناك أخطاء تسمى "أخطاء سوء التقدير" وهي تأتي من اللاعب نفسه، لا من جهود خصومه. والشيء نفسه ينطبق على الشؤون الجيوسياسية، والتاريخ حافل بمثل هذه الأخطاء، حيث تتخذ الحكومات من تلقاء نفسها، لا بدفع من قوى خارجية، قرارات سيئة، تؤدي إلى انتكاسات وحتى إلى كوارث كبيرة.

وللولايات المتحدة نصيب غير قليل من هذه الأخطاء، وآخرها كان غزو العراق عام 2003. إذ يتفق معظم المؤرخين على أن استهداف صدام حسين، وقع بمحض اختيار الإدارة الأميركية، ولم يكن مفروضا عليها. فقد كان كافيا مهاجمة طالبان لاستضافتها تنظيم "القاعدة"، كرد على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. إلا أن الحرب أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من خلال كشفها عن حدود القوة العسكرية الأميركية، وتوفيرها منصة لإيران و"القاعدة" (كل على حدة) للتوسع والازدهار. يضاف إلى ذلك، أن صناع السياسات في الولايات المتحدة، وهم يوجهون الموارد إلى الشرق الأوسط، خلال العقد الأول من القرن الحالي، لم يولوا صعود الصين حينها سوى قدر ضئيل من الانتباه. ومع أن الولايات المتحدة دخلت العراق بوصفها القوة المهيمنة عالميا بلا منازع، فإن الحرب ساهمت بعد عقد من الزمن في ظهور عالم متعدد الأقطاب وتراجع الهيمنة الأميركية.

رويترز
جندي مشاة بحرية أميركي يغطي وجه تمثال الرئيس العراقي صدام حسين بعلم أمريكي في بغداد في 9 أبريل 2003

حملت حرب العراق في بعض نواحيها صدى تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، الخطأ الاستراتيجي الأميركي السابق، والناجم عن سوء التقدير. بحلول الوقت الذي تمكن فيه ريتشارد نيكسون من سحب القوات الأميركية من جنوب شرقي آسيا، كانت مصداقية الولايات المتحدة العالمية قد ضعفت بشدة، واقتصادها تعثر، وتعرض انسجامها الاجتماعي للضرر. إلا أن واشنطن تمكنت من استعادة مكانتها العالمية، وهو ما قد يثبت أن أخطاء كهذه، ليس من الضروري أن تؤدي إلى تدهور لا رجعة عنه.

وبالتالي فإن حجم الضرر الذي يسببه الخطأ الاستراتيجي، يتوقف على السياق العالمي والمحلي. وقد ألحقت حرب العراق ضررا أكبر بالولايات المتحدة، لأنها جاءت في وقت كانت فيه الصين تشهد نموها. وعلى النقيض من ذلك، فعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي، منافس الولايات المتحدة حينها في الحرب الباردة، قد حظي بتعزيز قصير الأمد خلال سبعينات القرن الماضي، فإن واشنطن تمكنت جزئيا من استعادة مكانتها العالمية، بعد حرب فيتنام، لأن موسكو نفسها بدأت في حالة انحدار منذ الثمانينات. وقد تفاقم وضع الاتحاد السوفياتي سوءا، بسبب ما اقترفه هو أيضا من خطأ مماثل من سوء التقدير، عندما غزا أفغانستان واحتلها. فأدى ذلك إلى استنزاف الموارد السوفياتية، وإلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الذي كان يعاني أصلا، وإضعاف المكانة الدولية للاتحاد السوفياتي.

ولكن إذا نظرنا إلى الوراء، نجد أن احتلال أفغانستان قد أدى إلى تحفيز وتسريع نمط من الانحدار، كان قد بدأ من قبل، وليس إطلاقه. والأمر نفسه ينطبق على خطأ استراتيجي آخر من سوء التقدير، عندما تورطت المملكة المتحدة في أزمة السويس عام 1956. وفي وقت كانت القوة البريطانية تتراجع فيه من قبل، جاءت الأزمة في مصر لتكشفت مدى ضعف لندن، فأدى ذلك إلى تسريع تراجعها العالمي.

أحدثت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب في "يوم التحرير" في أبريل/نيسان، هزة قوية في الأسواق العالمية، قد يستغرق فهم تداعياتها الكاملة سنوات

فهل تشكل إجراءات ترمب أخطاء مماثلة، وما نوع الضرر الذي قد تسببه على المدى الطويل؟

أحدثت الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب في "يوم التحرير" في أبريل/نيسان، هزة قوية في الأسواق العالمية، قد يستغرق فهم تداعياتها الكاملة سنوات. مع أن معلقين بارزين، كمجلة "الإيكونوميست"، حذروا من قبل من أن ترمب قد "يطيح" بالدولار عن مكانته كعملة احتياطية عالمية بلا منازع. ومع أنه ليس مرجحا أن يحل اليورو والعملات الأخرى، محل الدولار في وقت قريب، إلا أن إجراءات ترمب زادت من القلق حيال موثوقية البيت الأبيض، وبالتالي من موثوقية الدولار، وهو ما دفع المستثمرين إلى الاعتقاد لأول مرة منذ عقود، بأن الدولار قد لا يكون الملاذ المالي الآمن كما كان في السابق.

