مصر تتجه إلى "اقتصاد الحرب" وتستعد للأسوأ

حرب إسرائيل وإيران تهدد أمن الطاقة واحتياطي العملات والسياحة والاستثمارات

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقر البنك المركزي المصري في عاصمة مصر الإدارية الجديدة، 1 أغسطس 2023

مصر تتجه إلى "اقتصاد الحرب" وتستعد للأسوأ

مع تزايد حدة الحرب الإسرائيلية الإيرانية، اهتز المسار الاقتصادي للمنطقة، وتبدلت المعطيات والأرقام، وتعاظمت أخطار الانزلاق إلى صراع غير مأمون العواقب، لتواجه مصر تداعيات سلبية على اقتصادها، الذي يجاهد للتوازن والنمو. يأتي ذلك نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغاز، والضغوط المتزايدة على الجنيه المصري والاحتياطي النقدي، واحتمال الدخول في "اقتصاد حرب" بسبب تأزم الأوضاع وإمكان استمرارها وتداعياتها على دول المنطقة والعالم.

ونظرا الى موقع إيران الجغرافي الاستراتيجي وقدرتها على إغلاق مضيق هرمز، أصبحت مصر في مرمى هذه المنطقة المشتعلة، مما يخلف آثارا مالية، واقتصادية، واستثمارية سلبية، في مقدمها ارتفاع معدلات التضخم، خصوصا سعر الدولار في مقابل الجنيه، إلى جانب ارتفاع أسعار الذهب عالميا ومحليا، وتوقف التبادل التجاري.

لجنة أزمات حكومية

وقررت الحكومة المصرية تشكيل لجنة أزمات برئاسة رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، لمتابعة تداعيات العمليات العسكرية الإيرانية ـ الإسرائيلية، بما يُسهم في الاستعداد لأي مُستجدات بمختلف القطاعات، حسب بيان صادر عن المجلس، اليوم.

وقال المتحدث باسم الحكومة محمد الحمصاني، إن اللجنة تضم في عضويتها محافظ البنك المركزي، ووزراء: الصناعة، والتخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، والكهرباء والطاقة المتجددة، والمالية، والتموين والتجارة الداخلية، والبترول والثروة المعدنية، بالإضافة إلى مُمثلي وزارة الدفاع، والداخلية، وممثلي جهاز المخابرات العامة، وهيئة الرقابة الإدارية.

وقد دفعت التطورات العسكرية إلى تأجيل افتتاح المتحف المصري الكبير من مطلع يوليو/تموز إلى نهاية السنة، لتفادي تدشين مرفق سيادي على درجة عالية من الأهمية في بيئة إقليمية غير مستقرة.

على رأس المخاوف من تداعيات هذه الحرب على مصر، الآثار السلبية على قرارات المستثمرين، الذين قد يترددون في الاستثمار لتجنب الأخطار المحتملة. كما قد تتأثر السياحة وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، وهما رافدان أساسيان للنقد الأجنبي.

علقت إسرائيل صادرات الغاز إلى مصر، مما دفع وزارة النفط المصرية لإيقاف ضخ المازوت والسولار للمصانع التي تستخدمه كوقود في صناعات مثل الأغذية والأسمنت لمدة 14 يوما، بهدف توفير احتياجات محطات الكهرباء، في ظل إغلاق حقل "ليفياثان"

لهذا السبب، سارعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ إجراءات عديدة في ظل هذا الوضع الشبيه بـ"اقتصاد الحرب"، وأعلنت خطوات استباقية لتعزيز أمن إمداداتها، وتنويع مصادرها، وتفعيل استراتيجياتها الاقتصادية لتخفيف الصدمة. ويترقب الخبراء المزيد من الأعباء على الاقتصاد العالمي، في وقت تبدو الأسواق في حالة تأهب وانتظار. فهل تنقضي الحرب في أيام وأسابيع، أم ستتحول إلى صراع مفتوح يغير قواعد اللعبة مع الأحداث الجيوسياسية المتسارعة؟

تأثر الطاقة والبورصة والجنيه

تشكل الحرب الراهنة تصعيدا خطيرا في المنطقة، خصوصا على صعيد الطاقة والقدرة الاحتياطية لاستقرار الأوضاع الاجتماعية. فقد علقت إسرائيل صادرات الغاز إلى مصر، مما دفع وزارة النفط المصرية لإيقاف ضخ المازوت والسولار للمصانع التي تستخدمه كوقود في صناعات مثل الأغذية والأسمنت لمدة 14 يوما، بهدف توفير نحو ثمانية آلاف طن من المازوت يوميا لسد احتياجات محطات الكهرباء، في ظل إغلاق حقل "ليفياثان" البحري للغاز في إسرائيل الذي تحصل مصر على حصة من إنتاجه. هذا إلى جانب اضطراب الملاحة الجوية والبحرية في المنطقة، بما في ذلك إغلاق المجال الجوي في دول مجاورة كالأردن ولبنان وسوريا.

