مؤشرات على الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا

أ ف ب
أ ف ب
عربة أميركية قرب بئر نفطي في ريف الحسكة شمال شرقي سوريا في ديسمبر 2022.

مؤشرات على الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا

أكد مسؤولون أميركيون، قبل أيام، سحب 500 جندي أميركي من مواقعهم في سوريا. وقد أسندت منشآت حيوية مرتبطة بمهمة مكافحة تنظيم "داعش"، مثل موقع دعم المهام "الفرات" وموقع دعم المهام "القرية الخضراء"، إلى "قوات سوريا الديمقراطية"، فيما جرى إغلاق بعضها بالكامل. وأوضح توم باراك، المبعوث الأميركي إلى سوريا، في مقابلة تلفزيونية مع وسيلة إعلام تركية، قائلا: "انتقلنا من ثماني قواعد إلى خمس فثلاث، وسنبقي على الأرجح على قاعدة واحدة".

وفي الأسبوع نفسه، أفادت تقارير بأن الولايات المتحدة طلبت من "مجلس سوريا الديمقراطية" تسريع مفاوضاته مع دمشق لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في الجيش السوري الجديد بحلول نهاية شهر أغسطس/آب من هذا العام. وكان من المتوقع أن تمتد المفاوضات بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" بشأن الإصلاحات الأمنية لمدة عام، استنادا إلى الاتفاق الذي جرى في مارس/آذار بين قائد "قسد" مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، وسط ترجيحات بتأخير ناجم عن الجمود السياسي وغياب التوافق.

كما أفادت التقارير بأن الولايات المتحدة منحت الضوء الأخضر لخطة الإدارة السورية الجديدة، التي تقضي بدمج نحو 3500 مقاتل جهادي أجنبي ضمن الهيكل التنظيمي للفرقة 84 في الجيش السوري، في تحول لافت في موقف واشنطن، بعد أن كانت تتحفظ سابقا على إشراك المقاتلين الأجانب في وزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة، معتبرة هذا الملف من الشروط الأساسية لرفع العقوبات.

وتعكس هذه القرارات الثلاثة نهجا أميركيا جديدا، بل تعكس تحولا جذريا بمقدار 180 درجة في السياسة تجاه سوريا، كما تُظهر نفاد صبر متزايد إزاء عملية بناء الحوكمة، ما يشير إلى دافع أعمق آخذ في التبلور، وهو الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من سوريا والعراق. وقد أظهرت الخطوات التي أعقبت إعلان تخفيف العقوبات الأميركية أن الهدف الذي طالما سعى إليه الرئيس دونالد ترمب يتمثل في إنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وسط مؤشرات متزايدة على انسحاب شامل قد يبدأ في خريف أو شتاء العام الحالي.

ليس بالأمر الجديد

الانسحاب من الشرق الأوسط ليس غريبا على ترمب أو فريقه. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وخلال ولايته الأولى، اتخذ الرئيس الأميركي قرارا مفاجئا بسحب القوات من شمال شرق سوريا. وقد تزامن هذا القرار مع استعداد تركيا لشن هجوم على المنطقة، استهدف، إلى جانب الفصائل المرتبطة بحزب "العمال الكردستاني" مثل "وحدات حماية الشعب"، الشريك الأهم للولايات المتحدة في عملية "العزم الصلب" على الأرض: "قوات سوريا الديمقراطية".

سلّمت الولايات المتحدة أكثر من ثماني قواعد لقوات الأمن العراقية في مواقع استراتيجية، إلى جانب نقل المعدات. وخفّضت وجودها العسكري من 5200 إلى نحو 2500 جندي، أي بأكثر من النصف

أثار هذا القرار موجة غضب عارمة، إذ ساد انطباع بأن الولايات المتحدة لم تتخل فقط عن مهمة مكافحة الإرهاب، رغم أهميتها وعدم اكتمالها، بل تخلت أيضا عن أحد أبرز حلفائها في المنطقة "قوات سوريا الديمقراطية". ودفع هذا التحول المفاجئ عددا من كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارة ترمب إلى تقديم استقالاتهم، من بينهم المبعوث الخاص لدى التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" بريت ماكغورك، ووزير الدفاع جيمس ماتيس. وفي وقت لاحق، تراجع ترمب عن قراره بسحب كامل القوات، وقرر الإبقاء على 400 جندي أميركي في سوريا بدلا من تنفيذ انسحاب كامل للقوات التي بلغ عددها حينها 2000 جندي.

