صقلية العربية كما صورها مخطوط "صحائف مصر"

رواية الكاتب الإيطالي ليوناردو شاشا

Shutterstock
Shutterstock
الكنيسة العربية-النورمانية "سان جيوفاني ديلي إيريميتي" في باليرمو، صقلية، إيطاليا

صقلية العربية كما صورها مخطوط "صحائف مصر"

يستشهد السفير المغربي عبد الله بن علمان ببيت الشاعر الصقلي العربي أحمد بن حمديس فور وصوله إلى باليرمو الإيطالية في ديسمبر/ كانون الأول 1782: "جدول ذابل الزلال"، لكن لا أحد من البلاط استوعب المعنى، مع أن الراهب جوزيه فيلا يتفرد برصيد ضئيل من معرفة اللغة العربية، والأمر له علاقة بالوثيقة المعروضة أمام ناظري المونسنيوز آيرولدي، المبهور بعدستي السفير المغربي، المرصعتين بأحجار خضراء كالزمرد، ولتوه حسم السفير هوية المخطوط بعد اطلاع سريع: إنه كتاب عن السيرة النبوية، ولا شيء على الإطلاق في المخطوط على صلة بصقلية، غير أن الراهب جوزبه فيلا، تصرف في ترجمة خطاب السفير إلى المونسينيور، عاكسا إياه بخبث عن بكرة أبيه: يقول صاحب السعادة بأننا نجد أنفسنا الآن أمام وثيقة ثمينة للغاية، لا وجود لما يماثلها في بلاده، إنه كتاب يتناول الاحتلال العربي لصقلية، ولمراحل الحكم فيها.

يبتهج المونسنيور لهذا السبق التاريخي ويسأل بحماسة ما إذا كان المخطوط النادر شبيها بسفر "كمبريدج" عن تاريخ جزيرة صقلية أو شبيها بكتاب دي ريبوس سيكولوس وهو ملحمة شعرية باللاتينية عن تاريخ صقلية أيضا، بينما يصر الراهب جوزبه فيلا على التصرف اللئيم في الترجمة إذ يعرب للسفير المغربي عن خيبة أمل المونسنيور لعدم احتواء الكتاب العربي على ما هو صقلي، إلا أنه يرغب في معرفة كتب أخرى تتناول السيرة النبوية موجودة في "كمبريدج".

إرباك تاريخي لمدينة صقلية

بهذه المقدمة من التلفيق يقلب الراهب دون جوزبه فيلا الحقيقة، وباقترافه هذا يتسبب في إرباك تاريخي لصقلية برمتها، مع أن المسألة كانت تقتضي أمانة الكشف عن هوية الكتاب الذي حمله معه المونسنيور آيرولدي حين كان يعمل أمينا لمكتبة إسكوريال في سان لورينزو، بإسبانيا، ووصول السفير المغربي إلى بلاط نابولي 1782، بعد أن دفعت عاصفة بحرية سفينته إلى شواطئ صقلية، كان مناسبة لفك غموض المخطوط العربي.

بهذه المقدمة من التلفيق يقلب الراهب دون جوزبه فيلا الحقيقة، وباقترافه هذا يتسبب في إرباك تاريخي لصقلية برمتها

وأمام جهل السفير باللغة الإيطالية الدارجة في نابولي وبالفرنسية معا، بادر أحد موظفي القصر إلى اقتراح الراهب فيلا الذي يمتهن حرفتين مزدوجتين، راهب ضمن فرقة رهبان مالطا من جهة، وصاحب دراية بفك لغز الأرقام الخاصة بلعبة اليانصيب، فضلا عن تفسير الأحلام.

غلاف "صحائف مصر"

وعن هذه الأخيرة، تحتكم وقائع رواية "صحائف مصر" للكاتب الإيطالي ليوناردو شاشا، ترجمة عرفان رشيد (منشورات المتوسط، 2025)، إذ وجده عسس القصر المفوضون لاستقدامه من أجل الترجمة، خائضا في تفسير حلم أحد الجزارين، الذي رأى خنزيرا ضاحكا بملء شدقيه، بمعية الوالي ونائب الملك وإحدى جارات الجزار في وليمة على صحن الكسكس المغربي، فاستفسره الراهب إن كان الوالي بارزا بصفته الرسمية أم الشخصية؟ فقرأ الراهب متن الرؤيا بأن منح الوالي رقم 11، والكسكس المغربي رقم 31، والخنزير رقم 4، ورقم 45 للجارة، وفي القصر قلده الوالي مهمة مرافقة السفير المغربي، كي يعرفه على المدينة، مع تحقيق طلباته ورغباته بما في ذلك لقاء المومسات أو سيدات المجتمع على حد سواء.

