الدروز في زمن اليقظة

على "الجهّال" أن يقرأوا التحولات بعمق، لا أن يتنافسوا على فرض هوية سياسية مدمِّرة للطائفة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
سكان قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل يحتفلون بسقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024

الدروز في زمن اليقظة

"قومٌ بلا جُهّال ضاعت حقوقهم، وقومٌ بلا عُقّال صاروا قَطايع".

لعل هذه الحكمة تعبّر في جوهرها عن الوضع الراهن في سوريا، إذ تتصاعد المواجهة بين الإدارة الجديدة للرئيس أحمد الشرع، ودروز سوريا الذين ما زالوا يرفضون مركزية السلطة وفرض نزع سلاحهم بالقوة، ودمجهم قسرا ضمن الجيش السوري الجديد.

الجدلية بين "العُقّال" و"الجُهَّال" في السياق الدرزي تتجاوز التقسيم الديني الداخلي، ذلك أن رجال الدين (المشايخ) يُعَدون طبقة "العُقَّال"، أما العامة من غير المتدينين فيُطلق عليهم "الجهّال"، الذين لا يُسمح لهم بالخوض في أسرار العقيدة. لكن في الحالة الراهنة، بات المصطلح يُستخدم بشكلٍ مجازي للدلالة على الانقسام السياسي داخل الطائفة، بين دعاة الحكمة والحفاظ على الوجود، ودعاة المغامرة والانخراط في مشاريع أكبر من طاقتهم.

في هذا السياق، تصبح "اليقظة" ضرورة استراتيجية، لا تعني الاستسلام أو التواري خلف الشعارات الكبرى، بل تعني الاعتراف بحجم الذات السياسي والديموغرافي، مقابل اتخاذ مواقف صلبة– وربما عنيفة إذا لزم الأمر– لضمان الحقوق والكرامات. اليقظة هنا ليست دعوة للعزلة أو الانفصال، بل لفهم موقع الدروز– والسوريين عموما– في خريطة الصراع الإقليمي، والتعامل معهم على أنهم شركاء حقيقيون، لا رعايا تابعون ولا مشاريع مؤقتة.

فاليقظة لا تعني التخندق بل الوعي، ولا تعني الاستسلام بل الكرامة. إنها فنّ الإمساك باللحظة التاريخية وتحديد حجم الدور الممكن تأديته دون التوهم بأن الطائفة قادرة وحدها على تغيير مسارات دولية. كما أنها ترفض خطابا قديما يعيد إنتاج الانقسام بين الانعزالية والمغامرة، وتقدّم بدلا عنه مزيجا من الواقعية السياسية والتجذر المجتمعي.

في سوريا، يشكّل "العُقال"– بالمعنى السياسي– الغالبية داخل الطائفة الدرزية، ويتركز همّهم على البقاء على أرضهم، والتمسّك بكرامتهم، ورفض الانخراط في مشاريع سياسية وحدودية أو تقسيمية قد تجرّهم إلى الهلاك. في المقابل، تبرز فئة من "الجهّال" بالمعنى السياسي، تدعو للانخراط في صراعات إقليمية كسبيل للتموضع، فتارة يؤكدون على "عروبة وإسلامية" الطائفة، وتارة يروّجون للارتهان لمحاور دولية وإقليمية، لا سيما إسرائيل، مستندين إلى روابط الدين والقربى مع دروز إسرائيل.

أعاد ردّ النظام بعنف على احتجاجات الدروز، إلى الواجهة حقيقة أن بناء دولة لا يُحققه مرسوم رئاسي أو رفع شعارات تنادي بالوحدة، بل إنه نتاج عقد اجتماعي جديد يحمي التنوّع ويمنح الأقليات ضمانات دستورية

إن الاشتباكات التي اندلعت مؤخرا في جرمانا وأشرفية صحنايا، بين مجموعات درزية وقوات تابعة للحكومة الانتقالية وحلفائها من الفصائل الإسلامية، ليست مجرد حدث عارض، بل تعبير جوهري عن فشل الحكم الجديد في تقديم نفسه كممثل لكل السوريين. كما أنها دليل إضافي على إخفاق الحكم في طمأنة الأقليات بأن مصيرها في عهده سيكون مختلفا عن مصير العلويين في الساحل، الذين استُبعدوا من صُنع القرار رغم أنهم لم يكونوا جزءا من الانقلاب.

