هل يلقي ترمب قنبلة في المستنقع الليبي؟

جمود سياسي على وقع نهب منظم... وصراع بين موسكو وواشنطن على شرق البلاد

رويترز
رويترز
أفراد من وزارة الداخلية الليبية يقفون حراسا أمام البنك المركزي الليبي في طرابلس، ليبيا في 27 أغسطس 2024

هل يلقي ترمب قنبلة في المستنقع الليبي؟

تجد ليبيا نفسها في أسوأ أحوالها منذ عام 2020، حين أنهى وقف إطلاق النار الحرب الأهلية بين الحكومة التي تسيطر على غرب البلاد المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والقوات الشرقية بقيادة الجنرال خليفة حفتر.

ومنذ ذلك الحين، فشلت سلسلة من الجهود المدعومة من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في إجراء انتخابات وطنية أو تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو ما مكّن حفتر ورئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة من البقاء في السلطة دون أن يفكر أي منهما في المغادرة. وبينما تعهد كلاهما بالتنازل عن السلطة لحكومة انتقالية جديدة، فإن أيا منهما لا يبدو عازما على التنازل عن امتيازات الوضع الراهن، التي تشمل استخدام مقدرات الدولة لمضاعفة ثروات عائلتيهما وتوزيعها على حلفائهما.

تحولت ليبيا في واقع الحال إلى دولة ذات حكم كليبتوقراطي بحكامها الفاسدين الذين ينهبون ثروات البلاد، وبخاصة ثرواتها النفطية، التي لو قُيّض لها أن تدار بشكل صحيح، لما اكتفت بالوفاء باحتياجات سكانها وحسب، بل لكانت قادرة على تنمية المنطقة بأسرها، ولأعطت ليبيا مكانة مرموقة بين الدول الثرية. لكن البلاد لا تزال غارقة في اختلالات اقتصادية عميقة. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى فشلين مترابطين في السياسات الاقتصادية: قطاع عام متضخم يوظّف غالبية القوة العاملة، ودعم للوقود يشكّل أكثر من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد شجّع هذا الدعم منذ زمن طويل على التهريب عبر الحدود– وهو ما يبدو اليوم تفصيلا ثانويا بالمقارنة مع حجم النهب المنظّم الذي تتعرض له الدولة.

توضح سلسلة من التقارير الأخيرة بالتفصيل اختفاء مليارات الدولارات من الأموال العامة. ويكشف التقرير السنوي للجنة خبراء الأمم المتحدة، التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1973، مخططا جرى بموجبه "مقايضة" بعض صادرات النفط الليبية بالديزل اللازم لتوليد الكهرباء. ويصف التقرير، إضافة إلى تحقيق لاحق نشرته صحيفة "فايننشيال تايمز،" كيف أدى هذا المخطط الذي لم يتسم بالشفافية إلى اختفاء مليارات الدولارات من إيرادات البنك المركزي. وقد خضعت الشركة الوطنية للكهرباء للتحقيق لأنها دعمت هذا المخطط.

قدم ديوان المحاسبة الليبي تقارير تفيد بأن عائدات النفط من المؤسسة الوطنية للنفط أقل بكثير من الودائع المقدمة للبنك المركزي

كما قدم ديوان المحاسبة الليبي تقارير تفيد بأن عائدات النفط من المؤسسة الوطنية للنفط أقل بكثير من الودائع المقدمة للبنك المركزي. وبعد تعرض التقرير للهجوم، أكدت سفارات كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة دعمها لديوان المحاسبة وحرصها على الحفاظ على استقلاليته. وفي مؤشر آخر على الفساد، أُلقي القبض على رئيس مكتب استرداد وإدارة الأصول الليبية في يناير/كانون الثاني. ولا يتطلب الأمر خيالا واسعا للتساؤل عن سبب اعتقال شخص يتحرى عن مصدر رئيس للأموال على الرغم من إدانة الأمم المتحدة.

في النصف الأول من شهر مارس/آذار، اضطرّ المصرف المركزي الليبي إلى ضخ 2.3 مليار دولار من العملات الأجنبية بهدف تعزيز السيولة في السوق المحلية. ثم، في السابع من أبريل/نيسان، أقدم المصرف على خفض قيمة الدينار بنسبة 13 في المئة، في خطوة استباقية لاحتواء احتمالات نشوء سوق سوداء للعملات الصعبة– وذلك حتى قبل دخول تعريفات ترمب الجمركية حيّز التنفيذ.

