المرأة محور الكون في "الاستدارة الأخيرة" لأحمد الزمام

قلب يقود العالم

أحمد الزمام وغلاف "الاستدارة الأخيرة"

المرأة محور الكون في "الاستدارة الأخيرة" لأحمد الزمام

تستدرجنا رواية "الاستدارة الأخيرة" للكاتب الكويتي أحمد الزمام منذ صفحاتها الأولى إلى عالم تتقاطع فيه الأساطير العائلية مع القلق الفردي، ويعاد فيه تشكيل الزمن واللغة على نحو دائري.

تدور أحداث الرواية حول فتاة صغيرة تنتمي إلى قبيلة تعيش على أطراف الصحراء، تنقلب حياتها رأسا على عقب بعد أن تفقد والدها الزعيم، فتجد نفسها وسط صراعات تتشابك فيها الطفولة مع السياسة، والمقدس مع الأسطوري، لتبدأ رحلة تحولها من طفلة خائفة إلى وارثة رمزية للزعامة، تقود جموع النسوة في طقس احتجاجي غامض أشبه بالقيامة، حيث يتقاطع فيها الحلم بالواقع، ويغدو الزمن دائرة مغلقة من التكرار والانكسار.

يتجاوز المؤلف بالسرد الحكائي حدود الحكاية ليصل إلى عالم وجودي ميتا-سردي، حيث تمثل كل استدارة رمزا للاعتراض، ويتكثف كل تفصيل بسيط ليغدو بؤرة للمعنى. ويفتح عنوان الرواية المجال أمام تأملات وجودية وسردية في آن، حيث تبنى الحكاية حول مركز خفي، ويتولد الدوران من نواة تنتج المعنى. فالاستدارة هنا تتجاوز كونها حركة دائرية أو شكلا هندسيا، لتغدو مسارا قدريا يحتضن تجربة الذات، ويمضي بها نحو مواجهة عميقة مع التجربة الحياتية والانتماء. هي صورة لوعي يلتف حول نفسه، ويتنقل بين الغريزة والفكر والعاطفة، في دوائر من الحيرة والقلق والتوق للخلاص. إنها اللحظة التي يشتد فيها الاضطراب الداخلي، ويدفع الكائن إلى حافة القرار.

تعيد الرواية، الصادرة عن دار "رشم" في الرياض (2024)، تدوين السلطة والتاريخ من منظور أنثوي، متجنبة الوقوع في فخ الخطاب النسوي التقليدي، حيث تقدم النساء ككائنات كونية حارسة للوعي الجمعي ومؤسسة للحكم، فتعاد كتابة التاريخ بأصابعهن، ويصان الوعي نفسه من خلالهن.

في مشهد الاستدارة الكبرى، تصبح الطفلة وارثة الزعامة، وتمثل اللحظة التي فيها تصطف العشيرة في دائرة حولها، وتجرد اللحظة من الذكورة السياسية، ليعاد فيها فهم الزعامة وفق تصورات جديدة للهوية والانتماء، فيها تكون المرأة، للمرة الأولى، "الماضي والشرط المستقبلي".

الاستدارة هنا تتجاوز كونها حركة دائرية أو شكلا هندسيا، لتغدو مسارا قدريا يحتضن تجربة الذات، ويمضي بها نحو مواجهة عميقة

تتحول الحصى في الرواية من مادة جامدة إلى رمز مركزي شديد التوتر. الحصى التي كانت الطفلة تجمعها على ضفاف النهر وأمام أبيها، تشبه جمع الذاكرة المبعثرة، والتقاط شذرات التاريخ الشخصي بوصفها بقايا من ذاكرة لا تكتمل إلا بالغوص في الهامش.

مملكة من الحكاية

تظهر الشخصيات وهي تكتب وتتناقش وتهذي وتتسلى، فيما يفكك التاريخ كما تفك شيفرة لغز قديم، بعرض قلبه من الداخل وكشف تناقضاته. يقول السارد: "شجاعة مني أن أختار الموت"، فيجعل من هذا الاختيار فعلا تأسيسيا داخل النص، يعلن من خلاله رفضه للحكايات الجاهزة واندماجه في سردية وجودية ترسم من جديد حدود المعنى والذات.

