الزراعة في السودان... نموذج للمقاومة البنيوية في زمن الحرب

ساهم في هذا النجاح موسم أمطار استثنائي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مزارعو فول سودانيون يعملون في حقل بقرية أرداشيفا بولاية الجزيرة، شرق وسط السودان، في 8 أغسطس 2020

الزراعة في السودان... نموذج للمقاومة البنيوية في زمن الحرب

في ظل الحرب المستمرة التي تعصف بالسودان منذ أبريل/نيسان 2023 بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع"، واجه قطاع الإنتاج الزراعي والحيواني- الذي ظلّ لفترة طويلة العمود الفقري للاقتصاد الوطني السوداني- تحديات هائلة، خصوصًا في المواسم الزراعية للعام الذي اندلعت فيه الحرب. وهو، بطبيعة الحال، ما تسبب في هزة كبيرة في الأمن الغذائي، وفجوة غذائية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من المجاعة في بعض مناطق السودان.

لكن التقرير الجديد الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) قبل عدة أسابيع (في مارس/آذار 2025) كشف عن قصة صمود مدهشة، وقدرة أسطورية على التعافي والمساهمة في سد الحاجة الغذائية للبلاد في قطاعي الإنتاج الزراعي والحيواني، في خضم هذه الحرب.

استند التقرير إلى بعثة تقييم المحاصيل والإمدادات الغذائية في جمهورية السودان التي اعتمدت على زيارات ميدانية لعدد من الولايات السودانية شملت: الجزيرة، القضارف، النيل الأزرق، كسلا، البحر الأحمر، الشمالية، نهر النيل، سنار، والنيل الأبيض. وهي ولايات تُعتبر آمنة وتحت سيطرة القوات المسلحة السودانية في الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى يناير/كانون الثاني 2025، بالإضافة إلى بيانات جمعها فريق عمل متخصص في العمل عن بُعد لتغطية ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان، بغرض تقديم صورة شاملة عن الإنتاج الزراعي لعام 2024/2025 وتضمنت عملية جمع البيانات مقابلات مع مؤسسات حكومية، وسلطات ولائية، ومنظمات أممية وغير حكومية، بالإضافة إلى زيارات ميدانية ومقابلات مع مزارعين ورعاة وتجار. كما استخدمت بيانات الأقمار الاصطناعية وصور الغطاء النباتي لتدعيم المعلومات الميدانية، خاصة في ما يتعلق بأداء موسم الأمطار وظروف الغطاء النباتي.

جاءت أبرز نتائج التقرير المتعلقة بالإنتاج الزراعي، حيث حقق السودان في موسم 2024/2025 إنجازًا ملحوظًا في الإنتاج الزراعي، تجاوز عثرات سنة اندلاع الحرب، وإن لم يبلغ بعد التعافي الكامل. بلغ إجمالي إنتاج الحبوب 6.7 مليون طن، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 62 في المئة مقارنة بالعام السابق، و7 في المئة أعلى من المتوسط السنوي للسنوات الخمس الماضية (6.26 مليون طن).

وشمل هذا المحصول:

  • إنتاج الذرة الرفيعة: بلغ 5.4 مليون طن، بزيادة 77 في المئة عن2023 (3.06 مليون طن)، و30 في المئة فوق متوسط الأعوام الخمسة السابقة (4.15 مليون طن).
  • إنتاج الدُخن: 792.943 طن، بزيادة 16 في المئة عن 2023 (683 ألف طن)، لكنه أقل بـ45 في المئة من متوسط الأعوام الخمسة السابقة (1.44 مليون طن).
  • إنتاج القمح: بلغ 490.320 طن، بزيادة 30 في المئة عن المتوسط السنوي السابق (377 ألف طن)، لكنه أقل بـ22 في المئة من متوسط الأعوام الخمسة السابقة (629 ألف طن).