أ.ف.ب
ليبيون يؤدون صلاة عيد الفطر وفي الخلفية صورة للقائد العسكري خليفة حفتر، في الخلفية في مدينة بنغازي، ليبيا في 31 مارس

إذا كانت الصورة الاقتصادية قاتمة، فالمشهد السياسي لا يقل عنها سوءا. فعلى الرغم من حصول الدبيبة على 39 صوتا من أصل 73 في منتدى الحوار السياسي الليبي لعام 2021، ظل رئيسا للوزراء لأربع سنوات ولا يزال. وكان من المفترض أن يغادر منصبه المؤقت في عام 2022. أما ما يُسمى بالهيئات التشريعية، مثل مجلس النواب في الشرق والمجلس الأعلى للدولة في الغرب، فقد اتضح أنها عاجزة كليا. فقد دخلت مع مجلس الرئاسة في عدد لا يحصى من المحادثات الرسمية وغير الرسمية، التي لم تسفر عن أي شيء يُذكر. والحقيقة أن مصالح القادة السياسيين تكمن في بقائهم في السلطة، وهم لا يريدون الدخول في خلاف يهدد تلك المصالح مع عائلتي الدبيبة أو حفتر.

تعتبر محاولات الحد من نفوذ روسيا على حفتر ضربا من الخيال. ويبدو جليا أن روسيا تملك اليد العليا هناك

إلى جانب الجهود الداخلية في ليبيا، كان للقوى الخارجية تأثير ملموس في تطورات المشهد على الأرض. وعلى الرغم من عقد المؤتمرات وإطلاق مبادرات دبلوماسية، مثل عملية برلين التي بادرت بها المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، فقد واجهت الجهات الفاعلة الغربية عقبات جمة من قبل المعرقلين الإقليميين من جهة وبسبب غياب الإرادة الحقيقية في إعطاء الأولوية للوضع في ليبيا.

أ.ف.ب
ميناء البريقة النفطي في مرسى البريقة، على بُعد حوالي 270 كيلومترا غرب مدينة بنغازي شرقي ليبيا، في 24 سبتمبر 2020

خلال الحرب الأهلية 2019-2020، انضمت قوات روسيا (أو قوات فاغنر) إلى حفتر في هجومه على طرابلس، بينما استجابت القوات التركية لدعوة حكومة طرابلس للمساعدة في الدفاع عنها. وأدى الوضع المأزوم الناجم إلى ترك الروس والأتراك يراوحون مكانهم. وفي حين تقوم تركيا بتدريب القوات الليبية الغربية ولديها علاقات تجارية في جميع أنحاء البلاد، فقد تعزز القوات الروسية- مجموعة فاغنر القديمة، التي أصبحت اليوم فيلق أفريقيا- وجودها في كافة أرجاء ليبيا. وتستخدم هذه القوات ليبيا للوصول إلى القواعد الجوية، ما يسمح لها بنقل القوات والعتاد أثناء توسعها في أفريقيا. كما أنها تحافظ على وجودها في المنشآت النفطية لاحتجاز مصدر الدخل الرئيس في ليبيا رهينة بأيديها. وعندما أطيح بنظام الأسد، كان أول مكان سعت روسيا إلى إعادة نشر قواتها وسفنها فيه هو موانئ المياه العميقة في شرق ليبيا.

يمكن لترمب إلقاء قنبلة في المستنقع الليبي، مثلما فعل لزعزعة صراعات أخرى بدت مستعصية

وتعتبر محاولات الحد من نفوذ روسيا على حفتر ضربا من الخيال. ويبدو جليا أن روسيا تملك اليد العليا هناك، بيد أن حفتر يستفيد من ذلك الوجود في مواجهة التهديدات الخارجية المحتملة أو التحديات الداخلية. ويسمح حفتر لروسيا باستغلال الأراضي الليبية، مدركا أن الكرملين سيتجاهل الطريقة التي يحكم بها البلاد. ومع تزايد نفوذ صدام نجل حفتر، الذي عُين مؤخرا رئيسا لأركان القوات المسلحة العربية الليبية، وسيعتمد هو الآخر على الشراكة مع روسيا للأسباب نفسها.