تكمن خطورة هذا الصراع في كونه يختبر حدود صبر الأقليات، ويطرح تساؤلات وجودية حول معنى الانتماء إلى دولة لا تعترف بخصوصياتهم، بل تطالبهم بالذوبان الكامل في مشاريع عسكرية لم يُستشاروا في صياغتها.

أعاد ردّ النظام بعنف على احتجاجات الدروز، إلى الواجهة حقيقة أن بناء دولة لا يُحققه مرسوم رئاسي أو رفع شعارات تنادي بالوحدة، بل إنه نتاج عقد اجتماعي جديد يحمي التنوّع ويمنح الأقليات ضمانات دستورية. هذا ما فشل النظام الجديد في تقديمه حتى الآن، مما يهدد بتوسيع الشرخ بينه وبين المكونات غير السنّية.

رويترز
الرئيس السوري أحمد الشرع والزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق، سوريا، 22 ديسمبر 2024

من الضروري في هذا السياق التمييز بين دروز سوريا ودروز لبنان وإسرائيل، على صعيد التركيبة الاجتماعية والسياسية. فجبل الدروز (أو جبل العرب كما يُفضِّل البعض تسميته) كان دائما كيانا مختلطا، لكن النظام البعثي قمع الزعامة الدرزية السياسية لعقود. فسلطان باشا الأطرش، رغم حيثيته كرمز وطني، قضى أيامه الأخيرة في نوع من الإقامة الجبرية في القريا. أما القادة التاريخيون الآخرون مثل شبلي العيسمي (الذي خطفه النظام السوري عام 2011 من لبنان) وسليم حاطوم وفهد الشاعر، فهُم نماذج حول مصير الدروز الذين تحدّوا النظام.

في ظل غياب التمثيل السياسي، تولّت المَشيخة الروحية في السويداء زمام القيادة الرمزية للطائفة، ممثّلة بمشايخ العقل الثلاثة (آل جربوع، آل حناوي، آل الهجري) الذين، رغم تقديرهم، لم يتحوّلوا إلى زعماء سياسيين، ولا يبدو أنهم يطمحون لذلك.

عند الحديث عن واقع السويداء، فإن المحافظة ذات غالبية درزية مطلقة، ومن هنا، فإن إصرار حكومة الشرع على إدخال قوات نظامية، معظمها من رفاق سلاحه السابقين في تنظيماته الجهادية، يشكّل استفزازا خطيرا

في المقابل، دروز لبنان يدورون بمعظمهم في الفلك السياسي لوليد جنبلاط، الذي تجاوز في العقود الأخيرة الانقسام التقليدي بين آل جنبلاط وآل أرسلان، وأصبح الممثل السياسي الأول للدروز. أما في فلسطين المحتلة، فإن المرجع الروحي هو الشيخ موفق طريف، سليل عائلة دينية بارزة، لكنه لا يدّعي تمثيل الموقف السياسي للدروز في إسرائيل، كما أن علاقته بالدولة العبرية تبقى دينية أكثر منها سياسية.

العلاقة بين دروز الدول الثلاث تتجاوز الحدود والجغرافيا، فالتعليم الديني الدرزي يرسّخ مبدأ "الذود عن الإخوان"، الذي يجعل كل درزي مسؤولا عن الآخر. لكن هذا الرابط لا يعني تبني المواقف السياسية ذاتها. فمشاركة 500 درزي من الجولان في زيارة مقام النبي شعيب مؤخرا لا تعني تطبيعا مع إسرائيل، ويجب عدم تحميلها أكثر من بعدها الروحي والاجتماعي.

من هنا، من الخطأ الرهان على أن حكومة نتنياهو ستتدخل عسكريا لحماية دروز سوريا، إذ إن سجل هذه الحكومة، التي تفاوضت مع "حماس" على حساب رهائنها، يُظهر أنها لا تعبأ كثيرا بالدم اليهودي، فكيف بالدرزي؟ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تنظر للدروز كشركاء مخلصين في جيشها، وتحترمهم لدورهم التاريخي، وقد تقدّم بعض الدعم المحدود كما فعلت في لبنان إبان حرب الجبل، لكنها لن تتحوّل أبدا إلى ذراع تنفيذية بيد مشايخ السويداء.