مع عدد سكان قُدِّر في عام 2025 بحوالي 50.7 مليون نسمة، يبلغ الطلب السنوي على الحبوب 7.715 مليون طن، بناءً على متوسط استهلاك فردي قدره 152 كيلوغراما

كما زادت المساحة الكلية المزروعة بالحبوب إلى 15.1 مليون هكتار، بزيادة 10 في المئة عن موسم 2023/2024 (13.7 مليون هكتار)، و5 في المئة فوق متوسط الخمسة أعوام السابقة (14.4 مليون هكتار).

ساهم في هذا النجاح موسم أمطار استثنائي، حيث أظهرت بيانات مؤشر صحة النباتات ظروفًا نباتية ممتازة في أكتوبر/تشرين الأول 2024، مع توزيع زمني جيد للأمطار بدأ في يوليو/تموز من العام نفسه. وقد تحقق هذا النجاح رغم نقص المدخلات الزراعية (بذور، أسمدة، مبيدات، آلات، وقود، عمالة) وازدياد كلفتها بسبب ظروف الحرب، حيث زادت تكاليف البذور والأسمدة والوقود نتيجة التضخم (الذي بلغت نسبته أكثر من 240 في المئة أواخر 2024) وانخفاض قيمة الجنيه السوداني إلى 2445 جنيهًا لكل دولار أميركي (بحسب سعر الصرف في ديسمبر 2024، مقارنة بـ1100 جنيه/دولار في ديسمبر 2023 و603 جنيهات/دولار في مارس/آذار 2023 قبل اندلاع الحرب).

وسيساهم هذا الإنتاج المبشّر في تغطية الاحتياجات الغذائية بشكل كبير. فمع عدد سكان قُدِّر في عام 2025 بحوالي 50.7 مليون نسمة، يبلغ الطلب السنوي على الحبوب 7.715 مليون طن، بناءً على متوسط استهلاك فردي قدره 152 كيلوغراما (75 كيلوغراما من الذرة رفيعة، و58 كيلوغراما من القمح، و16 كيلوغراما من الدخن، وكيلوغرامين من الأرز، وكيلوغرام واحد من الذرة). وتشمل استخدامات هذه الحبوب أيضًا كعلف بكمية تُقدَّر بحوالي 285.540 طنا (5 في المئة من الذرة الرفيعة، و2 في المئة من الدخن)، وكذلك الاستخدام كبذور (وتقاوي زراعية) بمقدار 116.960 طنا، فيما تصل الخسائر بعد الحصاد إلى 314.230 طنا. مما يجعل الحاجة الكلية من الحبوب الغذائية في السودان حوالي 8.42 مليون طن.

أ.ف.ب
سودانيات يبعن الخضار في سوق مفتوح بمنطقة شرق النيل بالخرطوم، 19 مايو 2025

ومع إنتاج محلي قدره 6.7 مليون طن، ومخزونات متاحة تبلغ 9151 طنا (1540 طنا خاصة، و3262 طنا للمنظمات الإنسانية، و4.349 طنا للمخزون الاستراتيجي)، تظهر فجوة مقدارها 2.7 مليون طن، تحتاج إلى تغطيتها عبر الاستيراد.

وتشكل الحاجة إلى القمح النسبة الأكبر من هذه الفجوة بنسبة 91 في المئة. ومع ذلك، فإن هناك فائضًا متوقعًا في الذرة الرفيعة يُقدَّر بحوالي 979.330 طنا، مما قد يعزز المخزونات الوطنية، وقد يساعد في سد فجوة الاستيراد إذا تم التفاوض مع المؤسسات الدولية، وعلى الأخص برنامج الغذاء العالمي، على صفقات مبادلة الذرة بالقمح.

وقد ساهم هذا الإنتاج حتى الآن في انخفاض أسعار الذرة الرفيعة والدخن المنتجة محليًا بنسبة 20 في المئة و10 في المئة على التوالي بين أكتوبر وديسمبر 2024 مع بدء تسويق محاصيل 2024 الجديدة، إلا أنها لا تزال حوالي خمسة أضعاف مستوياتها قبل النزاع في أبريل 2023.