الزمن هنا غير خطي، لولبي، كأننا داخل لعبة مرايا زمنية: حاضر يعيد صياغة الماضي، وماض يختبر هشاشة الحاضر، في استدارة سردية لا تنتهي.

الكاتب الكويتي أحمد الزمام

ثمة في الرواية ممالك متخيلة، نسائية الطابع، تخوض فيها النساء حروبا رمزية تهدف إلى إعادة تأويل الرواية الأصلية وكشف تواطئها مع السلطة. تخترع النساء في هذه العوالم أدوات سرد خاصة، يقتلن ويضحكن، يحكمن ويطبخن الضفادع، ويخفين الذاكرة في تفاصيل الحصى، كمن يخفين المعنى، ويؤسسن لمملكة من الحكاية. حيث تبنى هذه الممالك من الداخل، من الحكايات، من الأم، من العمة، من المعلمة، من الحضور الأنثوي الكثيف الذي لا يدع أي سطر يمر دون إعادة كتابة مضادة.

تتحول الاستدارة من طقس شعبي في القرية إلى لحظة وجودية تجبر البطلة على اختيار مصيرها، وتعمل على ترتيب السرد وتقطيع اللغة وإعادة كتابة النهاية. الاستدارة، في رمزيتها، تقف على طرف نقيض من الخضوع، فهي مساحة الدوران الحر قبل الانقضاض على قرار الحياة. وحين تهتف البطلة بجملتها الأخيرة، ويتبعها الجمع، يتحقق فعل يتجاوز حدود الانتصار الفردي، ويعيد تشكيل ذاكرة جماعية بدت طي النسيان، لكنها تنبعث من جديد.

يتجنب صاحب "العاقل الذي ركل رأسه" الزخرفة في سرده، ويعتمد على الإيقاع الداخلي للكلمة، تتكرر الصور والعبارات كعلامات شعورية متراكمة، تتجاوز الاجترار السطحي لتشكل طقسا داخليا ينبض في كل صفحة. اللغة بدورها تتشكل بحسب مزاج الشخصية، فتنبض بالحيرة حينا، وتتفجر بالسخرية أو الشغف أو الطفولة حينا آخر، لتغدو كل صفحة انعكاسا للطريقة التي تروى بها الحكاية، لا لمجرد محتواها.

تتحول الاستدارة من طقس شعبي في القرية إلى لحظة وجودية تجبر البطلة على اختيار مصيرها، وتعمل على ترتيب السرد وتقطيع اللغة وإعادة كتابة النهاية

يبرز هذا بوضوح في مشاهد التيه المعرفي، حين يصرح السارد بيأس داخلي: "المعرفة شقاء. وربما هي تلك التي ترتبط بحقيقتنا، حقيقة البشر المأسوية" (ص 10)، فيتحول الإدراك هنا إلى عبء ثقيل يخلخل اليقين ويقوض ثباته، تاركا الذات في مواجهة تساؤلاتها الوجودية العميقة. وفي مقطع آخر، يحول الحنين الطفولي إلى ضرب من الاحتجاج الصامت على قبح الواقع، كما في وصفه لأبسط لحظات الفرح: "أمد يدي أفرش أصابعي، أقبض عليه، أرفع يدي عاليا، كم جاءت به مخيلتي" (ص 25)، وهنا تستعاد براءة الجسد في لحظة اكتشاف، حيث تتحول حركة الإمساك بالحصى إلى حركة رمزية لإمساك المعنى ذاته.

يأتي الأسلوب محتدما، يقف عند تخوم التصنيف ويحرك النص في اتجاهات متفلتة من التصنيفات والقوالب الجاهزة. تصبح اللغة عنصرا حيا في اللعبة السردية، متقلبة، مشحونة عاطفيا، تتأرجح بين التذكر والنسيان، بين الإمساك والانفلات، كأنها تشارك شخصيات الرواية في خوض تلك الاستدارة المصيرية التي لا تعني النهاية بقدر ما توحي بعتبة وجودية جديدة.