 سانا/ رويترز
الرئيس السوري احمد الشرع ووقائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي بعد توقيع اتفاق لاندماج مؤسسات "سوريا الديمقراطية" بالدولة السورية في 10 مارس

في المقابل، نجح ترمب بشكل أكبر في تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق. فبعد سلسلة من الضربات المتبادلة بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران والميليشيات المدعومة منها في العراق من جهة أخرى، عقب مقتل قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني" قاسم سليماني، ونائب رئيس "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، بدأت إدارة ترمب الأولى خفضا تدريجيا للقوات خلال ربيع وصيف 2020.
وقد شكّل الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد الجوية، الذي كاد أن يودي بحياة مئات الجنود والمقاولين الأميركيين، عاملا حاسما في دفع القرار نحو الانسحاب. كما ساهم تصويت البرلمان العراقي في يناير/كانون الثاني لصالح إلغاء طلب المساعدة من التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وطرد القوات الأميركية من البلاد، في ترسيخ مبررات الإدارة الأميركية، التي كانت متشككة أصلا في جدوى الوجود العسكري الخارجي، للشروع في خطة انسحاب شاملة، رغم أن التصويت لم يكن ملزما قانونيا.

وساعدت جائحة "كوفيد-19" في تمويه عملية تقليص الوجود العسكري الأميركي، ما أتاح تنفيذ خفض تدريجي للقوات بشكل هادئ. فقد سلّمت الولايات المتحدة أكثر من ثماني قواعد لقوات الأمن العراقية في مواقع استراتيجية، مثل معسكري التاجي والقائم، إلى جانب نقل المعدات، وخفّضت وجودها العسكري من 5200 إلى نحو 2500 جندي، أي بأكثر من النصف. وقد أرست هذه الخطوة، التي أطلقتها إدارة ترمب، الأساس للإجراءات اللاحقة التي تبنّتها إدارة بايدن.

أعرب العراق عن قلقه من احتمال تحرك تنظيم "داعش" عبر الحدود السورية العراقية، ومن هشاشة الوضع الأمني في مراكز احتجاز عناصر التنظيم، مثل مخيم الهول

وفي حين كانت عملية "العزم الصلب" تعمل أصلا في العراق ضمن إطار "النصيحة والمساعدة"، غيّرت الولايات المتحدة رسميا تفويض المهمة، لتنتقل من الدور القتالي إلى مهمة تركز على بناء القدرات. كما وضعت جدولا زمنيا مرحليا لسحب القوات الأميركية، بالتوازي مع انتقال مهام التحالف الدولي لهزيمة تنظيم "داعش"، على أن يُستكمل هذا المسار بحلول عام 2026.

ومن المقرر تنفيذ الانسحاب بشكل تدريجي، بدءا بإعادة انتشار القوات الأميركية من بغداد إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق. وفي المرحلة التالية، ستبدأ واشنطن بخفض أعداد قواتها وتسليم المعدات، مع تحويل برامج بناء القدرات إلى عملية إخلاء مرحلية. وعلى الرغم من إعلان نيتها الحفاظ على وجود استشاري محدود في العراق، استجابة لدعوة حكومة السوداني، فإن العدد الدقيق لهذا الوجود لم يُحدد بعد.
لكن التحول المفاجئ في المشهد السوري مع اقتراب نهاية ولاية بايدن ألقى بظلال من التردد على مسار الانسحاب. فقد أثار سقوط نظام الأسد الوحشي، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة تقودها "هيئة تحرير الشام"، وما رافق هذه العملية من تصاعد في المخاوف بشأن حالة عدم الاستقرار، تحذيرات متزايدة من احتمال أن يستغل تنظيم "داعش" هذه الأوضاع للظهور مجددا.
وفي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت إدارة بايدن إعادة نشر أكثر من ألف جندي أميركي إضافي في شمال شرقي سوريا، ما رفع عدد القوات الأميركية هناك إلى 2000 جندي بحلول نهاية عام 2024، وذلك في إطار الاستجابة للظروف الأمنية المستجدة، ودعم "قوات سوريا الديمقراطية"، ومنع إعادة تمركز "داعش" في منطقة البادية السورية.