غير أن السفير المغربي لم يكن مهتما سوى بشيء واحد، هو التعرف الى ما تبقى من آثار التاريخ العربي في مدينة باليرمو، وهذا ما يلم به المونسنيور آيرولدي المحيط بتاريخ صقلية، خاصة في شقه العربي، وأما بالنسبة إلى الراهب المكلف الترجمة، فتلك فرصته التي لا تقدر بثمن كي ينعم بمسرات الأماسي ما بين حسناوات صقلية وستائر الحرير والموسيقى وملذات الأكل والنبيذ، بدل الاقتصار على حياة بائسة رهينة بفك ألغاز أرقام المقامرين، ولهذا السبب بالذات، حتى لا يعود إلى بؤس حياته الآنفة، خطط كيف يطيل في زمن استضافة السفير المغربي، لكي يغنم ما أمكن الامتيازات تلو الأخرى، عبر التلفيقات الكبرى في الأداة السحرية التي يمتلكها وحده: الترجمة.

Shutterstock
كنيسة سان كاتالدو في ساحة بيليني، باليرمو، صقلية، إيطاليا

مقالب الترجمة اللئيمة

سيغادر السفير المغربي صقلية في الثاني عشر من يناير/ كانون الثاني 1783، في المقابل سيحظى الراهب جوزبه فيلا بمفازة ترجمة المخطوط العربي إلى اللغة الصقلية، وقد غدا شهيرا لدى العامة بالراهب رفيق التركي، مع أن السفير مغربي، ومن امتيازات مهمته الجديدة كمترجم أن انتقل إلى منزل فخم بتدبير من المونسنيور، حيث سيشرع فك المخطوطة ورقة ورقة، ويخلطها كمقامر يعيد ترتيب أوراق اللعب، وهكذا التبست تفاصيل السيرة النبوية، التي سيقوم بتحريفها جذريا، بتحويل الحروف العربية إلى حروف قرر أن يسميها العربية الماور-صقلية، والتي لم تكن في الواقع إلا المالطية الدراجة مكتوبة بالأبجدية العربية، وبالتالي حول السيرة النبوية إلى قصة صقلية بالمالطية، مختلقا تاريخا كاملا للمسلمين في صقلية، لكن مع وضعه في الحسبان قدرة خصومه على كشف اللعبة، وفي طليعتهم الخبير روزاريو غريغوريو الذي ضبطه في عمل استباقي ينسب غزو صقلية إلى إبراهيم بن الأغلب بدلا من زيادة الله، ومع ذلك فالمونسنيور يضع فيه الثقة الكاملة، مرجحا كفاءته كمترجم له مصداقية.

راجت مقتطفات سربها المونسنيور في الصالونات، الى درجة باتت علامات من الليالي العربية تلوح في مرايا الموضة الحديثة في صقلية

شاعت أخبار الترجمة للمخطوط العربي الموسوم باختلاق من الراهب بـ"صحائف مصر" بدل السيرة النبوية، وقبله ترجمته غير الأمينة لـ"سفر صقلية"، إذ راجت مقتطفات سربها المونسنيور في الصالونات، الى درجة باتت علامات من الليالي العربية تلوح في مرايا الموضة الحديثة في صقلية.

يعود غريمه الخبير غريغوريو إلى انتقاده علنا وجها لوجه، بعد أن اطلع على جانب من إحدى المسودات، متهكما بأن جوزبه فيلا حقق تقدما كبيرا في تنصير المسلمين في صقلية، وجعلهم يتصرفون كالمسيحيين في ترجمته المريبة، لذا استعان الراهب فيلا، بجوزبه كاميليري القادم من مالطا لكي يسعفه في العمل على كتاب "صحائف مصر"، بعد أن انتهى من تحريف صحائف سان مارتينو في كتابه الجاهز سفر صقلية.