Shutterstock
استمرار تذبذب أسعار الجنيهه على وقع أزمات المنطقة

وكانت البورصة المصرية من أبرز المتضررين من الحرب، إذ شهدت أسهم الشركات خسائر مرتفعة في أول جلسة تداول منذ بدء الحرب بأكثر من ألفي نقطة، وبلغت الخسائر الرأسمالية 133 مليار جنيه (2,68 مليار دولار) وفقا لخبراء الاقتصاد.

كما انضم الجنيه إلى قائمة الخسائر، إذ تراجعت قيمته ليقارب حاجز 51 جنيها في مقابل الدولار، بعد أسابيع من الانخفاض حتى وصل إلى 49,5 جنيها. جاء هذا الارتفاع نتيجة تسييل المستثمرين الأجانب لاستثماراتهم في أذونات وسندات الخزينة، مما زاد الطلب على الدولار وارتفاعه في مقابل الجنيه المصري.

تعتزم الحكومة جذب استثمارات جديدة، بالإضافة إلى رفع معدلات الفائدة لثني "الأموال الساخنة" عن الهروب، بعد أن كان المصرف المركزي قد بدأ بخفضها لتنشيط الاستثمارات في مصر

وتوقع البعض توقف حركة الملاحة في قناة السويس في حال إغلاق مضيق باب المندب والتهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، مما سيؤثر على إمدادات الغاز وسلاسل الإمداد، بالإضافة إلى الآثار السلبية على اتفاقيات التعاون الاقتصادي بين مصر وشرق آسيا ومنطقة الخليج.

استنفار الحكومة استعدادا لتحديات الحرب

سارعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ إجراءات احترازية وخطوات فورية وحازمة لإدارة الأزمة وتحديات حرب إسرائيل وإيران. وقد أعلن الرئيس مدبولي توافر منتجات تموينية تكفي لمدة ستة أشهر، مطالبا المواطنين بتخفيف استهلاك الكهرباء، وقد تضطر الحكومة للعودة إلى خطة الجدولة لتقليل الأحمال مرة أخرى.

تشهد البلاد الآثار المباشرة وغير المباشرة للأحداث في المنطقة، لا سيما بسبب تداعيات حرب غزة وما نجم عنها من توقف للملاحة في قناة السويس، مما قلص إيرادات مصر من النقد الأجنبي واحتياطي البلاد ودخلها من مرفق القناة، إذ بلغت الخسائر سبعة مليارات دولار.

رويترز
أعلام إيرانية وتبدو من خلفها النيران والدخان في منشأة نفطية في طهران، قصفتها الطائرات الإسرائيلية، 15 يونيو 2025

مع استمرار هذه الآثار، تعتزم الحكومة من خلال خطة سريعة العمل على جذب استثمارات جديدة، بالإضافة إلى رفع معدلات الفائدة لثني "الأموال الساخنة" عن الهروب، بعد أن كان المصرف المركزي قد بدأ بخفضها لتنشيط الاستثمارات في مصر. ناهيك عن الآثار السلبية على شركات الغاز والشركات المتداولة في البورصة وشركات الأسمدة والأسمنت، مما يؤثر على تصديرها إلى الخارج، وتاليا على إيرادات مصر. تضاف إلى ذلك الرسوم الحمائية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على المواد الأساسية مثل الحديد والصلب والألمنيوم، وتلك القطاعات من المواد الأساسية التي تُتداول في البورصة المصرية.

حققت عقود الغاز المسال المسبقة وفرا ماليا ضمنيا بنحو 640 مليون دولار على الرغم من ارتفاع الأسعار الفورية. وذلك مع احتمال ارتفاع سعر برميل النفط فوق 100 دولار، مما قد يزيد أعباء فاتورة الاستيراد في حال غياب تعاقدات تحوط

الدكتور محمد فؤاد، خبير مالي

تُعتبر مصر من الدول المعرضة للتأثر سلبا وبصورة سريعة، وسيكون ذلك سلبيا جدا في حال عدم الحصول على إمداد خارجي بقرض أو باستثمارات في الدولة، اضافة الى استخدام الموارد الداخلية بطريقة مُثلى.