سانا/ أ ف ب
اجتماع بين وفد من مناطق الادارة الكردية في الشمال الشرقي السوري وبين ممثلين عن حكومة دمشق في الاول من يونيو

من جهته، أعرب العراق عن قلقه من احتمال تحرك التنظيم عبر الحدود السورية العراقية، ومن هشاشة الوضع الأمني في مراكز احتجاز عناصر التنظيم، مثل مخيم الهول. كما قدّم طلبات سرية للولايات المتحدة لتأجيل جدول الانسحاب إلى ما بعد عام 2026، وصولا إلى عام 2029.
إلا أن هذه الطلبات لم تجد صدى لدى إدارة ترمب الجديدة، خصوصا مع فريق الأمن القومي الذي يبدي قدرا أكبر من التشكك تجاه الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط مقارنة بإدارته الأولى.

نظرة نحو عام 2026


لا يبدو من قبيل الصدفة أن يتزامن تقليص واشنطن لقواتها، ومنحها الضوء الأخضر للإصلاحات الأمنية، والضغط الأخير لتسريع المفاوضات بين "قوات سوريا الديمقراطية" ودمشق، مع إعلان ترمب عن تخفيف العقوبات والتحول الجذري في السياسة الأميركية تجاه سوريا. بل يشكّل هذا التزامن تأكيدا واضحا وصريحا على الهدف المحوري الذي يوجه هذا التحول: الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من سوريا والعراق، وإنهاء الانخراط في مهمة مكافحة "داعش" في المنطقة.
وفيما تسعى الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة هذا المسار، تشير التقديرات إلى أن الانسحاب من سوريا قد يُستكمل بحلول خريف 2025 أو شتاء 2026، على أن يكتمل الانسحاب من العراق بحلول نهاية عام 2026.

ومع بقاء نحو 500 جندي فقط وثلاث قواعد أميركية في سوريا، وتركيز ما تبقى من القوات في العراق، يبدو أن وتيرة الانسحاب قد تتسارع خلال المرحلة المقبلة.
ومن المؤشرات الإيجابية أن واشنطن تدفع باتجاه مزيد من الإصلاحات الأمنية تمهيدا للانسحاب، بما في ذلك السعي نحو توافق بين "روجافا" ودمشق بشأن دمج "قوات سوريا الديمقراطية" في الجيش السوري الجديد. فهذه الإجراءات لا تُمثّل فقط عناصر ضرورية، بل تعد متطلبات أساسية لأي عملية انتقال فعلي لمهمة مكافحة تنظيم "داعش"، وأي انسحاب منظم للقوات الأميركية.
فالاحتكاك القائم بين الإدارة السورية الجديدة ومنطقة الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا يُمهّد الطريق أمام جهات خبيثة، وفي مقدمتها "داعش"، لاستغلال هذا التوتر، ما قد يُفضي إلى تعطيل كبير في العملية الانتقالية، التي تسير حاليا بوتيرة شبه مستقرة، ويقوّض فرص توحيد البلاد.
لكن على إدارة ترمب أن تعي أن الإصلاح الأمني في سوريا الجديدة، بعد 14 عاما من النزاع والانقسام، هو سباق ماراثوني لا سباق سرعة. وينبغي التعامل مع نقل مهمة مكافحة "داعش" في كل من العراق وسوريا بالمقاربة نفسها. إذ إن أي عملية انسحاب سريع تتجاهل احتمال عودة التنظيم، وقدرات القوات الشريكة، وتعقيدات المشهد الأمني الأوسع، قد تنقلب عكسيا على إدارة ترمب إذا اختارت التسرع.

font change