Shutterstock
عمارة عربية في مدينة باليرمو، صقلية

عمل المؤرخ بالنسبة للمترجم الصقلي محض زيف وخداع، ومن اخترعوا التاريخ قاموا بخلط الأوراق لا غير، والمسألة في تقديره شبيهة بأوراق شجرة، تتساقط وتختفي، تليها أوراق متجددة ستلقى المصير ذاته، بينما الشجرة تظل شجرة، إلى أن تختفي هي الأخرى، احتطابا أو سقوطا مع تفاقم شيخوختها، لذا لا بأس من خلط الأوراق، قديمها وجديدها، واللعبة تقتضي الإمساك بها كرموز للملوك والبابوات والقادة لإشعال النار وإثارة الدخان، والنتيجة خداع الشعوب.

بهذه الاستراتيجيا الماكرة، يمضي المترجم في تلفيق عمله، مما سيتسبب في قلق الكونتيسة التي بلغ إلى سمعها أن كتاب سفر صقلية يغمز في بعض شذراته إلى ملكية إقطاعية تابعة للتاج، والخوف كل الخوف أن يضاعف كتاب "صحائف مصر" من هذا التأكيد، مما قد يجردها هي وزوجها من بعض الأراضي كأنه سيجردها من ثيابها، كذلك انتقل الخوف إلى نبلاء باليرمو من كتاب "صحائف مصر"، مستشعرين الخطر المحدق بهم، إذا ما تضمن تشكيكا في ممتلكاتهم.

سلاح الترجمة كفن للمساومة والتلاعب بالتاريخ

على هذا النحو أمسى جوزبه فيلا يمتلك سلاحا يؤرق الطبقة النبيلة، وهو لذلك مستعد ليقايض به ويساوم من أجل مجد شخصي، عماده المال والتشريف بصداقة النبلاء، كل هذا مقابل حذف فقرات مسمومة هنا وهناك. أكثر من ذلك بلغت رسالته صاحب الجلالة المقدسة مدعيا فيها أن "صحائف مصر" الذي يشتغل على ترجمته يضم جميع الرسائل الرسمية التي كتبت على مدار 45 عاما، بين سلاطين مصر وروبرت جيسكارد، والكونت روجر الكبير، ونجله مؤسس مملكة صقلية، أول من اعتمد لنفسه لقب ملك، فتمت ترقية جوزبه فيلا إلى رتبة أب، وأمسى معروفا بالأب فيلا العظيم، كما دعته أكاديمية نابولي ليكون عضوا فيها، وأضحى البابا نفسه قلقا على صحة عيني فيلا لأن بصره منذور لذاكرة صقلية التي يميط اللثام عن تاريخها المنسي.

"صحائف مصر"، كتاب في التلاعب بالتاريخ، اختلاقه بالذات ليكون شرارة مؤامرات ثورية، لصالح أغراض شخصية يقترفها مترجم

أمام هجوم من غريغوريو وخبير نمساوي يدعى هاغير على جوزبه فيلا، بتهمة تزييف كتابي "سفر صقلية" و"صحائف مصر" معا، اختلق جوزبه فيلا ليلة موت نائب الملك، حكاية سرقة بيته، بما في ذلك مخطوطة "صحائف مصر"، وجلبت الشرطة الراهب المالطي المساعد، الذي اعترف بأمور للقاضي رجحت الشكوك في مصداقية عمل جوزبه فيلا .

Shutterstock
مشهد عام لمدينة باليرمو يعكس مزيجا فريدا من العمارة العربية-النورمانية والإرث الإيطالي في عاصمة صقلية

خسارة كتاب "صحائف مصر" هو بمثابة قضية صقلية قومية كبرى، ما انفكت تتضح بالعثور على الصحائف من جديد، بفضل ألاعيب الراهب الضالع في حبكة المقالب، وهو ينفلت من الورطة تلو الأخرى، هازما خصومه وفي مقدمتهم هاغير، ومهندسا لدسائس تودي بأعناق شخصيات مرموقة منهم النبيل دي بلازي، الذي تنتهي الرواية بمشهد شنقه في الساحة.

"صحائف مصر"، كتاب في التلاعب بالتاريخ، اختلاقه بالذات ليكون شرارة مؤامرات ثورية، لصالح أغراض شخصية، يقترفها مترجم يضطلع بمهمة التأريخ عبر تزييف الحقائق. ما الحقيقة في مهب اشتباكات الخيال والتلفيق؟ ذلك هو السؤال اللاسع، الورافة انعاكسات ظلاله كأجوبة حكائية في متن سردي ثلاثي الأجزاء، يفصح عن الطرق الماكرة التي ينكتب بها التاريخ عبر ترجمة مخطوط بتصرف لئيم طاعن في الخيانة وفن الخداع.

font change