أما بالنسبة لقطاع الإنتاج الحيواني، الذي يضم 112.5 مليون رأس (41.5 مليون خروف، 32.9 مليون ماعز، 33 مليون بقرة، 5 ملايين جمل)، فقد عكس أيضًا صمودًا ملحوظًا. حيث تحسنت حالة الحيوانات في 2024 مقارنة بـ2023، بفضل أمطار غزيرة عززت المراعي من مستوى جيد إلى ممتاز، مع توقعات باستمرارها حتى مارس 2025. ونجحت الجهود الحكومية في تطعيم 8.187.400 رأس في الولايات الآمنة تحت سيطرة القوات المسلحة، رغم توقف الإنتاج المحلي للقاحات بسبب النزاع، حيث قدمت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة وبعض المنظمات الأخرى دعمًا باللقاحات المستوردة. لكن القيود الأمنية أدت إلى تركز القطعان في ولايات مثل القضارف وكسلا، مما قد يؤثر على جدب المراعي في وقت مبكر.

كشفت التجربة السودانية خلال الحرب المستعرة منذ أبريل 2023 عن ضرورة إعادة النظر في النموذج التقليدي المعتمد في الاستجابة للأزمات الإنسانية، ولا سيما في ما يتعلق بالأمن الغذائي

ولأسباب تتعلق بالوضع الاقتصادي العام، سجلت أسعار المواشي ارتفاعًا كبيرًا خلال هذا العام مقارنة بالعام السابق، حيث بلغ سعر الرأس الواحد من الأبقار الحلوب 3.5 مليون جنيه (ما يعادل حوالي 1432 دولارًا أميركيًا بسعر الصرف الحالي 2445 جنيهًا/دولار في مايو/أيار 2025)، بزيادة 438 في المئة عن ديسمبر 2023 (800 ألف جنيه أو 327 دولارًا).

وقد زاد حجم صادرات الثروة الحيوانية ليصل إلى 5 ملايين رأس، بنسبة زيادة 10 في المئة عن العام السابق، لكنه لا يزال أقل من صادرات السودان من الثروة الحيوانية قبل الحرب، والتي بلغت قرابة 7 ملايين رأس سنويًا في عام 2018. وذلك دون احتساب الخسائر الناتجة عن توقف تصدير اللحوم المذبوحة والمجمدة. كما أن تفشي أمراض موضعية (مثل البقر اللزج ومرض الفم والأظلاف) يُهدد هذا التقدم، مع ضعف الحملات الرسمية للتطعيم التي كانت منتظمة قبل الحرب.

وبالرغم من هذا التقدم في الإنتاج الغذائي، فإن استمرار الحرب يُشكّل التهديد الأكبر للأمن الغذائي. فقد أدت الحرب إلى تهجير 11.6 مليون شخص داخليًا (8.84 مليون شخص منذ أبريل 2023، مضافًا إليهم 2.73 مليون شخص قبل النزاع) و3.5 مليون شخص إلى الخارج ( تشاد، جنوب السودان، مصر). ويواجه 24.6 مليون شخص (نصف السكان) أزمة غذائية حادة، بما في ذلك 8.1 مليون شخص في مرحلة الطوارئ، و637 ألف شخص في مرحلة الكارثة، مع مخاطر مجاعة في مناطق مختلفة من البلاد تشمل: شمال دارفور، غرب كردفان، جنوب كردفان، الجزيرة، والخرطوم.

وأدى تعطيل الطرق التجارية بسبب الظروف الأمنية إلى ارتفاع أسعار الوقود بنسبة تتراوح بين 150–250 في المئة، وبالتالي ارتفاع تكاليف الزراعة والشحن، ما انعكس على أسعار الغذاء. وبينما تراجعت أسعار الذرة الرفيعة والدخن بنسبة 20 في المئة و10 في المئة بين أكتوبر وديسمبر 2024، فإنها لا تزال خمسة أضعاف مستوياتها ما قبل اندلاع الحرب.

