عطر الذاكرة وتداخل الأزمنة والأمكنة في "فورور" لنزار عبد الستار

رواية تعود إلى زمن العواصم العربية الجميل

غلاف رواية "فورور"

عطر الذاكرة وتداخل الأزمنة والأمكنة في "فورور" لنزار عبد الستار

في روايته "فورور" الصادرة أخيرا عن "هاشيت أنطوان"، يأخذنا الروائي العراقي نزار عبد الستار في رحلة سردية لا يتخيل فيها ما حدث، بل ما كان يفترض أن يحدث. ينطلق بنا من مشهد أيقوني في فيلم "حكاية حب" لعبد الحليم حافظ ومريم فخر الدين، حيث تظهر الأخيرة مرتدية معطفا من الفرو ("فورور")، ليجعل من هذا المعطف محورا لقصة آسرة تتنقل بين بغداد والقاهرة وبيروت ولندن، وتتداخل فيها حيوات شخصيات حقيقية ومتخيلة في زمن رومانسي آسر.

الشخصية الرئيسة في الرواية، صابر، لم يتخلص من رائحة أمه الأولى، ولا من رائحتها الثانية المتجسدة في معطف الفورور الذي لامس كتفيها. ليصبح هذا المعطف ذريعة لمطاردة سيرة الأم، وحيدة جميل، المغنية في كباريه "مولان روج" ببغداد، ورحلتها المليئة بالتقلبات والصراعات. ومن خلال تتبع مسار هذا المعطف الثمين، الذي ينتقل من كتف إلى أخرى في أوساط المشاهير والأثرياء، يرسم لنا عبد الستار صورة بانورامية لعصر ذهبي، بكل ما فيه من جمال وبهاء، وما يحمله في طياته من أحزان وانكسارات.

معطف الفورور في الرواية يأخذ بعدا رمزيا مركزيا، لا يمثل فقط الأم ورائحتها ودفئها المفقود، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزا للزمن المتقلب، وللجمال الزائل، وللتغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المنطقة. كما أن تنقل المعطف بين شخصيات مختلفة يحمل دلالات رمزية تتعلق بالطبقات الاجتماعية، والقوة، والنفوذ.

بين الأزمنة

تتميز الرواية بقدرة الكاتب على نسج خيوط الحكاية بمهارة فائقة، إذ ينتقل السرد بسلاسة بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال، ليخلق عالما روائيا غنيا بالتفاصيل الحسية والدلالات الرمزية. "الفورور" ليس مجرد قطعة ملابس، بل هو رمز للدفء والأمان والحب المفقود، وشاهد على تحولات عصفت بالمنطقة.

معطف الفورور يأخذ بعدا رمزيا مركزيا، لا يمثل فقط الأم ورائحتها ودفئها المفقود، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزا للزمن المتقلب

يستحضر المؤلف شخصيات تاريخية بارزة مثل فيلمون وهبي، وفريد الأطرش، والشهبانو فرح ديبا بهلوي، ويزج بهم في نسيج روائي متخيل، لكنه يبدو في كثير من الأحيان واقعيا ومقنعا في ما يذهب إليه بتخيلاته. هذا المزج بين الواقع والمتخيل يمنح الرواية عمقا وبعدا تاريخيا، ويثير تساؤلات حول العلاقة بين الحقيقة والذاكرة، بين ما حدث بالفعل وما كان يمكن أن يحدث.

تقنية المزج بين الواقع والخيال من أبرز سمات الرواية، حيث يشعر القارئ بأنه أمام سجل تاريخي موثق، لكنه في الوقت نفسه ينغمس في عالم روائي حر.

نزار عبد الستار

إنها رحلة عبر الزمان والمكان، عبر الذاكرة والخيال، بحثا عن رائحة الأم المفقودة في ثنايا معطف من الفورور. ويولي عبد الستار اهتماما بالغا بالتفاصيل الحسية، خاصة في ما يتعلق بالروائح والألوان والأصوات. فيساهم وصف رائحة الأم المتجسدة في الفورور، ووصف الأماكن والشخصيات بأسلوب حيوي ودقيق، في خلق جو روائي غني ينغمس فيه القارئ، ويجعله يشعر بأنه جزء من العالم الذي تصوره الرواية.

يستخدم الكاتب تقنية الاسترجاع  للعودة إلى محطات مهمة في حياة الأم، وحيدة جميل، وتتبع مسار معطف الفورور عبر الزمن. في المقابل، يلمح إلى أحداث مستقبلية بشكل خاطف، مما يخلق نوعا من التشويق والترقب لدى القارئ. وهذا التلاعب بالزمن لا يخدم فقط تتبع سيرة الأم والمعطف، بل يساهم أيضا في بناء الصورة البانورامية للعصر والأحداث المتشابكة.