وعلى الرغم من هذه التحديات، فقد سعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى اتخاذ خطوات للتقرب من حفتر، فأرسلت المبعوث الأميركي إلى ليبيا للقائه سبع مرات على الأقل في بنغازي، بالإضافة إلى إرسال مساعد وزير الخارجية والقائد العام للقيادة الأميركية في أفريقيا. وبدلا من عزله حتى يقدم شيئا ملموسا لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تواصلت الإدارة مع صدام وخليفة دون شروط مسبقة. وأطلقت إدارة بايدن أيضا مناورات عسكرية في محاولة لتوحيد الجيشين الشرقي والغربي، غير أن هذه المناورات افتقرت إلى التوازن بشكل رئيس، ذلك أن غالبية القوة العسكرية في الغرب تأتي من الجماعات المسلحة وليس من الجيش الرسمي.

رويترز
الدولار الأمريكي والدينار الليبي متراكمان في سوق العملات في مصراتة، ليبيا، 31 أغسطس 2024

وحتى الآن، حافظت الإدارة الأمريكية الجديدة على الاستراتيجية التي كانت متّبعة إبان عهد بايدن، والرامية إلى إبعاد فصيل حفتر عن النفوذ الروسي. فقد زار كل من صدام حفتر وشقيقه بلقاسم – الذي يترأس صندوق التنمية وإعادة الإعمار في شرق ليبيا- واشنطن خلال الأسبوع المنتهي في 27 أبريل.

وخلال الزيارة، وقع الصندوق عدة مذكرات تفاهم مع شركات أميركية، غير أن قانون مكافحة الممارسات الفاسدة الأجنبية قد يشكّل عقبة كبرى أمام تنفيذ هذه الصفقات ما لم يُظهر الصندوق مستوى من الشفافية ظل غائبا حتى الآن. وفي هذه الحالة، قد تصبح الشركات التركية وغيرها من الشركات الإقليمية هي المستفيد الرئيس.

أما إذا خلصت إدارة ترمب إلى عدم وجود مكاسب واضحة للشركات الأميركية، فقد تعهد بالملف الليبي إلى الشركاء الأوروبيين. وكما ورد على لسان نائب الرئيس جيه دي فانس في تسريبات ملف اليمن، حين قال: "أنا ببساطة أرفض إنقاذ الأوروبيين مرة أخرى".

ثمة حاجة ملحة لمعالجة الفوضى والاختلال في ليبيا. فكل شهر ضائع سيؤدي إلى توسيع هوة الفساد، ومفاوضات أكثر صعوبة، واستمرار الاستغلال الروسي

وكخيار بديل، يمكن لترمب إلقاء قنبلة في المستنقع الليبي، مثلما فعل لزعزعة صراعات أخرى بدت مستعصية. يمكن للإدارة أن تهدد جميع القادة الليبيين الفاعلين الذين يزعزعون السلام والاستقرار في ليبيا، وذلك بتطبيق العقوبات القائمة. ويجب على كلا الجانبين اتخاذ خطوات ملموسة نحو تشكيل حكومة تكنوقراطية وإلا ستطبق العقوبات بحقهما. ويجب أن يتضمن الاتفاق أيضا مراقبة صارمة لميزانية الحكومة ومؤسساتها المالية الرئيسة والمؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي وجميع الشركات التابعة لها. ورغم أن أيا من الإدارات الأميركية لم تبدِ استعدادا حقيقيا لمعاقبة حفتر، فإن التهديدات ستجبره على الاختيار بين المشاركة في مفاوضات جادة أو كشف حقيقته كأداة روسية لا تقبل التفاوض.

إذا وافق القادة الليبيون على المشاركة في مفاوضات جادة بقيادة الأمم المتحدة، فسيكون على الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها لإجبار المعرقلين على الابتعاد عن العملية، وهو أمر فشلت فيه الإدارات السابقة. أما إذا لم يتمكن الليبيون من الاتفاق على حكومة تكنوقراط بعد شهرين، فيمكن عندها لإدارة ترمب أن تعيد المشكلة إلى أوروبا.

وبصريح العبارة، ثمة حاجة ملحة لمعالجة الفوضى والاختلال في ليبيا. فكل شهر ضائع سيؤدي إلى توسيع هوة الفساد، ومفاوضات أكثر صعوبة، واستمرار الاستغلال الروسي. فأوروبا المشغولة بإنقاذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن تتمكن من منع هذا السيناريو بمفردها، وسيكون من الحكمة أن تضع يدها في يد ترمب بخصوص ليبيا قبل فوات الأوان.

font change