فجوة التمويل 22 مليار دولار

في إطار خسائر مصر من الطاقة، أكد الخبير المالي والاقتصادي الدكتور محمد فؤاد لـ"المجلة" أن توقف إمدادات غاز الخطوط من إسرائيل إلى مصر "تسبب في فقدان 800 مليون قدم مكعب يوميا، مما ضغط على محطات الكهرباء وصناعات الأسمدة". وألمح فؤاد إلى أن عقود الغاز المسال المسبقة "حققت وفرا ماليا ضمنيا بنحو 640 مليون دولار على الرغم من ارتفاع الأسعار الفورية". وأشار إلى أن أسعار النفط مرشحة للارتفاع فوق 100 دولار للبرميل، مما قد يزيد أعباء فاتورة الاستيراد في حال غياب تعاقدات تحوط فاعلة، لافتا إلى أن استمرار تدفق الأموال إلى أدوات الدين مرهون باستقرار الأوضاع، مع ترقب الأسواق لمؤشرات الأخطار السيادية مثل مؤشر "جي. بي. مورغان" للأسواق الناشئة "إي.أم.بي.آي." للديون ذات العائد المرتفع".

رويترز
مصنع للغاز المصري كما يبدو من طريق السويس الصحراوي خارج القاهرة

كما ألمح فؤاد إلى أن الضغوط المتوقعة على قناة السويس والسياحة والواردات النفطية قد تؤدي إلى مزيد من تراجع العملة الى نحو 52 جنيها في مقابل الدولار. وقدر الفجوة التمويلية السنوية بين 20 و22 مليار دولار، مع احتياجات تمويلية إجمالية تفوق 40 في المئة من الناتج المحلي، وهي من الأعلى عالميا. ولفت إلى أن أي توسع في مؤشر "إي. إم. بي. آي." قد يرفع تكلفة الاقتراض ويؤجل إصدار الصكوك والسندات المخطط لها بقيمة تتراوح بين 3,5 و5 مليارات دولار والتي أعلنتها الدولة قبل بدء الحرب.

وأوضح فؤاد أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر مرشحة للتراجع بنسبة 20 إلى 25 في المئة على أساس ربعي "ما لم يتحسن الوضع الأمني قبل نهاية الربع الثالث من السنة المالية المقبلة".

يفرض ارتفاع سعر النفط تكلفة أكبرعلى الموازنة المصرية والقطاع الصناعي، وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف النقل والتوزيع

وتوقع انخفاض الحجوزات السياحية الصيفية بين 10 و15في المئة، خصوصا من أسواق ألمانيا وبولندا والخليج. وهناك توقعات تتحسب لأي تعطل في مضيق هرمز أو البنى التحتية النفطية، مما يؤدي إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد، فمصر تستورد جزءا كبيراً من الطاقة والمنتجات الأساسية والقمح.

ويفرض سعر النفط المرتفع تكلفة أكبر على الموازنة الحكومية والقطاع الصناعي، خصوصا الضغوط التضخمية التي تتمثل في ارتفاع أسعار الطاقة والتي تترجم إلى زيادات في تكاليف النقل والتوزيع، مما ينعكس على أسعار المنتجات الأساسية، وبالتالي يفاقم أزمة التضخم المستمرة.

تحوط نفطي لتأمين الكهرباء

من جهتها، أشارت أستاذة الاقتصاد والطاقة في جامعة قناة السويس الدكتورة وفاء علي في حديث لـ"المجلة" إلى أن مآلات المشهد "تشير إلى أن هناك آثارا مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد العالمي وأسواق الطاقة، خصوصا الدول المستوردة للنفط والغاز، فالسلعتان ليستا سلعتين تجاريتين عاديتين وإنما تدخلان في كل القطاعات". وقالت: "على المستوى المحلي، كانت مصر قد تعاقدت على 50 إلى 60 شحنة تغويز للغاز بعقود بعيدة الأجل حتى عام 2026 قبل الحرب بين إسرائيل وإيران، حتى لا تلجأ إلى تخفيف الأحمال في فترات شدة الحرارة في الصيف. 

ومع استشعار خطر المواجهة الإسرائيلية الإيرانية، لجأت إسرائيل إلى إبلاغ مصر بإغلاق حقل ليفياثان بشكل موقت وانخفاض كميات الغاز الموردة إلى مصانع الأسمدة. لذلك بات الاقتصاد المصري على موعد لاستقبال آثار العوامل الضاغطة لارتفاع أسعار الطاقة الذي سيؤثر سلبا على الأسعار داخليا".