كتابة الهامش

تنبع الشخصيات من صراعها مع المكان والتاريخ، هي ذوات تنمو في قلب الانهيار، وتتجاوز موقعها كأدوات روائية، لتصبح كيانات تبحث عن معنى وسط عالم يتهدده الصمت والتزوير. فالبطل راو وكائن هش يعيش على حواف الخوف والمعرفة، وعلى تماس مع الانقراض، كما يرد في تأملاته حول مصير الرجال: "جنس يكاد ينقرض، مثله كمثل الفئران، يختفي فأرا تلو فأر". أما الأب، فهو تجل خافت لذكورة مكسورة، تنسحب أمام جبروت الأنثى. وفي المقابل، تظهر العمة بوصفها الصوت السردي المضاد، حاملة الذاكرة، وباذخة الحكاية، دون أن تتحول إلى سلطة.

رواية "الاستدارة الأخيرة" للكاتب الكويتي أحمد الزمام

الضفدعة، زوجة الأب، تشكل صورة كاريكاتورية لكنها تحمل تمثيلا سورياليا لسلطة نسائية مشوهة، تحكم من خلال التنكيل الجسدي والرمزي. أما الأستاذة الجامعية، فهي انعكاس لما بعد السلطة؛ أنثى تكتب التاريخ من موقع القوة، لكنها تظل معلقة في شكها، حائرة بين سلطة القول ومرارة الكذب.

كل شخصية تعبر عن مرآة مكسورة، تعرض حقيقتها وتكشف هشاشة الهوية وتشظي الذات داخل سردية متقلبة. هم، مثل الرواية نفسها، يعيشون في زمن الاستدارة حيث لا مفر من الدوران إلا بمواجهته.

تضع الرواية المرأة في مركز الكون، بوصفها قوة فاعلة تخترق بنيات اللغة وسرديات التاريخ لتعيد تشكيلهما من الداخل

ينتقل السارد من مشاهد منزلية حميمة، إلى غرف اعتراف مرتبكة، ومن مدارس إلى ممالك تقودها شخصيات متخيلة، لتبدو الرواية وكأنها كتبت داخل حلم طويل، وتتحول الأبنية والأمكنة بدورها إلى مرايا تنعكس فيها صراعات الداخل، ويصير البيت القديم أشبه بمسرح تتكرر عليه أفعال طفولية تحمل تأويلات سياسية وعاطفية كثيفة: "عدت للمكان ذاته الذي خرجت منه أول مرة، لكني عدت إليه بأسئلة لا تنتهي"، وهذه العودة ليست مكانية فحسب، بل زمنية ووجودية.

وفي موضع آخر، يتأمل السارد العالم من خلال الحصى، "الوجوه التي صنعتها الحجارة كانت أكثر وضوحا من وجوه الناس"، وهو توصيف مجازي لميل الرواية إلى جعل الجماد أكثر صدقا من العلاقات البشرية.

تدور الرواية في فضاء نفسي مشبع بالأسئلة حول الذاكرة، والسلطة، والهوية، والكتابة نفسها، تحكي على مستوى ظاهرها عن شاب يعيش توترا داخليا ناتجا من تفكك الأسرة، وسلطة المرأة، وموقع الرجل المتآكل. لكنه في العمق، يروي عن طفولة مسحوقة تعاد صياغتها عبر الخيال، وعن امرأة– الطفلة، الأم، العمة، الأستاذة– تحاول أن تكتب مصيرها الخاص في عالم لا يعترف بضعفها إلا بوصفه طاقة مقاومة.

تضع الرواية المرأة في مركز الكون، بوصفها قوة فاعلة تخترق بنيات اللغة وسرديات التاريخ لتعيد تشكيلهما من الداخل. ومن خلال توتر جمالي كثيف ورمزية مشحونة، تدفع الرواية قارئها الى مغادرة موقع التلقي الساكن، وإلى الدوران داخل متاهة لا تهب يقينا، بل تؤجل الحقيقة وتحول الاستدارة إلى فعل مقاومة لا ينتهي.

font change