على الرغم من أن الرواية تبدو في ظاهرها ذات صوت سردي واحد يتمثل في صابر الباحث، فإننا نستشف أصواتا أخرى من خلال الحكايات التي يستعرضها عن الشخصيات التي امتلكت الفورور أو عرفت الأم. هذه الحكايات تقدم وجهات نظر مختلفة وتضيف أبعادا متنوعة للشخصيات والأحداث، وإن كانت جميعها مفلترة عبر وعي صابر.

نسيج متداخل

تتميز الحبكة الروائية في "فورور" بكونها غير خطية تقليدية، بل تتشكل كنسيج متداخل ومعقد يربط بين عوالم وأزمنة وشخصيات مختلفة، تتمحور جميعها حول رمزية معطف الفورور ورائحة الأم المفقودة. تعامل المؤلف مع هذه المساحة من الأحداث والأزمنة بإتقان، مستخدما تقنيات سردية متنوعة لخلق تجربة قراءة فريدة ومؤثرة.

فالزمن السردي يعد أحد العناصر الجوهرية في بناء العمل، إذ لا يقتصر دوره على كونه إطارا للأحداث، بل هو أداة فنية بالغة الأهمية في تشكيل المعنى، وتوجيه القارئ، وكشف دواخل الشخصيات. هذه الرؤية تعكس فلسفة الكاتب تجاه الذاكرة، والتاريخ، والحاضر.

جانب من الندوة وحفلة توقيع رواية "فورور" ضمن فعاليات معرض اربيل الدولي للكتاب

يتنقل السرد بحرية بين ماضي صابر وحاضره، وبين ماضي الأم وحيوات الشخصيات التي امتلكت الفورور. وقد ساهم استخدام المؤلف تقنيات الاسترجاع المكثف في استحضار ذكريات الأم ومحطات حياتها، مما كشف تدريجيا عن تفاصيل شخصيتها وعلاقاتها. هذا التفتيت الزمني لم يخلق تشويقا فحسب، بل عكس أيضا طبيعة الذاكرة الانتقائية وغير المنتظمة، وكيف تتشكل الحقائق من خلال تجميع شظايا الماضي.

يولي عبد الستار اهتماما بالغا بالتفاصيل الحسية، خاصة في ما يتعلق بالروائح والألوان والأصوات

قد تبدو مصائر الشخصيات في ظاهرها منفصلة، لكن حبكة الرواية تقودنا إلى اكتشاف روابط خفية وعلاقات غير مباشرة تربط بين هذه الشخصيات عبر الأجيال والأماكن، في تشابك يمنح العمل بعدا إنسانيا أعمق، ويوضح كيف يمكن أثرا بسيطا أن يغير مسارات حياة الكثيرين.

وعلى الرغم من أن الرواية لا تعتمد على حبكة بوليسية تقليدية، فإن المؤلف يخلق نوعا من التشويق والغموض من خلال الكشف التدريجي عن تفاصيل حياة الأم ومصير الفورور. يترك بعض الخيوط معلقة، ويثير تساؤلات لدى القارئ حول العلاقات بين الشخصيات والأسباب الكامنة وراء بعض الأحداث. هذا البناء التدريجي للمعلومات يحافظ على انتباه القارئ ويدفعه إلى مواصلة القراءة.

فسحة التخييل في إطار التاريخ

لم يتعامل عبد الستار مع التاريخ بوصفه وثيقة جامدة أو سجلا للأحداث الماضية فحسب، بل اتخذه خلفية غنية وخصبة أطلق فيها العنان لملكة الخيال، فخلق مساحة واسعة للتخييل تتفاعل مع الحقائق التاريخية، لا لتزييفها، بل لإعادة تصورها، واستكشاف الاحتمالات الممكنة، والكشف عن جوانب إنسانية قد تغيب في السرد التاريخي الرسمي.

لجأ عبد الستار إلى تخييل تفاصيل حياة شخصياته المتخيلة ضمن الإطار التاريخي. فشخصية الأم وحيدة جميل ورحلتها كفنانة في بغداد والقاهرة وبيروت ولندن، وإن كانت مستوحاة ربما من نماذج واقعية، إلا أنها في النهاية نتاج مخيلة المؤلف، إذ يتخيل تفاصيل صراعاتها، وأحلامها، وعلاقاتها، وكيف تتأثر وتؤثر في الأحداث التاريخية التي تجري من حولها. هذه التفاصيل المتخيلة تمنح القارئ فهما أعمق للروح الإنسانية في تلك الفترة الزمنية.