غيتي
الزعيم الدرزي سلطان الأطرش في دمشق. قاد الأطرش الثورة السورية ضد الجيش الفرنسي عام 1926

وحتى هذا الدعم– إن حصل– يبقى محكوما بسقف سياسي تحدده تل أبيب وفق مصالحها، وليس وفق حاجات المجتمع الدرزي أو رغباته. اليقظة الحقيقية هنا تعني التحرر من أوهام الحماية الخارجية، والإدراك بأن مناعة المجتمع تبدأ من داخله لا من حلفائه.

وعند الحديث عن واقع السويداء، تجدر الإشارة إلى أن المحافظة ذات غالبية درزية مطلقة، ومن هنا، فإن إصرار حكومة الشرع على إدخال قوات نظامية، معظمها من رفاق سلاحه السابقين في تنظيماته الجهادية، يشكّل استفزازا خطيرا. والأجدى التوصل إلى تفاهم على صيغة محلية أمنية، تحفظ كرامة أهالي المنطقة، بدلا من فرض السيطرة بالقوة.

على "الجهّال"، من الدروز وغيرهم، أن يقرأوا التحولات بعمق، لا أن يتنافسوا على فرض هوية سياسية مدمِّرة للطائفة. وفي المقابل، على الدروز الذين يطالبون بالحماية الدولية أن يَتَيّقظوا لكون انخراطهم في مواجهة قوات الشرع تزامن مع إعلان تركيا السماح لطائرة نتنياهو بعبور أجوائها نحو أذربيجان، وهي خطوة صغيرة في الشكل، لكنها عميقة في المضمون. إذ تشير إلى أن التفاهمات الإقليمية تجري فوق رؤوس "القبائل الصغيرة"، وأن التضحيات لا تساوي شيئا أمام مصالح الكبار.

استمرار إنكار السوريين لواقع الطائفية في البلاد لا يختلف كثيرا عن نهج "البعث" في طمس الهويات وقمع التعبير عنها

وما لم يدرك الدروز هذا الواقع، فإنهم مهددون بالتحول إلى ورقة تفاوضية في صراعات الآخرين. أما الخيار البديل، فيكمن في بناء سردية سياسية مستقلة تعيد تأطير العلاقة مع المركز، وتؤسس لحوار داخلي يحدد بوضوح ماهية الدور الذي يمكن أن تؤديه الطائفة داخل سوريا الجديدة، دون تهويل أو تبعية.

وختاما، فإن دروز سوريا، شأنهم شأن باقي السوريين، خائفون من مستقبل غامض. تجاربهم مع نظام "البعث"، ومع إدارة الشرع الحالية، لا تبشّر بخير. نزع سلاحهم الثقيل والمتوسط قد يكون خطوة ضرورية، لكن لا يمكن أن يتم دون ضمانات حقيقية بوجود دولة، وليس بوجود جهاز أمني جديد يحمل اسم "الجيش السوري".

أ.ف.ب
مركبة للجيش الإسرائيلي خلال مظاهرة لرجال دروز تضامنا مع دروز سوريا قرب الحاجز الحدودي في قرية مجدل شمس في مرتفعات الجولان، في 30 أبريل

لا يكمن التهديد الحقيقي في وجود الدروز وسلاحهم، بل في استمرار الإنكار الرسمي لحقيقة أن بناء سوريا الجديدة يتطلب شراكة وطنية ودستورية، تضمن للأقليات، ومنهم السنّة، الشعور بأنهم شركاء حقيقيون في بيت سوري متداعٍ، لكنه بيتهم رغم كل شيء.

إن استمرار إنكار السوريين لواقع الطائفية في البلاد لا يختلف كثيرا عن نهج "البعث" في طمس الهويات وقمع التعبير عنها. والاعتراف بهذا المرض السياسي والاجتماعي هو بداية العلاج، لا نقيضه. فجزء من الحل يكمن في بناء مؤسسات دستورية قادرة على تحويل تلك الانقسامات الطائفية من مصدر تهديد إلى إطار قانوني يضمن المساواة، ويحوّل الطائفة إلى مكوّن وطني لا إلى مشكلة أمنية. هكذا فقط يمكن للسوريين أن يشرعوا فعليا في بناء وطن يليق بتضحياتهم ويصون كراماتهم.

font change