لقد فقد الدولار بالفعل 9 في المئة من قيمته منذ يناير/كانون الثاني 2025، ويشير البعض إلى أن "الامتياز الاستثنائي" الذي تتمتع به الولايات المتحدة، قد يكون في خطر، وهو امتياز يسمح لها بالإبقاء على أسعار الفائدة على الديون الحكومية منخفضة، بسبب الشعبية العالمية للدولار. ولن يؤدي هذا إلى أزمة مالية في داخل البلاد فحسب، حيث ستضطر الحكومة الأميركية إلى إيجاد طرق لتسديد تكاليف الاقتراض المرتفعة عن طريق خفض الإنفاق، بل سيلحق الضرر بمصداقية الولايات المتحدة في الخارج أيضا. ولكن هذا الوضع ليس وشيكا، وسيعتمد الكثير على مدى إصرار ترمب على فرض الرسوم الجمركية، بعد أن تراجع بالفعل عنها إلى حد ما، تحت ضغوط السوق، ويعتمد على كيف سيكون رد فعل المستثمرين الدوليين.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يُلقي كلمةً حول الرسوم الجمركية في حديقة الورود بالبيت الأبيض بواشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 2 أبريل 2025

لعل الخطأ الأكثر وضوحا هو النهج الاستفزازي الذي يتبعه ترمب في تعامله مع حلفائه الدوليين. فانتقاده للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وقطع المساعدات عن كييف، وصداماته المتكررة مع الزعماء الأوروبيين، وقطع تمويل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتساؤلات التي يثيرها حول مستقبل حلف شمال الأطلسي، إلى جانب الرسوم الجمركية، كل ذلك يثير تساؤلات حول موثوقية الولايات المتحدة كحليف دولي.

وأدى هذا الوضع على المدى القريب، إلى دفع القادة الأوروبيين إلى زيادة إنفاقهم الدفاعي، وهو أمر طالما طالب به ترمب وحلفاؤه. أما على المدى الطويل فسيدفع حلفاء الولايات المتحدة الغربيين إلى تصور جيوسياسي، من دون أن تحتل فيه واشنطن موقعها كـ"زعيمة للعالم الحر"، ولقد سعت الصين بالفعل إلى الاستفادة من هذا الوضع، فحثت الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة على التراجع عن بعض إجراءات الانفصال الاستراتيجي عن الاقتصاد الصيني، التي وافق عليها الزعماء الغربيون في عهد جو بايدن.

إذا ثبت أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، وإجراءاته الضارة تجاه حلفائه مدمرة كما يشير بعض المنتقدين، فمن المعقول أن ينتهي الأمر إلى أن يكون هذا الوضع أشبه بأزمة السويس بالنسبة لبريطانيا أو غزو أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفياتي

لكن يبقى أن ننتظر لنرى هل تثبت هذه التحركات أنها أخطاء استراتيجية ناجمة عن سوء التقدير، بحجم خطأ غزو العراق عام 2003. مع أن السوابق التاريخية لا تبشر بالخير. ولم يكن الموقف العالمي للولايات المتحدة قبل عودة ترمب إلى منصبه قويا على نحو خاص. ويمكن القول إن الولايات المتحدة كانت بالفعل أضعف كثيرا مما كانت عليه، قبل حرب فيتنام أو غزو العراق، مع انتقال العالم إلى نظام متعدد الأقطاب. إذا ثبت أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، وإجراءاته الضارة تجاه حلفائه مدمرة كما يشير بعض المنتقدين، فمن المعقول أن ينتهي الأمر إلى أن يكون هذا الوضع أشبه بأزمة السويس بالنسبة لبريطانيا أو غزو أفغانستان بالنسبة للاتحاد السوفياتي: أي تسريع اتجاه قائم مسبقا من الانحدار الجيوسياسي. وبطبيعة الحال، لا تزال إدارة ترمب في أيامها الأولى، وربما تتمكن الأسواق والتحالفات العالمية من التكيف مع الطريقة الجديدة في ممارسة الأعمال التجارية، وهو ما يحد من الأضرار طويلة الأمد. ولكن التاريخ يشير إلى أن الولايات المتحدة، ليست بمنأى عن أخطاء سوء التقدير الاستراتيجية، وربما تكون حكومتها قد ارتكبت بالفعل الكثير منها في الأشهر القليلة الماضية.

font change

مقالات ذات صلة