من الناحية الاستراتيجية، لفتت علي إلى أن الحكومة المصرية "رفعت درجة الجاهزية باستخدام خطة الطوارئ برفع استهلاك محطات الوقود من المازوت ووقف إمدادات الغاز لبعض الأنشطة الصناعية". وألمحت إلى وجود ثلاث سفن تغويز مرتبطة بشبكة الكهرباء بقدرة تصل إلى ألفين و250 قدما مكعبة يوميا، بالإضافة إلى تشغيل بعض المحطات بالسولار عوضا عن الغاز والاستعداد لربط سفينتي تغويز أخريين في نهاية الشهر الجاري.

ينحصر الأثر الحالي في ارتفاع أسعار النفط والغاز التعاقدي وارتفاع تكاليف النقل البحري نتيجة الأخطار المحيطة بالمنطقة. وبالتالي الأثر سلبي اقتصاديا، وفي حال اغلاق مضيق هرمز سيتفاقم الأمر

الدكتور مدحت يوسف، نائب رئيس هيئة البترول المصرية الأسبق

أما بالنسبة للنفط، فأفادت "بأن هناك استمرارا لسياسة التحوط النفطي ولن تتحمل الموازنة العامة للدولة أعباء إضافية طالما لم يتجاوز سعر البرميل 82 دولارا، وهو السعر المقوم في الموازنة، فأي دولار زيادة على الـ 82 دولارا يحمل الموازنة أربعة مليارات جنيه (80,5 مليون دولار)".

خطر إقفال مضيق هرمز والبحث عن بدائل

أشار خبير البترول ونائب رئيس هيئة البترول المصرية الأسبق الدكتور مدحت يوسف إلى أن الحرب الإسرائيلية الإيرانية الراهنة بأوضاعها المتوترة وإمكان استمرارها وتبعاتها على دول المنطقة والعالم، نظرا للتميز الجغرافي لإيران وقدرتها على إغلاق مضيق هرمز، "أثرت في مصر بشكل واضح وسريع".

وقال لـ"المجلة": "لجهة تأمين مصر لاحتياجاتها من النفط لتشغيل مصافي التكرير، هناك تعاقدات بعيدة الأجل مع الكويت بشروط ميسرة للتسديد، وتعاقد مع العراق وآخر مع 'أرامكو السعودية' وغالبية هذا النفط مصدره الخليج العربي ومساره من خلال مضيق هرمز". كذلك نبه إلى تعاقدات مع "ترافيغورا" و"أرامكو" و"شل" و"توتال" على توريدات الغاز المسال، وقد يكون أحد تلك التعاقدات من خلال قطر أو الإمارات العربية المتحدة بمعنى أن مسارها من خلال الخليج العربي أيضا. وينحصر الأثر الحالي في ارتفاع أسعار النفط والغاز التعاقدي وارتفاع تكاليف النقل البحري نتيجة الأخطار المحيطة بالمنطقة. وبالتالي الأثر سلبي اقتصاديا، وفي حال اللجوء لغلق مضيق هرمز سيتفاقم الأمر، "لذلك هناك ضرورة للبحث عن بدائل نفطية بديلة بشكل سريع وهذا سيمثل عبئا اقتصاديا كبيرا ومؤثرا".

أ.ف.ب
منصة حقل الغاز الطبيعي "ليفياثان" الإسرائيلي في البحر الأبيض المتوسط ​​ قبالة حيفا، 29 أغسطس 2022

وفي إشارته إلى إغلاق إسرائيل حقل "ليفياثان" للغاز بسبب الأحداث الجارية وبمعدل خفض يصل إلى 750 مليون قدم مكعبة غاز يوميا، قال: "هذا لا يمكن تعويضه من مصادر أخرى لمحدودية مراكب إعادة التغويز المتاحة حاليا، وكذلك المتعاقد عليها حتى يوليو/تموز 2025. وإذا استمرت الأمور على أوضاعها الحالية فلا مفر من الاستعاضة بالمازوت وقودا لمحطات الكهرباء وهو الأقل كفاءة بمقدار النصف وأسعاره قريبة من أسعار الغاز الطبيعي المسال، وبالتالي يتطلب ذلك تمويلا إضافيا لارتفاع تكلفته عن تكلفة استيراد الغاز الطبيعي الإسرائيلي الأقل سعرا".

font change

مقالات ذات صلة