كما يؤثر نقص البذور القياسية والمعتمدة، والتي توفر منها 5297 طنا فقط عبر "الفاو" (منظمة الأغذية والزراعة) قبل بدء الموسم الزراعي الأخير، بالإضافة إلى تدهور قنوات الري في مشاريع زراعية كبرى مثل مشروع الجزيرة، الذي قامت "قوات الدعم السريع" بتدميره بشكل متعمد خلال سيطرتها على ولاية الجزيرة، إلى جانب انهيار الناتج المحلي (29.6 في المئة في 2024) ونسبة التضخم التي بلغت 240 في المئة، جميعها عوامل تُساهم في هشاشة وضع الأمن الغذائي في السودان.

لقد كشفت التجربة السودانية خلال الحرب المستعرة منذ أبريل 2023 عن ضرورة إعادة النظر في النموذج التقليدي المعتمد في الاستجابة للأزمات الإنسانية، ولا سيما في ما يتعلق بالأمن الغذائي. فبينما ظل التركيز السائد لمنظومة المساعدات الدولية منصبًا على استيراد المعونات الغذائية الجاهزة من الخارج، أظهر القطاع الزراعي السوداني– رغم الحرب، وشح الموارد، والانهيار المؤسسي– قدرة استثنائية على الصمود والتعافي. وهذا الأداء الاستثنائي، كما وثقه تقرير بعثة تقييم المحاصيل والإمدادات الغذائية للأمم المتحدة، يبرهن على أن الاعتماد على الإنتاج المحلي ليس مجرد خيار نظري، بل هو مسار عملي وفعال ومجرب.

توطين المساعدة الإنسانية ليس مجرد شعار، بل هو من حيث الأثر الاقتصادي والاجتماعي والعملياتي خيار أكثر كفاءة من حيث الكلفة بما لا يُقارن

إن هذه الدينامية تفرض ضرورة استراتيجية لتغيير نهج عمل المنظمات الإنسانية الدولية والإقليمية، عبر الانتقال من نموذج الاستيراد الطارئ إلى نموذج أكثر استدامة ونجاعة، يقوم على التوطين ودعم قدرات المزارعين المحليين وتوفير المدخلات الزراعية الأساسية– من بذور وأسمدة وآليات ووقود– في الوقت المناسب، إلى جانب دعم الصناعات الغذائية الصغيرة والمتوسطة التي تمثل حلقة أساسية في سلسلة القيمة الغذائية.

وهذا التحول لا يُمكّن فقط من توطين المساعدة الإنسانية، بل يقلص التكاليف بشكل كبير، خاصة في ظل محدودية التمويل الدولي وتراجع الموارد المخصصة للعمل الإنساني في السودان بل وفي العالم كله.

 رويترز
مركبات قتالية مدمرة في منطقة شرق النيل، التي سيطر عليها الجيش السوداني في الخرطوم، السودان، 15 مارس

إن توطين المساعدة الإنسانية ليس مجرد شعار، بل هو من حيث الأثر الاقتصادي والاجتماعي والعملياتي خيار أكثر كفاءة من حيث الكلفة بما لا يُقارن. فتقوية سلاسل الإنتاج الغذائي المحلية يعزز مناعتها أمام الصدمات، ويقلل من الاعتماد على الخارج، ويخلق آثارًا اقتصادية مضاعفة، خصوصًا وأن الزراعة لا تزال تمثل النشاط الاقتصادي الرئيس لأكثر من 65 في المئة من السكان، وتساهم فيما يقارب 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في سنوات ما قبل الحرب (2020–2022). كما أن الاستثمار في هذا القطاع هو استثمار في استقرار المجتمعات وقدرتها على الصمود، وفي بنية الاقتصاد الكلي للدولة السودانية.

لذلك، فإن أي استراتيجية واقعية لمعالجة الأزمة الغذائية في السودان ينبغي أن تنطلق من الواقع المحلي، وأن تجعل من دعم الإنتاج الزراعي والغذائي المحلي حجر الزاوية، لا فقط من أجل الأمن الغذائي، بل كركيزة للتعافي الاقتصادي والاجتماعي في المدى القريب والبعيد.

font change