تبرز مساحة التخييل أيضا في إعادة تصور بعض الأحداث التاريخية أو تقديم تفسيرات روائية لها. فبدلا من الاكتفاء بالسرد التاريخي الجاف، ينسج المؤلف حول هذه الأحداث قصصا وحكايات تضفي عليها طابعا إنسانيا وشخصيا. قد يتخيل دوافع خفية للشخصيات التاريخية، أو يقدم رؤية مختلفة لتأثير بعض الأحداث في حياة الأفراد العاديين. هذا لا يعني تحريف التاريخ، بل استخدامه كمنطلق لاستكشاف المشاعر والتفاعلات الإنسانية التي قد تكون غائبة في السجلات الرسمية.

لا يقتصر التخييل على مستوى الشخصيات أو الأحداث الكبرى، بل يمتد ليشمل تصوير الأجواء والتفاصيل الحياتية في تلك الفترة الزمنية. فيعتمد المؤلف على الوصف الحسي المكثف لخلق صورة حية للعراق والقاهرة وبيروت ولندن في الماضي. قد يتخيل تفاصيل الأزياء، والموسيقى، والأماكن، واللهجات، مما يغمر القارئ في عالم الماضي ويجعله يشعر وكأنه يعيش تلك الفترة. هذا الاهتمام بالتفاصيل المتخيلة يساهم في بناء مصداقية العالم الروائي.

هذه الدقة الحسية لا تخدم فقط خلق جو واقعي، بل تساهم أيضا في تعميق الدلالات الرمزية للأشياء

إضافة إلى ذلك، يسمح التخييل للمؤلف باستكشاف ما كان يمكن أن يكون. فمن خلال تتبع مسار معطف الفورور وتنقله بين شخصيات مختلفة، يقدم المؤلف احتمالات سردية متعددة لمسارات حياة هذه الشخصيات وتأثيرها في الأحداث. هذا اللعب بالاحتمالات يثير تساؤلات حول دور المصادفة والاختيارات الفردية في تشكيل التاريخ.

اللغة والذاكرة

تتجلى قدرات عبد الستار في لغته السردية الأنيقة والآسرة، التي تتجاوز مجرد نقل الأحداث، لتصبح عنصرا جماليا مؤثرا يساهم في بناء العالم الروائي وتعميق دلالاته. وتتضح هذه الجمالية في اختيار الألفاظ الموحية والصور البلاغية البديعة، إذ يميل الكاتب إلى استخدام الاستعارات والتشبيهات التي تضفي على السرد جمالا خاصا، وتساهم في نقل المشاعر والأحاسيس بعمق، وتجعل القراءة تجربة سلسة وممتعة.

جانب من الندوة وحفلة توقيع رواية "فورور" ضمن فعاليات معرض اربيل الدولي للكتاب

هذه الدقة الحسية لا تخدم فقط خلق جو واقعي، بل تساهم أيضا في تعميق الدلالات الرمزية للأشياء. وعلى الرغم من النبرة الشاعرية العامة، لا تخلو اللغة السردية هنا من تنوع وتلون يخدم طبيعة الأحداث والشخصيات، فعند وصف لحظات الفرح أو الحنين، تتسم اللغة بالرقة والليونة، بينما قد تتخذ طابعا أكثر جدية، أو حتى سخرية خفيفة، عند تناول بعض المواقف أو الشخصيات.

تؤدي اللغة في الرواية دورا مهما في استحضار الذاكرة واستكشاف الماضي، فالعبارات تحمل شحنات عاطفية وذكريات دفينة، تساهم في ربط الماضي بالحاضر وتوضيح دوافع الشخصيات. الطريقة التي يوصف بها الماضي ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي استعادة حسية وعاطفية لتلك الفترة الزمنية.

تتميز لغة الحوار في الرواية بكونها معبرة عن شخصيات المتحدثين وخلفياتهم الاجتماعية والثقافية، وتحمل دلالات خفية تكشف عن جوانب غير معلنة في العلاقات بين الشخصيات. كما أن استخدام بعض المصطلحات أو التعابير التي كانت شائعة في تلك الفترة الزمنية، يساهم في إضفاء مصداقية على الحوارات وربطها بالسياق التاريخي للرواية.

تبقى اللغة أداة أساسية في بناء المستوى الرمزي داخل الرواية، فاختيار مفردات معينة لوصف الفورور أو الأماكن أو الشخصيات يحمل دلالات رمزية تتجاوز المعنى الحرفي. هذه الرمزية اللغوية أثرت النص ومنحته أبعادا عميقة.

يمكن القول إن اللغة السردية في رواية "فورور" عنصر فني متكامل، يساهم بشكل كبير في جمالية العمل وعمقه الدلالي، بفضل شاعريتها، ودقتها الحسية في الوصف، وتنوع أسلوبها، وذلك يعود إلى قدرة المؤلف على استخدامها أداة للذاكرة.

font change

مقالات ذات صلة